أمد/
ظلّت حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل حقلًا شائكًا للاشتباك بين قوى الإسلام السياسي والقوى المحافظة بمختلف توجّهاتها، وبين القوى الأخرى بتيّاراتها المختلفة أيضًا، وكان هذا الموضوع مثار جدل طويل في الفقه الديني، لاسيّما الإسلامي، وقد كانت حصته كبيرة منذ بداية تأسيس الدولة العراقيّة في العام 1921، حيث تصدّرت معركة السفور والحجاب وتعليم المرأة عناوين السجال الدائر في هذا الحقل.
والأمر لا يتعلّق بالعراق فحسب، بل أن الإشكالية تمتدّ إلى جميع البلدان الإسلامية، وإن بدرجات متفاوتة، فكلّما اقتربت الدولة من مفاهيم الحداثة تقدّمت فيها مسألة تحرّر المرأة، وإن ببطيء وبشكل نسبي قياسًا للدول الأخرى التي تعثّرت فيها الحداثة، فواجهت المرأة الكثير من التعقيد والعقبات والتحدّيات أمام تحرّرها ومساواتها.
لعلّ الوضع الأكثر صعوبة هو زاوية النظر إلى موضوع الشريعة الإسلامية، أو ما يُصطلح عليه موضوع أحكام الفقه، وهذا هو الأدق، وعلاقة ذلك بمفهوم الدولة العصريّة. فالدولة الحديثة، بغضّ النظر عن نظامها الاجتماعي، تسعى لتمثيل مواطنيها دون تمييز بسبب دينهم أو عرقهم أو جنسهم أو لغتهم أو لونهم أو أصلهم الاجتماعي، سواءً كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين، متديّنين أو غير متديّنين.
المرأة والدولة العصرية
وقد لجأت الدولة العصريّة في عالمنا الإسلامي إلى التكيّف مع متطلّبات الحداثة، منذ الإرهاصات الأولى في مطلع القرن العشرين، لاسيّما الجدل حول “المشروطة” و “المستبدّة”، وقبله ناقش مصلحو النهضة الأوائل مثل رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبدة ومحمد حسين النائيني وغيرهم، فكرة نظام الحكم ومدى انسجامه مع معايير التطوّر الكوني، الدستوري والقانوني، دون التخلّي عن أحكام الإسلام.
وحين طرقت الحداثة أبواب العراق “الجديد”، المنسلخ عن الدولة العثمانية، كانت البداية صياغة دستور متقدّم بمعايير ذلك الزمن (1925)، وبدأت قبله ومعه وبعده إرهاصات قضيّة المرأة، حيث انشطرت النخب إلى فريقين، الأول – مؤمن بالتحرّر، ومنفتح على الجديد؛ والثاني- محافظ، ومنغلق على التقاليد البالية والأعراف التي أخذ الزمن يتجاوزها، وهنا يمكن استحضار قصيدة الجواهري الكبير “الرجعيون” (1929)، بخصوص تعليم الفتيات، حيث اعترض بعض العاملين في الحقل الديني في النجف على افتتاح مدرسة للبنات، التي يقول فيها:
غدًا يُمنعُ الفتيانَ أن يتعلّموا
كما اليومَ ظلماً ستُمنع الفتيات
تحكّم باسمِ الدينِ كلٌّ مذمم
ومُرتكب حفّتْ به الشُبُهات
وما الدينُ إلاّ آلة يَشهَرونها
إلى غرضٍ يقضُونه، وأداة
كان نظام المحاكم الشرعية (الدينية) لأتباع الأديان والطوائف هو المتّبع، لكنه ما بعد الحرب العالمية الثانية والانفتاح نحو الحداثة، بدأت بعض التململات لتنظيم قانون موحّد، تندرج فيه الأحكام الإسلامية المتعلّقة بالأحوال الشخصيّة، لكنّ تلك المحاولة لم يُكتب لها النجاح، إذْ رفض البرلمان العراقي (1945) إمراره، على الرغم من أن أحكامه وُضعت على وفقًا للطائفتين الإسلاميّتين (الشيعيّة والسنيّة).
القانون رقم 188 ومناهضوه
تكفّلت ثورة 14 تموز / يوليو 1958 إحياء هذا القانون، فاعتمدت تشريعًا برقم 188 لعام 1959، جمعت فيه الأحكام الشرعية العامة، ليكون مرجعيّةً لهذا التشريع، الذي أثار ضجّةً كبرى ضدّها، وكان القانون أحد أسباب الإطاحة بها، خصوصًا وأن موضوع المساواة في الإرث أثار حفيظة العديد من الأوساط الدينية والتيّارات الإسلامية الجديدة، التي نشأت وكأنها ردًّا على موجة الحداثة التي شملت المجتمع العراقي بجميع مفاصله، ليس في موضوع المرأة فحسب، بل في مجالات السينما والمسرح والموسيقى والغناء وغيرها.
وكان لمعارضة آية الله السيّد محسن الحكيم للقانون سيكون له دورًا كبيرًا في تعبئة أجزاء من الشارع العراقي ضدّه، علمًا بأنه سبق له أن عارض المشروع الملكي القديم، الذي عُرض عليه فرفضه رفضًا قاطعًا، حسب حواري في دمشق (1986) ولندن (أوائل التسعينيات) مع الفقيه الشاعر السيّد محمد بحر العلوم، وهو ما جاء عليه في كتاب بعنوان “أضواء على قانون الأحوال الشخصية العراقي” (1963)، وكما جاء في حديث بحر العلوم، أن الحكيم سبق له أن تحفّظ على قانون الإصلاح الزراعي لاعتبارات (شرعيّة)، مثلما انتقد محاولة ضمّ الكويت في العام 1961، ووقف ضدّ شنّ الحرب على الشعب الكردي.
رابطة المرأة
إن قانون الأحوال الشخصية لعام 1959 هو جهد متراكم لأنشطة رابطة المرأة العراقية، على مدى نحو عقد من الزمن منذ تأسيسها في العام 1952، وقد ساهمت الدكتورة نزيهة الدليمي، الوزيرة في حينها وهي أول وزيرة عربية، بإقناع عبد الكريم قاسم بمقترح القانون، الذي لم يتراجع عنه على الرغم من الضغوط التي تعرّض لها، حتى أن بعض القوميين والبعثيين المناوئين لقاسم، وقفوا وراء السيّد الحكيم، ونشروا فتواه “الشيوعية كفر وإلحاد”، بزعم أن فكرهم القومي يقوم على الإيمان وليس الإلحاد.
وأتذكّر أن الصديق حميد المطبعي، الذي بدأ أولى خطواته في حزب البعث، هو من قام بخطّ تلك العبارة التي سرت مثل النار في الهشيم على العديد من جدران أزقّة النجف، وعلى جدار منزله بالذات، الذي لا يبعد سوى أمتار عن منزل المرجع الإسلامي الكبير السيّد الحكيم.
ومن الأسباب الموجبة لقانون الأحوال الشخصية: لم تكن الأحكام الشرعية للأحوال الشخصية قد شرعّت في قانون واحد، يجمع من أقوال الفقهاء ما هو المتفق عليه والأكثر ملائمة للمصلحة الزمنية، وكان القضاء الشرعي يستند في إصدار أحكامه الى النصوص المدونة في الكتب الفقهية، والى الفتاوى في المسائل المختلف عليها وإلى قضاء المحاكم في البلاد الإسلامية. وقد وجد إن في تعدد مصادر القضاء وإختلاف الأحكام، ما يجعل حياة العائلة غير مستقرّة، وحقوق الفرد غير مضمونة، فكان هذا دافعاً للتفكير بوضع قانون يجمع فيه أهم الأحكام الشرعية المتفّق عليها. وقد اشتمل القانون على أهم أبواب الفقه في الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية الجامعة لمسائل الزواج والطلاق والولادة والنسب والحضانة والنفقة والوصية والميراث.
الحريّات الشخصية
ظاهرتان مترابطتان شهدتهما الدولة العراقية، الأولى – اتّجاهها أكثر فأكثر نحو الحداثة، وبالتدريج والتراكم؛ والثانية – نشوء نقيض الحداثة، لاسيّما بانتعاش تيّار الإسلام السياسي بالضدّ منها. وبقدر ما كانت دائرة الحريّات الشخصيّة والتمرّد على التقاليد البالية تتّسع وتتعمّق، كانت الاتجاهات المحافظة تنمو في معارضتها، وخصوصًا بشأن المرأة التي بدأت تشارك في العمل والحياة العامة، فخلال الأعوام الأولى ما بعد ثورة تمّوز / يوليو 1958، ارتفعت نسبة الإناث في المدارس إلى أكثر من ثلاثة أضعاف مما كانت عليه، والأمر انعكس على ميادين متعدّدة، على الرغم من أن ثمّة كوابح واجهتها، فبعد انقلاب 8 شباط / فبراير 1963، تمّ تعديل قانون الأحوال الشخصيّة بما يُضعفه، وكان ذلك بمثابة غزل مع التيّار الديني والقوى المحافظة الأخرى.
الميني جوب
تحت عنوان محاربة الميوعة لدى الشبان والخلاعة لدى الشابات، استخدم وزير الداخلية، الفريق صالح مهدي عمّاش، القانون لدهن سيقان الفتيات بالطلاء الأسود وحلق شعور الفتيان كجزء من العقاب على الملبس والمظهر، وهو ما دعا الشاعر الجواهري لأن يكتب قصيدةً إلى عمّاش، ذاع صيتها، تحت عنوان “رسالة مملّحة”، وهي التي اشتهرت باسم “الميني جوب”، والتي يقول فيها:
نُبئتُ انكَ توسعُ الأزياء عتاً واعتسافا
وتقيس بالأفتار أردية بحجة أن تنافى
ماذا تنافي، بل وماذا ثمَّ من أمر ٍ يُنافى
أترى العفافَ مقاسَ أردية ٍ، ظلمتَ إذاً عفافا
هو في الضمائر ِ لا تخاط ُ ولا تقصُّ ولا تكافى
من لم يخفْ عقبى الضمير ِ ، فمنْ سواهُ لن يخافا
وما قصيدة الجواهري، إلّا التعبير الملطّف لرفض التوجّهات المحافظة، التي تريد النَيْل من الحريّات الشخصية، وخصوصًا حقوق المرأة، سواء من جانب المؤسسة الرسمية أم المؤسسات الدينية الإسلامية بتناغمها مع مثل هذه التوجّهات، التي تناهض الحداثة تحت عناوين مختلفة.
السبعينيات
وعلى الرغم من أن العراق شهد تطوّرًا ملحوظًا في السبعينيات لصالح المرأة وحقوقها، وخصوصًا في العام الدولي للمرأة (1975)، حيث أصدر عددًا من التشريعات في المجالات المختلفة، مثلما انضمّ إلى العديد من الاتفاقيات الدولية، التي تصبّ في هذا الاتجاه، إلّا أن الحروب التي دخلها (الحرب العراقية – الإيرانية وحرب قوّات التحالف والاحتلال الأمريكي، وما تبعه من طائفية وإرهاب، بما فيه الحرب ضدّ تنظيم القاعدة وداعش)، وفترة الحصار الدولي التي فُرضت عليه لمدّة 12 عامًا، ابتلعت تلك المنجزات التي تحقّقت، بل شهدت فترة التسعينيات قرارات صادرة عن مجلس قيادة الثورة، تنتقص من حقوق المرأة، بما فيها “قوانين غسل العار”، فضلًا عن انتعاش العشائرية بوجهها السلبي، وانحسار مظاهر المدنية التي عرفتها الدولة لصالح البداوة والقرويّة، خصوصًا في التعامل مع المرأة، تلك الأمرو التي تراجعت على نحو كبير بعد العام 1958، لكنّها عادت بقوّة في فترة الحصار الدولي وبتشجيع من حزب البعث الحاكم نفسه، تارة باسم الحملة الإيمانية، وأخرى التوقيع بالدم ولاءً للنظام.
الاحتلال وما بعده
أعاد الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003 إلى الواجهة الخلافات الحادّة بشأن الموقف من المرأة وحقوقها ودورها، فازدادت حالة الأخذ والردّ والدفع والجذب، على الرغم من أن الدستور الدائم (2005)، اشترط كوتا نسائية لا تقلّ عن 25%، وهو أمر إيجابي، لا بدّ من العمل على تحسينه باختيار أفضل النماذج، وليس وفقًا للولاءات الحزبية الطائفية والإثنية الضيّقة.
واتخذ الصراع بخصوص المرأة منحى دستوريًّا وقانونيًّا أيضًا، وصل ذروته يوم أعلن وزير العدل العراقي الأسبق حسن الشمري إنجاز مشروع قانونيْ الأحوال الشخصيّة الجعفري، والقضاء الشرعي الجعفري، وأحالهما بدوره إلى مجلس شورى الدولة، وقال أن هذا الأخير اقتنع بهما تمهيدًا لعرضهما على مجلس الوزراء لإقرارهما، وبدوره سيرفعهما الأخير إلى البرلمان لمناقشتهما وإقرارهما، وأشار إلى أنهما ينطلقان من الدستور. وكما هو معلوم فإن المادة المشار إليها، يوجد عليها الكثير من الاعتراضات، ولنتعرف على ما تقوله هذه المادة: “العراقيون أحرارٌ في الالتزام بأحوالهم الشخصيّة، حسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم، وينظم ذلك بقانون”.
وقد أثار نشر خبر مشروعي القانونين موجة واسعة من الآراء ووجهات النظر المتناقضة، حول قوانين الأحوال الشخصيّة، حيث لا تزال الذاكرة العراقيّة، وخصوصًا القانونيّة والسياسيّة، طريّة، وتحتفظ بسجالات وصراعات حادّة، امتدّت طيلة عقود من الزمن وصاحبها إشكالات وانقلابات وتراجعات، ولا تزال ذيولها مستمرّة حتى الآن، وهي تنام وتستيقظ بين الحين والآخر، كما أشرت في كتابي “دين العقل وفقه الواقع”.
الجدير بالذكر أن الصراع تجدّد بين التيار الإسلامي والمحافظ من جهة، وبين القوى الأخرى بعد الاحتلال الأمريكي للعراق من جهة ثانية، حيث جرت محاولات في مجلس الحكم الانتقالي لإلغاء قانون الأحوال الشخصيّة رقم 188 لعام 1959، ومن المفارقة أن يكون المجلس المذكور قد وافق على القانون الجديد، رقم 137 لعام 2003، الذي شكّل خلفيّة مرجعية لقانون الأحوال الشخصيّة الجعفري، لكن بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق، رفض المصادقة عليه بحكم صلاحياته، حيث لا تعتبر قرارات مجلس الحكم الانتقالي نافذة، إلّا بعد مصادقة بريمر عليها، وأعاده إلى المجلس لمناقشته، ومن ثمّ التصويت عليه، وهنا حصلت المفارقة الثانية، حين لم يحظَ بالأغلبيّة التي حصل عليها قبل اعتراض بريمر عليه، وهو ما يذكره بريمر في كتابه “عام قضيته في العراق” (2006).
ما أشبه اليوم بالبارحة
وما أشبه اليوم بالبارحة، حين تبنّى النائب رائد المالكي مقترح تعديل قانون الأحوال الشخصية باسم كتلة الإطار التنسيقي المتنفّذة، وهو تعديل يقضي إلى قانون موازي ينتقص من وحدانية القانون وتطبيقه على الجميع، بما يقلّص من شرعية الدولة ويحوّل جزء من سلطتها إلى الفقهاء، في قضايا الزواج والطلاق والميراث والنفقة والحضانة وما سواها، ويترتّب على ذلك أن الفقيه وشيخ العشيرة وربّ الأسرة دورًا موازيًا لدور الدولة المسؤولة الأولى والأساسية قانونيًا عن تنظيم شؤون الأحوال الشخصية، ومسؤوليتها فوق مسؤولية الجميع، وهي وحدها ودون سواها من له الحق في إصدار القوانين والأحكام وتطبيقها على نحو موحّد وعلى جميع المواطنين المتساوين أمام القانون في الحقوق والواجبات.
المشروعية القانونية
ثمّة في الدول مشروعية قانونية واحدة، تقوم على سياق واحد، وقانون واحد، وليس سلطات متوازية في موضوع الأحوال الشخصية أو غيرها، وهو ما سيخلق ازدواجية في المشروعية، ويقود إلى تعارضات تؤدي إلى المزيد من انقسام المجتمع على أساس طائفي أو إثني، وتلك من مخرجات نظام المحاصصة الطائفي – الإثني ما بعد الاحتلال، وهي ازدواجية عرفها العراق في العهد الملكي بحكم الامتيازات التي أراد البريطانيون أن يمنحونها لشيوخ العشائر، فشرعوا قانونًا في العام 1916، حتى قبل استكمال احتلالهم للعراق، الذي عُرف باسم “قانون دعاوى العشائر”، والذي استمرّ موازيًا للقانون المدني العراقي الذي أعدّه الفقيه الكبير عبد الرزّاق السنهوري في العام 1951. وكان من أولى القرارات التي اتّخذتها الثورة، وهو إلغاء قانون دعاوى العشائر واستعادة وحدانية القانون، الذي يُطبّق على الجميع.
لعلّ العيش المشترك سيتأثّر كثيرًا حين توضع الألغام في قانون يقسّم المجتمع والعوائل العراقية إلى هوّيات مذهبية وطائفية مغلقة ومنعزلة، في حين أن الدولة ينبغي أن تقوم على المواطنة المتكافئة والمتساوية. وعقود الزواج هي التي تحدد حقوق وواجبات الزوجين، وليس سلطة الفقيه أو المذهب، وتلك هي إحدى سمات الحداثة في الدولة العصرية.
نُشرت على حلقتين في جريدة الزمان (العراقية) في 11 و 15 أيلول / سبتمبر 2024.