أمد/
في ثنايا الزّمن، يتلاشى الوقت كحلم عابر، بينما يظلّ الإنسان الفلسطينيّ في قلب المعاناة، يبحث عن الحياة قبل أن يرحل خفيفا؛ كقارب يعاند الموج.
وحده الفلسطينيّ يتقن فنّ التّحليق من الموت إلى الحياة، باحثا عن خلاصه وسط ضبابيّة المشهد، وإنسانيّة الإنسان، يمرّ في “ممرّات هشّة”، سائرا في دروب الحياة، لتصبح الكتابة عنها طوق نجاة، ونافذة يطلّ منها على أمل يصبو إليه.
“ممرّات هشّة”، رواية للأديب عاطف أبو سيف، يسردها علينا بخيوط الذّاكرة والذّكريات، محوّلا إيّاها إلى رحلة وجوديّة مؤرّقة، تتجسّد بين طيّاتها صرخة الرّوح المتلهّفة للخلاص، المتحدّية لقيود الزّمان والمكان، الباحثة عن معنىً أعمق في لحظة استيعاب حقيقة الحياة والموت.
العنوان “ممرّات هشّة”.. كرمز، تحليل، ودلالات:
تتجاوز هذه الرّواية حدود السّرد التّقليديّ، فهي رحلة داخل الذّات، العنوان ذاته، “ممرّات هشّة” يفتح آفاقا للتّأويل، يرمز إلى الصّراع الدّاخليّ الّذي يعيشه الإنسان في ظلّ التحدّيات بين رغباته ومخاوفه، وبين آماله وإحباطاته. وبذلك، فهو يعبّر عن جوهر الرّواية بشكل مختصر وواضح، ملخّصا فكرتها الرّئيسية بعبارة بسيطة.
كلمة “ممرّات” تشير إلى المسارات الحياتيّة الّتي يسير فيها الإنسان، تلك الممرّات والدّروب المتعرّجة التّي قد تكون شائكة أحيانا، متشعّبة ومعقّدة. هذه الممرّات ليست ثابتة، بل هي في حالة تغيّر مستمرّ، تتأثّر بالظّروف المحيطة والقرارات الشّخصيّة.
أمّا “هشّة” فهي صفة، تعكس هشاشة الحياة البشريّة وعدم استقرارها، وقدرتها على التّبدّل والتّغيّر والانهيار في أيّ لحظة، إذ يمكن لأحداث صغيرة أن تغيّر مجرى الأمور بشكل جذريّ.
الأحداث، بين الذّكريات والواقع:
تقع هذه الرّواية في مئتين وثلاثين صفحة، وفي عشرين عنوانا مختلفا، يبدأ السّرد فيها بخبر موت “زهدي” الثمّانينيّ زوج السّيّدة “هدى” الثمّانينيّة، ناظرة مدرسة الإناث في المخيّم سابقا، فتتشابك الأقدار وتتقاطع المسارات في حكايتها بعد رحيل زوجها فجأة، وهو جالس في دكّان الحارة في المخيّم.
يقع الخيار على الجار الشّاب؛ ليحمل لها ذلك النّبأ المفجع، فتكون صدمتها كالسّهم الّذي اخترق قلبها، بعد أن فقدته في لحظة غير متوقّعة، فقد خرج صباح ذلك اليوم ولم يخبرها بمغادرته، ولم يودّعها بنظرة أو كلمة، ذلك النّهار الأخير من عمره، خلا من تلويحة وداعٍ أو همسة حبّ أخيرة.
تُعيد الصّفحات إحياء ذكريات عزيزة عليها، منذ أن تلاقى قلبها قبل ستّين عاما بزوجها زهدي، حين كانا طالبين يافعين في رحاب الجامعة، فنما الحبّ بينهما كزهرة فوّاحة، وأثمر بالزّواج والأبناء والأحفاد، وبعد موته، تحوّل هذا الحبّ إلى نهر جارف من الذّكريات.
أمّا الجار الشّاب، صيّاد السّمك الأربعينيّ، فشرد في متاهات الذّاكرة بحثا عن ذكريات تعيد إليه دفء الماضي، فلم يجد سوى فتات متناثرة.
ظلّ يعيش على ذكرى حبيبته “ياسمين”، تلك الفتاة الّتي سكنت قلبه منذ أن التقيا في نابولي، ورغم غيابها لسنوات طوال، منذ أن افترقا بسبب رفض والدها له، إلّا أنّها بقيَت عالقة في ذاكرته.
أخذ يرافق السيّدة هدى في وحدتها، ليغدو جليسها في منزلها الّذي تعتني فيه بالحديقة وما فيها من أشتال وأشجار، وفاءً لزوجها الغائب. ومع السّطور نستكشف صفحات حياتها، من طفولة بريئة إلى أيّام الدّراسة الجامعيّة، ثمّ قصّة حبّها لزهدي الّتي توِّجَت بالزّواج، فتتشابك هذه الممرّات وتتقاطع مع أخرى؛ لتأخذنا في رحلة إلى أسرتيهما، بين دروب الذّاكرة وأزقّة الحنين، وإلى يافا البعيدة في الذّاكرة، حين لجأت أسرتا هدى وزهدي إلى المخيّم، هربا من النّكبة وويلاتها.
في رحيل أسرة زهدي، “حملت النّكبة العائلة على قارب متهالك جنوبا، فظلّ البيت المجاور للبحر يطلّ بحزن على أصحابه وهم يغادرون أكنافه، تركت الأمّ النّوافذ مشرّعة على الشّارع، والسّتائر تتطاير مثل أوشحة الحزن، وظلّ القارب يصارع الغرق لينجو” (ص 107).
أمّا أسرة هدى، فبعد النّكبة “توزّعت بين شمال وجنوب، وبين حدود وحدود، والرّيح رمت البلاد بعصفها، وبعثرت الأحلام والأمنيات” (ص34).
الذّاكرة: نافذة على الماضي والحاضر، وأداة لبناء المكان:
إنّها لحقيقة مُسلّم بها أنّ الذّاكرة، وإن كانت سِجِلًّا للأيّام، إلا أنّها ليست كتابا مفتوحا يطالعه المرء متى يشاء، وكما يقول النّاقد الفرنسيّ “جورج ماي”، فإنّ الذّاكرة تخون صاحبها أحيانا، فهي انتقائيّة في طبعها، تختار ما تبقي وما تهمل.
لقد انتقى أبطال الرّواية من خزائن ذكرياتهم حكايات مختارة، كجواهر ثمينة ليشاركوها مع القارئ في رحلة بين طيّات الزّمن، حيث تتراقص الأحداث والمشاعر، وتتداخل الأحلام بالواقع في لوحة مفعمة بالحياة، تلاشت فيها الحدود بين الحقيقة والخيال، وتوحّد فيها الكاتب والقارئ معا، في رحلة استكشافيّة مشتركة، يواجهان فيها الحزن، الّذي خيّم على أروقة الرّواية كرفيق وفيّ، وكظلّ ثقيل يتهادى مع الألم، الّذي تجلّت ملامحه في عينيّ “هدى”، وفي تنهّداتها المنكسرة، وفي صمتها الّذي حمل في طيّاته ألف حكاية، فتشكّلت ذكرياتها كشظايا متناثرة؛ لترسم صورة مبهمة لماضٍ جميل، يذكّرها بالفرقة والفقدان، يتراوح بين أطيافه الأمل وهمسات اليأس، وصدى ضحكة ماضية.
حدّدت هذه المشاعر والإشارات الدّالّة ملامح الحدث، وشيّدت أركان المكان الرّوائيّ بحلّة نابضة؛ لتنبع منه القصص، متدفّقة من سرداب الماضي البعيد، ومن حاضر المخيّم، الّذي ظلّ بلا اسمٍ حتّى النّهاية، كأنّه مسرح لحياة تجاوزت حدود الزّمان والمكان، تقاطعت فيه الوقائع وقصص نموّه العشوائيّ، حيث كبرت البيوت دون حدود، لتعكس أحلام وآمال كلّ من لجأ إليه. وشيئا فشيئا، أخذ التّغيير والتّوسّع يطاله في كلّ مكان، بعد وفود السّكان إليه من عشرات القرى والمدن، ليشكّلوا معا حارة جديدة بهويّة جديدة، وتجمّعا بشريّا كبيرا، فالحارة أصبحت حارات، كلّ حارة منها تضمّ بين جدرانها أناسا مختلفين، اجتمعوا من شتّى بقاع الوطن في هذا المكان، الّذي أصبح موئلا لآمالهم وأحلامهم.
يقول الكاتب: “أمّا المخيّم فهو “قصّة مختلفة، لا وصف لها في تكوينات التّجمّعات البشريّة” (ص36). ويقول (ص35): “تحوّلت الخيام إلى بيوت مغطّاة بالقرميد، ثم بالإسبست والزّينكو، بعد ذلك صارت بنايات من طابقين أو ثلاثة”.
في خضمّ الحدث، تجسّدت الحياة الغزّاويّة كحلم عائد من غياهب الذّاكرة، بمقاهيها الصّاخبة، ومطاعمها وبيوتها المتراصّة، أزقّتها المتعرّجة، أحياؤها النّابضة، وشوارعها الّتي شهدت على نبض الحياة فيها، كلّها تكشّفت كلوحة زاهية من الألوان والأحاسيس، تداخلت فيها الأزمنة وقصص الهجرة والنّكبة واللّجوء. ويبقى البحر بموجاته المتلاطمة، رمزا للتّغير والقدر المحتّم، وبين ثنايا النّصّ، نستنشق نسيم شاطئه في صيفه الحارّ، ونصغي إلى حكايات المصطافين الّتي تعلو فوق هدير الأمواج، وفي كلّ زاوية تتجلّى بساطة الحياة.
حياة بعيدة عن التّرف، قريبة من الطّبيعة والقناعة والرضا. وخلف هذه الصّورة، تختبئ جراح عميقة وآلام دفينة، ومع ذلك، ظلّ النّاس يتشبّثون بالحياة والأمل.
من هنا، حضرت عمليّة التّذكّر بين الصّفحات كموتيفٍ رئيسيّ متكرّر، لتحوّل النّصّ إلى جولة في أعماق شخوص العمل وعلاقتهم بالزّمن، فنستشعر تأثير الماضي عليهم وعلى حاضرهم ومستقبلهم، بل وحتّى على أحلامهم وتطلّعاتهم.
تكمن أهمّية هذا الموتيف في قدرته على ربط الماضي بالحاضر، فهو يمنح الفرصة؛ لفهم كيف شكّلت التّجارب الماضية المكان وشخوص العمل، فنتعرّف على الجوانب الخفيّة لهم، دوافعهم ومخاوفهم وآمالهم، ونتأمّل رحلتهم عبر الزّمن.
كما أنّ السّرد الذاتيّ والحوار، واستخدام تقنيّة الاسترجاع (Flashback)، سمحت للذّكريات المتعلّقة بالمكان بالظّهور والاندماج في نسيج السّرد، الأمر الذي ساهم بإضافة طبقات من العمق إلى النّصّ، ما أضفى عليه واقعيّة ملموسة، حين التَحمت الذكّريات مع الأمكنة في لوحة متكاملة، وخلقت إحساسا بالتّدفّق الزّمنيّ، دون أن يشعر القارئ بأيّ خلل أو انقطاع في الأنسجة الزّمنيّة.
الذّاكرة والهويّة الفرديّة والجماعيّة:
يُظهِر الكاتب كيف أنّ أحداث النّكبة لا تزال تلقي بظلالها على حياتنا في الحاضر، وكيف أنّ الصّدمة الجماعيّة لا تزال تؤثّر على الأجيال اللّاحقة، يقول: “النّكبة صبغت كلّ شيء بلونها” (ص38).
تتشابك الذّكريات المؤلمة مع مشاعر الحنين إلى الماضي المسلوب، والشّجن على ما فات، مماّ يضفي على النّص بُعدا عاطفيّا مؤثّرا يلامس أعماق القارئ، ويؤكِّد على دور الذّاكرة الفرديّة والجماعيّة في تشكيل الهويّة، وتتداخل خيوط الماضي بالحاضر في نسيج سرديّ متقن، ليصبح فعل التّذكّر بمثابة نافذة على الأحداث، ومحرّكا أساسيّا لها، منه تتفرّع جميع عناصر العمل، فكلّ ذكرى، مهما بدت ضئيلة، تحمل في طيّاتها قوّة كامنة، تعيد الماضي إلى الحياة في ضوء الحاضر، وتفتح نافذة جديدة على الحقيقة، الّتي تحمل في أعماقها حكايات أجيال بأكملها، وتشهد على أحداث تاريخيّة مهمّة عاشها الأجداد.
إنّ مفهوم الذّاكرة، من أكثر المفاهيم الاجتماعيّة تشعّبا، نظرا إلى المجالات المختلفة الّتي يتّصل بها، فهو يتداخل مع العلم النّفسيّ في دراسة الوعي واللّاوعي، ومع الفلسفة في تحليل مفهوم الهويّة والوجود، ومع السّياسة في تشكيل الذّاكرة الجماعيّة وتأثيرها على الهويّات القوميّة. والذاكرة هي حجر الزاوية في المشروع الرّوائيّ المعاصر، فقد أدرك الرّوائيون العرب أهميّتها في بناء الرّواية، وظّفوها في معالجة القضايا الّتي تشغل بال المجتمعات العربيّة، ومن خلال تقنيّات السّرد المختلفة، قدّموا صورا متعدّدة للحياة العربيّة.
لقد حملت روايات كبار الأدباء العرب، من أمثال نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وغسّان كنفاني، رضوى عاشور والطّاهر وطّار، أمين معلوف وصنع الله إبراهيم وغيرهم، هموم أمّتنا وأحداثها الفارقة، كالنّكبة والنّكسة والثّورة النّاصريّة، لتؤرّخ لتجاربنا الجماعيّة وتخلّدها في الوجدان، كما سلّطت الضّوء على مشاكل الإنسان العربيّ وتطلّعاته، وعبّرت عن آماله وآلامه، وأرّخت أيضا للتّحوّلات الاجتماعيّة والسّياسيّة الّتي شهدتها المنطقة.
يؤكّد د. فيصل درّاج أنّ الذّاكرة والهويّة تشكّلان وحدة واحدة مترابطة بشكل وثيق في الأدب الفلسطينيّ الّذي يعكس التّجربة الفلسطينيّة بكلّ تفاصيلها، تلك الّتي يمثّل فيها التّذكّر أكثر من مجرّد استرجاع للأحداث، فهو وسيلة لمقاومة النّسيان والمحو، والحفاظ على الهويّة الجماعيّة.
كما تكشف الرّواية العربيّة عن عمق ارتباطها بالمجتمع، فهي مرآة عاكسة لقضاياه وهمومه، وتوثيق حيّ لتجاربه المتراكمة، وقد نجحت في أن تكون صوتا للمهمّشين والمظلومين.
إنَّ للأدب وقعا عظيما في صياغة ذاكرة الأمم، فهو قادر على تأكيد واقعها وتاريخها، يكشف عن مواطن انتصاراتها وهزائمها، ويسلّط الضّوء على حركتها عبر الزّمن.
في ” ممرّات هشّة”، عملت الذّكريات على تشكيل شخوص الرّواية وصقلها، مكّنت القارئ من فهم كيف ساهمت التّجارب السّابقة في تكوينهم الحاليّ، وكيف أصبحت هذه الذّكريات جزءا لا يتجزّأ من هويّتهم.
يقول الكاتب (ص38): “الماضي جدار الزّمن السّميك، نعبره فقط بالتّذكّر. يقول أيضا: “الذّاكرة شمعة تضيء طريق بحثنا عنه، لكنّها تلسعنا بشدّة، وتحرقنا في الكثير من الاحيان”.
يشبّه الذاكرة بـ”صنبور يفتح تلقائيّا، نظنّه مغلقا للأبد، فجأة ودون أن ننتبه، تخرج من فوّهته مياه الماضي(ص45). ثمّ يصف تأثير الذّكريات علينا قائلا: “نتألّم وقد نسعد وقد نبكي، وقد نبتسم، ولكن في كلّ الحالات، لا نفعل أكثر من الإصرار على هذا الرّبط بين الماضي والحاضر”(ص46).
يؤكّد على قوّة الذّكريات وألمها، فيقول: “الذّاكرة توجع.. مرّات مش لازم نتذكّر”(ص108)، ولأنّ الذّكريات موجعة، فهي “في نهاية المطاف تحدث غصّة في الرّوح”(ص92)، أو “تحدث رجفة في الرّوح” كما ورد (ص56).
كما يظهر أهميّتها في الحفاظ على الهويّة الجماعيّة، فيقول(ص95): “التعلّق بالتّفاصيل جزء من حرب الدّفاع عن تخوم الماضي”.
يضيف عن الذّكريات الإنسانيّة بشكل عامّ: “إنّها تكبر وتنمو، تتداخل وتتباعد، لكنّها تظلّ أليفة مع ذلك”(ص100).
هكذا، انغمس المؤلّف في بحر السّرد، مستخدما أدواته المتنوّعة؛ كفرشاة فنّانٍ تلوّن لوحته، موظّفا تقنيّة التّذكّر كآلة للزّمن، تنقلنا من حاضر الحكاية إلى ماضيها، لتكشف لنا أسرار شخوصه وأعماقها، ففي خضمّ الأحداث، تتجمّد اللّحظة؛ لتضيء بضوء الماضي، وكأنّها بوصلة تشير إلى انعكاسات الزّمن على وجوه الأبطال، مؤّكدا أنّ “الماضي هو الزّمن الوحيد المحقّق والأكيد”، وأنّ “الشّيء الوحيد الأقدر على إحياء هذا الماضي هو الذّاكرة”، يقول: “نحن نتذكّر، إذن.. نحن نحيي الماضي من رقادِهِ الأبديّ ولو للحظات، إنّها اللّحظات الّتي يتّسع بها منظور الحاضر، ليمتدّ عميقا في الزّمن”(ص105).
إذن، فالذّاكرة في هذا النّص ليست مجرّد أداة سرديّة، بل هي رحلة ذاتيّة، تتغلغل في خبايا النّفس البشريّة وتكشف عن حقيقة هويّتها، فهي “شيء لا نتقصّده، وحين تغزونا لا تطرق الباب، نجد أنفسنا نتذكّر فحسب”(ص 113).
غياب اسم الشّاب والمخيّم.. مفتاح للعمق:
تثير مسألة ذكر اسم المكان والشّخصيّة في العمل الرّوائيّ جدلا بين النّقّاد والباحثين. ففي حين يرى بعضهم أنّ تحديد المكان والشّخصيّة مهمّ لبناء الرّواية وتماسكها، يرى آخرون أنّ إغفالهما قد يكون اختيارا فنّيّا مقصودا، يخدم غايات سرديّة محدّدة.
يساهم ذكر اسم المكان والشّخصيّة في بناء العالم الرّوائيّ، ويساهم أيضا في خلق تصوّر له، وتصوّر لتطوّره التّاريخيّ والاجتماعيّ والثّقافيّ، ممّا يمنح القارئ إطارا مرجعيّا ملموسا، يساعده في تصوّر الأحداث والشّخصيّات في سياقها، والتّعرّف عليها، الأمر الّذي يعزّز انغماسه في القراءة، ويسهّل عليه تصوّر المشهد وتتبّع الأحداث والتّفاعل معها.
قد تحمل أسماء الشّخصيّات دلالات ومعانٍ رمزيّة معيّنة تعكس أدوارهم، وتعزّز الموضوعات والأفكار الرئيسيّة في الرّواية، وقد ترتبط بأصولهم العرقيّة أو الثّقافيّة أو الاجتماعيّة، ما يضيف عمقا للعمل ويخلق انطباعات أوليّة يستخدمها الكاتب لتوجيه توقّعات القارئ أو مفاجأته.
لقد غاب اسم الشّاب الجار والمخيّم في هذا العمل، ما يشير إلى توجّه سرديّ سعى الكاتب من خلاله إلى تحقيق أهداف فنّيّة معيّنة.
يقول (ص77): “صحيح فأنتم حتّى اللّحظة لا تعرفون شيئا عن الجار الشّاب، لو ذهبتم لكلّ محرّكات البحث على الإنترنت، فلن تصادفوا قبالة اسمه أيّ مادّة أو معلومة”.
قد يبدو هذا الغياب للوهلة الأولى غريبا، إلّا أنّه قد يحمل في طيّاته دلالات عميقة، ويفتح آفاقا واسعة أمام المتلقّي للتّأويل والقراءة، فقد يرى نفسه في شخصيّات الرّواية وأحداثها، مهما اختلف الزّمان واختلفت الأماكن، وذلك ما يقدّم تجربة إنسانيّة عامّة وجامعة، تتجاوز حدود الزّمان والمكان، وتتجاوز الحدود الثّقافيّة والاجتماعيّة.
هذا الغياب المقصود، يضفي جوّا من الغموض والفضول، وهو بمثابة تحدٍّ للكاتب والقارئ معا، فهو يدفع القارئ إلى التّفكير والتأمّل، ويفتح له الآفاق للتّحليل والتّفسير، يدعوه إلى المشاركة في عمليّة بناء المعنى، وإلى التّركيز على العلاقات بين الشّخصيّات والأحداث وعلى حالة الشّاب النّفسية.
في الواقع، لم يقتصر غياب الأسماء على اسم الشّاب الجار والمخيّم فحسب، بل امتدّ ليشمل العديد من الشّخوص الّتي ظهرت، فقد لجأ الكاتب إلى تكرار صفات وخصائص مميّزة لهذه الشّخصيات، بدلا من ذكر أسمائها الصّريحة، فمثلا ذكر “الرّجل ذو الكرش البرميل” الّذي تحدّث عنه لاحقا بشكل أكبر، ثمّ “الجارة ممطوطة الطّول”، و”الفتاة معدودة الزّهرات في سلّة الأربعينيّات”، وتلك أمثلة على هذا الأسلوب.
هذا التّكرار المتعمّد يهدف إلى ترسيخ صورة واضحة للشخصيّة في ذهن المتلقّي ويجعله يتذكّرها بسهولة، دون الحاجة إلى ذكر اسم محدّد، وبشكل عام، فغياب اسم البطل أو المكان ليس نقصا، بل هو خيار فنّيّ مقصود، يهدف إلى تحقيق أهداف سرديّة محدّدة.
من الأمثلة المهمّة على ذلك، رواية “شرق المتوسّط” لعبد الرّحمن منيف، الّتي صدرت عام (م1975)، والّتي يحيك فيها سجّادة من الكلمات، وقصّة معاناة شعب بأكمله، دون أن يذكر أسماء أو أماكن، وكأنّه يقول، إنّ القضية أكبر من الأفراد والأماكن، إنّها قضية إنسانيّة شاملة.
خواطر تأمّليّة في شؤون الحياة:
كما يغوص النّصّ في أعماق النّفس البشريّة، مستعرضا مجموعة متنوّعة من التّجارب الإنسانيّة، يستكشف موضوع الوحدة (ص20)، مؤكّدا أنها “فكرة تعيش فينا بسبب إصرارنا على الفراغ الّذي نتوهّم وجوده”.
يتحدّث عن الموت (ص23): “صراعنا مع الموت، نشكّ فيه، نستبعده نتخيّل أنّه مستحيل، لكنّه يأتي في النّهاية”. ويتطرق إلى أهميّة الأمل والإصرار على الحياة (ص25): “نستجمع قوّتنا ونواصل السّير، ذلك الشّعور الخفيّ باليقين هو ما يدفعنا للاستمرار”.
لا يقتصر النّصّ على هذه المواضيع، بل يتناول أيضا نظرة المجتمع لكبار السّنّ (ص43)، حيث يقول: “الجميع ينظرون لك في مثل هذا السنّ بوصفك شيئا من الماضي الجميل الّذي لم يعودوا يعيشون فيه، ومجرّد حضورك يذكّرهم به، ويجعلهم لا يقاومون الحنين لاستعادته”.
كذلك يسلّط الضّوء على موضوع الصّداقة والعلاقات الانسانيّة لكبار السّنّ، يوضّح كيف تتغيّر هذه العلاقات مع مرور الزّمن، فيكتب (ص66):
“في سنّ معيّنة يتساقط أصدقاؤك مثل ورق الشّجر في الخريف، وقد يأتي وقت لا تجد فيه صديقا تتشارك معه لحظات الطّفولة والشّباب، فتصبح تلك اللّحظات من شريط العمر يتيمة، لا تسكن إلّا في أعشاش ذاكرتك”.
ثمّ يتحدّث عن التّكيّف مع التّغيير (ص56) فيقول: “أن نتكيّف لا يعني أن ننسى، أن نقفز خارج الزّمن، أن نطوي صفحات الكتاب الّذي نقرأ”. وفي (ص56): “مع الوقت تصير العادات جزءا من التّفاصيل المفضّلة، وتصير تقليدا نحرص عليه”.
يطرح بعد ذلك رؤية فلسفيّة حول الزّمن (ص90): “البشر صنعوا الوقت وصاروا ضحايا لما صنعوه، اللّيل والنّهار هما استمرار لنفس الشّيء، لا شيء حاضر ولا شيء ماضٍ”.
وبعد، يمثّل هذا النّصّ مرآة تعكس انشغالات الإنسان بأسئلة الوجود الكبرى، يقدّم رؤىً تساعدنا على فهم أنفسنا والعالم من حولنا، يفتح أمامنا آفاقا جديدة للتّفكير والتّأمّل، يدعونا إلى إعادة النّظر في قيَمنا وأولويّاتنا، وعدم الاكتفاء بالإجابات الجاهزة، بلّ إلى البحث المستمرّ عن المعنى، يذكّرنا بأهميّة التّفكير النّقديّ والتّساؤل الدّائم، ويشجّعنا على الانخراط في حوار داخليّ عميق، لنكون أكثر وعيا بأنفسنا وانفتاحا على العالم من حولنا.
ورقة مقدّمة إلى نادي حيفا الثّقافيّ بتاريخ (19.09.2024)