أمد/
مرّت المنطقة بأسبوع مضطرب وعاصف بالأحداث الدراماتيكية، التي سيكون لها أثر بعيد المدى، من الصعب التنبّؤ بمكوّناته وبسماته في معمعان «ضباب الحرب»، الذي يخيم على الإقليم. واستمرارا للحرب القذرة على غزة، والاعتداءات المتكررة على لبنان، قام الطيران الإسرائيلي بإسقاط أكثر من 80 طنّا من المتفجرات على منطقة سكنية في وسط الضاحية الجنوبية لبيروت، ما أدى إلى استشهاد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، واستشهد معه جنرال إيراني وعدد كبير من المدنيين والعسكريين اللبنانيين. وأجّج هذا الاغتيال مشاعر الغضب والسخط عند الغالبية الساحقة من العرب والمسلمين، خاصة وأنّه جاء في سياق المحاولات الإسرائيلية لإخماد جبهة إسناد غزة. وبعد أيام معدودة من الاغتيال بدأ الجيش الإسرائيلي عملية الاجتياح البري للجنوب اللبناني، مدعيا أنها ستكون محدودة، مع أنّه لا دليل بالمرة على أنها ستكون كذلك. وفي يوم الثلاثاء الماضي، شنت الجمهورية الإسلامية الإيرانية هجوما صاروخيا على الدولة الصهيونية، أدّى إلى دخول كل الإسرائيليين إلى الملاجئ والغرف الآمنة. وعلى الرغم من أنّ الأضرار لم تكن كبيرة نسبيا، إلّا أن القيادة الإسرائيلية قررت التعامل مع الهجوم بحكم النوايا، وليس بحكم النتائج، ولوّحت برد فعل قوي وصاعق، قد يشمل مواقع إطلاق الصواريخ، وقد يستهدف مرافق نووية في العمق الإيراني (بالادعاء أن الصواريخ وجّهت أيضا إلى المفاعل النووي الإسرائيلي في ديمونا)، وقد يكون قصفا جويا على محطّات توليد الطاقة. وتلعب الولايات المتحدة دورا مركزيا فاعلا على محور التوتر الإيراني الإسرائيلي، فقد وضعت كل مقدرات المنطقة الوسطى للجيش الأمريكي في خدمة الدفاع عن إسرائيل، وكان لها ضلع كبير في التصدي للصواريخ. أما في إسرائيل، فتتراوح التوجهات بين التعامل مع الهجوم الإيراني على أنّه «إعلان حرب»، والدعوة للاكتفاء برد فعل محدود والتفرغ للجبهة اللبنانية.
على الساحة الفلسطينية، تواصل الدولة الصهيونية وقيادتها وجيشها حرب الإبادة الجماعية والتدمير الشامل في غزة، وهم يقتلون ويدمرون ويهجرون بلا توقف منذ قرابة عام كامل. ولا يتوقف جيش الاحتلال كذلك عن الاستمرار في القيام بحملات الاقتحام والقتل والتدمير في الضفة الغربية. وجاءت عملية يافا، التي قتل فيها 7 إسرائيليين، لتذكّر بأن النقمة على الاحتلال وعلى الجرائم الإسرائيلية يدفع الشباب الفلسطيني نحو المواجهة، وكانت تلك هي العملية الأكبر من نوعها منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ولم تشهد تل أبيب مثلها منذ الانتفاضة الثانية، أي منذ أكثر من عشرين عاما.
الاغتيال
وصلت حملة الاغتيالات الإسرائيلية لقيادات حزب الله ذروتها الإجرامية باغتيال الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله. هذا الاغتيال هو حقّا ضربة قوية للحزب، خاصة أن المستهدف هو قائد سياسي وعسكري له وزنه ومكانته في لبنان، وليس اقل من ذلك خارج لبنان، وسيكون من الصعب ملء الفراغ الذي يتركه بالسرعة اللازمة. لكن مهما بلغت الاحتفالات الإسرائيلية السادية بعد الاغتيال، التي شملت أغاني جديدة وأناشيد النشوة والرقص على الدم، وتوزيع البقلاوة ورفع الكؤوس في الاستديوهات التلفزيونية المفتوحة، إلّا أنه يبقى «إنجازا تكتيكيا» ولن يحقق أهدافه المعلنة والمبطنة على المدى البعيد. كثير من القيادات الإسرائيلية تتبنّى نظرية وهمية بأن الاغتيالات تغيّر مجرى التاريخ، وقادرة على إضعاف أو حتى تقويض التنظيم الذي يغتال قائده، وكان شارون قد احتفل بقرب «موت» ياسر عرفات متابعا حالته «الصحية»، وتنبّأ بأفق مشرق قريب. الاغتيال هو سياسية إسرائيلية قديمة تعكس مزيجا من غرائز الانتقام وصناعات الردع الفاشلة. لقد قاد حسن نصر الله الحزب لمدة 32 عاما، وبضمن ما قام به كان تحضير كادر ضخم من القيادات العسكرية والسياسية والدينية، وكل قائد يقضي نحبه له بديل وأكثر من بديل. وعليه لن تنجح إسرائيل عبر اغتيال القيادات حرف الحزب عن طريقه، أو تحييده عن الساحة. ما نجحت فيه إسرائيل فعلا هو زرع بذور النقمة على الجريمة وأشعلت لهيب الثأر والانتقام، الذي قد يكوي إسرائيل من حيث لا تتوقع، لأن الغضب شديد وواسع الانتشار، وقد يدفع إلى مبادرات فردية تتجاوز عمليات مدروسة ضمن إطار قرارات التنظيم.
بعد اغتيال الأمين العام لحزب الله، تحدّث الاستراتيجيون الإسرائيليون عن «نظام إقليمي جديد» في الشرق الأوسط، وردد بعضهم فكرة أن فك الارتباط بين غزة وحزب الله صار مهمة أسهل، وأن الحزب سيسعى إلى إنهاء الحرب سريعا ليحافظ على كيانه ودوره. ما لم ينتبه إليه هؤلاء أن المعادلة المنطقية أقوى من كل تحليلاتهم وهي، أن القيادة الجديدة لحزب الله لا يمكن أن تقبل ما رفضه حسن نصر الله، وهي نفسها وكل من حولها يدفع باتجاه واحد وهو الالتزام بالميراث السياسي والعقائدي للأمين العام السابق، مهما كلف الأمر. وعليه فإن تصريح بلينكن «العالم سيكون أكثر أمنا وأمانا بعد اغتيال نصر الله»، وإلى جانب قذارة التشفّي، فهو وهم وسقوط في شرك تبرير الجريمة الإسرائيلي، والقائل بأن «الحرب تجلب الاستقرار».
الاجتياح البري
في خضم الأحداث، لم ينتبه كثيرون للتغيير الذي حصل في الموقف الأمريكي، فقط عارضت الولايات المتحدة الاجتياح البري للجنوب اللبناني وحذّرت إسرائيل من شن حرب شاملة على الجبهة اللبنانية. استنادا إلى هذا الموقف الأمريكي عارضت غالبية النخب الإسرائيلية الاجتياح البري على اعتبار أن إسرائيل بحاجة لمساندة أمريكية متينة في الحرب: توفير القذائف والأسلحة، ضمان الدعم السياسي والدبلوماسي، تأمين شبكة دعم اقتصادي، ونشر قوّات كبيرة لحماية ظهر إسرائيل في حال تدخلت إيران. يبدو أن الحل الذي توصلت إليه إسرائيل والإدارة الأمريكية هو الحديث عن «عملية عسكرية برية محدودة» حتى تستطيع الولايات المتحدة الادعاء بأنها فعلا محصورة بالزمان والمكان وتحت السيطرة. هذه اللعبة نفسها، التي مارسها الطرفان بخصوص اجتياح رفح واحتلال محور صلاح الدين (فيلادلفيا)، حيث جرى الحديث عن دخول «محدود»، ثم وسعته إسرائيل تبعا للتطورات الميدانية. وهذا بالضبط ما سيحدث في الاجتياح الإسرائيلي البري «المحدود» لجنوب لبنان، وهذا المحدود لن يبقى محدودا «تبعا للتطورات في الميدان». لقد حددت القيادة الإسرائيلية الهدف الرسمي للقتال في المنطقة الشمالية بإعادة النازحين الإسرائيليين إلى قراهم الحدودية «آمنين مطمئنين»، ولكن يبدو من التصريحات والتسريبات بأنها تطمع إلى المزيد وبالأخص إلى قضم القدرات العسكرية لحزب الله قدر الإمكان. بالنسبة للهدف الرسمي، فهو يعتمد على شعور المستوطنين، وهم يقررون ما يجعلهم «يطمئنون»، والقيادة الإسرائيلية تتبنى هذا التوجه وتترجمه إلى ثلاث غايات محددة: أولا، انهاء الوجود العسكري لحزب الله جنوب الليطاني، ثانيا، نشر الجيش اللبناني وقوات دولية كبيرة، ثالثا، ضمان حق إسرائيل في التدخل عسكريا، إن هي لمحت خطرا على أمنها وعلى أمن قواتها ومستوطنيها. ويطلق الساسة الإسرائيليون على هذه الخطة «1701 زائد». إسرائيل من جهتها ليست مستعدة للإيفاء بالتزاماتها وفق قرارات الأمم المتحدة، لا من حيث التوقف عن الطيران فوق الأراضي اللبنانية ولا بالانسحاب من مزارع شبعا ومن بعض النقاط الحدودية الخلافية.
هكذا تحاول إسرائيل فرض معادلة قوامها، إمّا أن يوافق حزب الله على شروطها، أو تقوم هي باحتلال جنوب لبنان وتسعى لفرض حلّها عليه. وبما أن إسرائيل لن تستطيع أن تحقق مآربها في لبنان فهي ستواصل الحرب على غرار ما يحدث في غزة، فكلما فشلت في تحقيق أهدافها أطالت أمد الحرب وزادت من وحشيتها، وكلما أخفقت في النيل من العسكر استهدفت المدنيين أكثر علّهم يضغطون على المقاتلين. إسرائيل منفلتة ولا تجد من يوقفها عند حدّها، ولكنّها بدأت ترتكب أخطاء استراتيجية، قد تدفع ثمنها إن وُجد من يدفّعها الثمن. هي تتصرف وكأن لا حدود للقوة وللاتكاء على استعمال القوّة. وتاريخيا، كل من فقد الوعي بمحدودية القوّة خذل نفسه، فهل تخذل إسرائيل نفسها؟ هي اليوم وبقيادتها الحالية مهيئة لذلك، لولا أن الولايات المتحدة ستهب حتما لنجدتها وإنقاذها من تهوّرها.
عن القدس العربي