أمد/
بعد مضي أكثر من عام على الحرب، تتجه إسرائيل نحو مزيد من التصعيد في حربها المتشعّبة على الجبهات كافة، ويبدو أنّها مقدمة على تكثيف عملياتها العسكرية حتى نهاية هذا العام على الأقل. ويركّز جيش الاحتلال الإسرائيلي عدوانه الدموي الإجرامي في منطقة شمال غزة، لتفريغها من سكّانها، ويحاول تنفيذ تهجير قسري لحوالي نصف مليون فلسطيني من شمال إلى جنوب وادي غزة.
بموازاة ذلك يواصل الجيش الإسرائيلي هجماته الجوية والبرية على لبنان بادعاء تسديد الضربات لقوات ولأسلحة حزب الله، لكنه «يحرص» أساسا على استهداف المدنيين، بغرض تأليبهم على المقاتلين ليضغطوا عليهم لوقف الحرب مهما كانت الشروط الإسرائيلية، وإضافة إلى التصعيد على جبهتي غزة ولبنان، تتوعد القيادتان العسكرية والسياسية في الدولة الصهيونية بتوجيه ضربة «موجعة وفتاكة ومدوية» للجمهورية الإسلامية، ردّا على الهجوم الصاروخي الإيراني الأخير. ولا تنسى إسرائيل أن تكثف من غاراتها على الأراضي السورية، ومن اقتحاماتها واعتداءاتها الدموية على مدن الضفة الغربية، وهناك توقعات بأن يستأنف سلاح الطيران الإسرائيلي قصفه لمرافق يمنية، وبأن يبادر إلى شن هجمات على مواقع الميليشيات العراقية، التي وجهت ضربات بالمسيرات وبالصواريخ على إسرائيل.
لا دليل ولا مؤشّر إلى إمكانية ضبط أو تخفيف حدّة الانفلات الإسرائيلي الإجرامي، بل بالعكس كل ما يحدث وما يقال وما يسرّب هو باتجاه المزيد من التصعيد. ولا تصح المراهنة على أن القاتل سيضنيه التعب من مجهود القتل ومن عبء البطش بالناس، وعلى أنّ قواه ستنهك من أعباء المزيد من المجازر اليومية. وما انفكّ نظام الغيلة الإسرائيلي يعمل بلا توقّف محكوما بثلاثة دوافع: الحركة الأتوماتيكية ـ قرارات أوامر تنفيذ، والزنبرك العاطفي للانتقام والثأر ولتفريغ طاقات فرط «الوطنية». وثالثا: الاعتبار العقلاني الفظيع بأن القتل والتدمير هما السبيل الوحيد لحماية الكيان الاستعماري الاستيطاني، عبر ترميم الردع الاستراتيجي وحرمان «العدو» من القدرات القتالية.
لعل من نتائج حرب إسرائيل الحالية، انكشاف أنها «لا تستطيع أن تدافع عن نفسها بنفسها»، وهي بحاجة إلى مشاركة فعلية ووازنة للجيش الأمريكي في حربها
كلام عن طعام
في غياب الكبح الجوّاني للانفلات الدموي الإسرائيلي، يعتقد البعض أن الضغط الخارجي آتٍ وسيوقف الحرب. وقد سقط هذا الاعتقاد بامتحان الواقع، المرة تلو الأخرى ولا إشارة إلى أن الأمور تغيرت أو ستتغير جوهريا في المستقبل المنظور. صحيح أن الموقف الأمريكي ليس نسخة عن الموقف الإسرائيلي، ولكن الولايات المتحدة سرعان ما تلهث خلف الفعل الإسرائيلي وتلائم نفسها معه. هكذا حدث حين عارضت واشنطن اجتياح رفح، واحتلال محور صلاح الدين (فيلادلفيا) والعملية البرية في جنوب لبنان. هي حقّا عارضت، لكن معارضتها لم تصمد في وجه الأمر الواقع الإسرائيلي، إضافة لذلك باءت كل المحاولات الأمريكية لعقد صفقة تبادل وهدنة في غزة بالفشل، بسبب عناد نتنياهو، فسلّمت إدارة بايدن بالأمر ورفعت أيديها معبرة عن عجزها على التأثير على القرار الإسرائيلي. هكذا نرى ظاهرة غريبة في علم الأحياء يقود فيها الذيل الإسرائيلي الرأس الأمريكي وليس العكس.
وعلى الرغم من التجربة المريرة مع «الموقف» الأمريكي، يصر المتفائلون بالفرج المقبل من «العم سام»، على جدية الرسالة الأمريكية الجديدة لإسرائيل، بأن عليها أن تضمن وصول المساعدات الإنسانية لشمال قطاع غزة خلال 30 يوما، وإلا فهي ستتعرض لعقوبة «حظر أسلحة». ولإضفاء مظهر الثقل والأهمية للرسالة، سطّرها وزيران لا وزير واحد، هما وزير الخارجية أنتوني بلينكن ووزير الدفاع لويد أوستين. وعن هذا يقول المثل الفلسطيني: «كيف تعرف أنّها كذبة؟ من كُبرها!»، فهل يصدّق أحد أن الولايات المتحدة، التي تنشر قوات ضخمة وتعزيزات عملاقة لحماية إسرائيل يمكن أن تفرض عليها «حظر أسلحة»؟ فما هدف الرسالة إذن؟ أولا: الولايات المتحدة تريد أن تحمي إسرائيل من نفسها ومن حماقات قياداتها، وتنوّه بأن عليها أن تتوقف عن ممارسة التجويع والتهجير والمجاهرة بهما، خاصة في ظل ما يجري في محكمتي الجنايات والعدل الدوليتين. ثانيا: تسعى الإدارة الأمريكية لاسترضاء المصوتين العرب والمسلمين بالكلام عن طعام لغزة، وبإبراز نفسها كمن تضغط على إسرائيل في هذا المجال الإنساني، لتبدو كل شاحنة إغاثة بأنها بفضل ضغط الإدارة. ثالثا: هذه رسالة تحذير لإسرائيل بأن عليها أن تمتنع عن إحداث كوارث كبرى جديدة عشية الانتخابات الأمريكية. في أحسن الأحوال، الرسالة الأمريكية هي للتنويه وربما للتهديد اللفظي، لكن إسرائيل تعرف جيّدا أنها ليست للتنفيذ، خاصة أن مدة «الإنذار» تنتهي بعد الانتخابات الأمريكية، التي لا يعرف أحد نتائجها ومآلاتها. ويبدو من ردود فعل إسرائيل الفاترة، أنها كانت تعرف سلفا، بأمر الرسالة وليس من المستبعد أنه جرى تنسيق نصها سلفا.
نظام «ثاد»
لبّت الولايات المتحدة الطلب الإسرائيلي بمساعدتها في الدفاع والهجوم في المواجهة مع إيران، وجاءت الاستجابة في المجال الدفاعي، وجرى التنفيذ فورا بالشروع في نصب «نظام ثاد» المضاد للصواريخ البالستية، الذي يقوم بتفعيله 100 جندي أمريكي بدأ نشرهم فعلا على الأرض. ويأتي هذا التطوّر في ظل النقص الحاد في ذخيرة الدفاعات الجوية الإسرائيلية، ولسد الثغرات التي انكشفت في اعتراض الصواريخ الإيرانية. وصرّح الناطق بلسان البنتاغون بأن منظومة الصواريخ ستكون جاهزة عملياتيا في القريب العاجل، رافضا تحديد الوقت. «نظام ثاد»، الذي يجري نصبه في إسرائيل، يدار بالكامل من قبل جنود أمريكيين، ومعنى ذلك مشاركة مباشرة وعلنية للجيش الأمريكي في حرب إسرائيل المتشعّبة. سبق ذلك قيام الدفاعات الجوية والطائرات الأمريكية باعتراض المسيرات والصواريخ الإيرانية في هجومي نيسان/أبريل وأيلول/سبتمبر. ويتناقض هذا التطوّر مع ما صرح به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مرارا وتكرارا من أن إسرائيل «تدافع عن نفسها بقواها الذاتية»، وهي بحاجة «فقط» لتزويدها بالأسلحة للقيام بذلك. هذا المبدأ ليس من اختراع نتنياهو، بل وضعه مؤسس الدولة الصهيونية دافيد بن غوريون، عام 1951 بصيغة «إسرائيل تدافع عن نفسها بنفسها». ولعل من نتائج حرب إسرائيل الحالية، هو انكسار هذه «القاعدة»، وانكشاف أنها «لا تستطيع أن تدافع عن نفسها بنفسها»، وهي بحاجة ليس لأسلحة وذخائر ومساعدات أمريكية فحسب، بل إلى مشاركة فعلية ووازنة للجيش الأمريكي في حربها.
صواريخ إيرانية ضد إيران
المفاجأة الممكنة في الضربة الإسرائيلية المنتظرة ضد إيران، أن يأتي الهجوم بالصواريخ البالستية الإسرائيلية وليس فقط بالطائرات. والمفاجأة الكبرى أن تضرب إسرائيل إيران بصواريخ جرى تطويرها بتمويل إيراني. ففي الأعوام التي سبقت الثورة الإيرانية وتحديدا في عام 1977 بدأت إسرائيل وإيران بمشروع «فرح» المشترك لإنتاج الصواريخ البالستية أرض-أرض، وكذلك بمشروع مواز لتطوير صواريخ أرض بحر لاستهداف السفن والبوارج الحربية. وقد ساهمت إيران، في حينه، بمبلغ 5 مليارات دولار، ورفضت إسرائيل إعادتها إليها بعد الثورة، واستعملتها في مواصلة المشروع، وجرى التندّر بأنّ تلك هي «صواريخ إيرانية ضد إيران». في كل الأحوال فإنّ كلمتي «مفاجئة وقوية» هما أكثر ما يردده القادة والمحللون الإسرائيليون بخصوص الضربة التي تعد وتتوعد بها إسرائيل. ويبدو أن القرار النهائي بهذا الشأن سيكون بمشاركة مقلّصة من ثلاثة هم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الأمن يوآف غالانت ورئيس الأركان هرتسي هليفي، وذلك بسبب الخشية من التسريبات. ولأن القيادة الإسرائيلية تبحث عن مفاجأة وعن حدث صادم ومدو، فلا بد أن نأخذ بحذر شديد كل ما ينشر بهذا الشأن، فلربما ستوجه إسرائيل ضرباتها بالذات إلى المرافق، التي يتفق المراقبون بأنها لن تضربها، ولربما تخرج القيادة الإسرائيلية عن إطار التفاهمات مع الولايات المتحدة على اعتبار أن الإدارة الأمريكية تدعمها وتتبعها مهما هي حادت عن المتفق عليه.
الانتخابات الأمريكية على الأبواب، ويعتقد الكثيرون أن هذا يفرض على نتنياهو وحكومته تقييدات بعدم إحراج وتوريط الولايات المتحدة عشية التصويت على الرئاسة. ولكن هناك احتمال جدي بأن يراها نتنياهو فرصة للقيام بمغامرات عسكرية جديدة واستغلال موسم الانتخابات، الذي يفرض قيودا إضافية على الإدارة الأمريكية بالذات ويجعلها أكثر انصياعا لقاعدة “تل أبيب تصعّد وواشنطن تتبعها”.
عن القدس العربي