أمد/
نشرت صحيفة القدس في عددها الصادر يوم السبت 19/10/2024 قصيدة لشاعرة تدعى حنين ناصر بعنوان “عيناك”. جاءت القصيدة على النمط التقليدي الكلاسيكي ذي الشطرين بقافية واحدة؛ اللام المضمومة، ينتظمها بحر البسيط (مستفعلن فاعلن مستفعلن فَعِلن).
وهذا هو نصّ القصيدة:
عيناك عانت كأن الريح تحملها
طورا إلى ساحل بالموج يحتفلُ
وتارة تضـرب الدنيا بزينتهــا
كأنهــــا كاعب بالغيم تغتسلُ
وما تنـاهت وقد دارت كعـادتهـــا
تغري الشعور فيخبو ثم يشتعلُ
حتى أهلّ هلال الحب في كيـدي
واسّاقطت رطبا يغتابه العسلُ
والعسر حينٌ ويسر الأمر عزّته
والجرح مما جرى يُشفى ويندملُ
والقلب يُروى يذكر الله من عطش
ينسى ويسهو وقد يعيا فيبتهلُ
فالزم صراط الهدى حباً ومعتقداً
إن كـان غيرك بالآثام ينشغلُ
روعة الشعر العمودي (ذو الشطرين) الذي تكتبه شاعرة أنه يأتي محملا بظلال الرقة الأنثوية التي عادة تكون غير موجودة في شعر الشعراء، لأن النسق الشعري التقليدي، نسق فحولي، يخفي في داخله قوة ما أو عرامة بدرجة معينة لا تتوافق ونفسية المرأة وشعورها وهي تكتب شعرا وجدانيا، وخاصة شعر الغزل، هذا ملاحظ في شعر الشاعرات في العصر الحديث، في شعر فدوى طوقان، ونازك الملائكة، ولميعة عباس، ودلال بارود، ونهى نبيل، وأخريات. ثمة رقة تخلص الشعر من عنفوانيته التي تدجج الأبيات الشعرية وتدبجها وتزجّج عيونها، وقد نجحت بعض الشاعرات أن تفلت من سيطرة القالب الشعري الفحل بهذه التقنية اللغوية الإيقاعية.
في هذه القصيدة أولا تأكيد لشخصية المرأة ضمن نسق الشعر القديم، المعروف تاريخيا أنه “نسق ذكوري”- مع أنني لا أحب هذا الوصف، ولم أجد بديلا عنه لاستخدامه- وهذه صارت أشبه بمسلمة لا تحتاج إلى دليل، فكثير من النقاد أشاروا إليها وانتبهوا لها، وهذا التأكيد- كما سيأتي- مؤطر في الناحيتين اللغوية والبناء الشعري للقصيدة.
تتألف القصيدة من سبعة أبيات، مرفقة بصورة الشاعرة التي تفتر شفتاها الحمراوان حمرة خافتة عن شبه ابتسامة، فتبدو أسنانها بيضاء لامعة! ما علاقة هذا بالأبيات وبتحليلها؟ لا علاقة مباشرة، إلا لتأكيد صفة الأنثوية الظاهرة في الصورة، وكيفية اندماجها مع السياق العام للشعر التقليدي الذي اصطبغ بمياسم أنثوية في لغته، هذه اللغة التي تشير إلى جمال يشبه جمال الصورة. هل هذا تغزّل بالشاعرة، وجر النص إلى أهواء نفس ذكورية تحب الجمال وتتابعه؟ ربما، لكن ليس هذا كل شيء في القصيدة، إنما وراء الصورتين ما وراءهما من جمال شعري لافت، وإن شابه بعض القلق الإبداعي في مجمل النظرة النقدية إلى القصيدة كاملة، أحاول أن أعربَ عنه وأعربه في هذه الوقفة.
أول ملمح من الملامح الخارجية التي ترسم حدودا لصورة الشعر هو أن القصيدة جاءت على منوال الحد الأدنى لاعتبار الأبيات قصيدة، بعدد سبعة أبيات، فأقل من هذا ستصبح مقطوعة، لا قصيدة، لذلك فهي قصيدة قصيرة، وسمات القصيدة القصيرة- في الغالب- أنها أكثر مشهدية، وأكثر وضوحا، وأكثر تماسكا وقوة في الصياغة وفي التعبير عن المعاني. فمقتل الشعر التقليدي لدى الشعراء هو التطويل الذي يجعل القصيدة مترهلة، غير ممشوقة القد، مكتنزة المعنى، ما يوقع شاعرها في فخّ التكرار والملل، فالمطولات وحدها لا تعد علامة إبداع إذا لم يكن مع هذا التطويل احترافية في نقل القصيدة من أفق إلى آخر مع كل بيت، وضرورة خلوها من العيوب اللغوية والإيقاعية والتركيبية، واشتمالها على الصور الشعرية الطريفة الجديدة؛ غير المطروقة.
وفي هذه القصيدة رسمت الشاعرة في الأبيات الأربعة الأولى مشهدية شعرية رائقة إلى حدّ ما، دارت حول العينين وأثرهما الممتدّ من المرئيّ البصري حتى المعنوي النفسي المتمثل في تحقيق الهدف، وهو الوقوع في الحب ووصوله إلى الحشا أو الكبد:
حتى أهل هلال الحب في كبدي واسّاقطت رطبا يغتابه العسلُ
تصل الشاعرة إلى تمام المعنى واختتامه بهذا البيت المتصدّر بالأداة “حتى” التي تعني “إلى أن”؛ وتفيد تحقق الغاية، بما يشتمل عليه ذلك من انتهاء غاية مكانية، وزمانية أيضاً، فثمة وقت مفترض ما بين مبتدأ الكلام: “عيناك عانت” وحتى نهايته: “أهل هلال الحب”.
وعلى صعيد بلاغي تركيبي جمعت الشاعرة في هذا البيت صوراً شعرية عدة: هلال الحبّ، والكبد الذي أصبح سماء لهذا الهلال، واساقطت رطباً، ويغتابه العسلُ، على الرغم من شعوري بالقلق نتيجة الصورة الأخيرة “يغتابه العسلُ”، فالموقف ليس موقف استغابة، إنما موقف حب، فلو كان “العسل” استعارة تصريحية والرطب استعارة أخرى تصريحية للحبيب والحبيبة لا يصح أن تكون العلاقة بينهما علاقة استغابة، إنما علاقة مناجاة. هل يمكن أن يكون لهذه الجملة معنى آخر وقد تنازل النقاد والقراء عن مقولة “المعنى في بطن الشاعرة”؟ إن كان في بطنها لماذا لم تلده كما كان هناك؟
وصل الحبّ لمنتهاه ومبتغاه! وأعربت الأبيات بألفاظها عن نفسية المرأة، فقد اعتمدت الشاعرة في هذه الأبيات على ألفاظ لها ارتباط أنثوي: يحتفل، الزينة، الكاعب، الغيم، تغتسل، دارت كعادتها، تغري الشعور، الرطب، العسل. فما معنى الأبيات الثلاثة المتبقية من القصيدة؟ وماذا أرادت أن تقول فيها؟
تدور تلك الأبيات حول الحكمة المصطنعة المتأثرة بالقرآن الكريم، حيث العسر واليسر المجتمعان في الآيات، يجتمعان في البيت الشعري الخامس، والجرح كمثال على العسر، يشفى ويندمل كتجلٍّ إلهي لليسر. كيف يمكن أن يرتبط هذا المعنى مع المقطوعة الغزلية. يقول المثل الفلسطيني: لا باتت ولا حلمت؛ إذ تنبئ الأبيات أنها ما زالت في أول الحب! وأول الحب لوعة، وتعلق، لا حكمة والبحث عن التسلي عن الوجع بذكر الله الذي أكدته في البيت السادس، بمزاوجة ثنائية العسر واليسر، فالعسر بالعطش، واليسر بالارتواء بذكر الله، وكذلك يعيا فيبتهل، عسر ويسر كذلك، ولن يغلب عسر يسران!
أما البيت السابع فيهدم ما بنته في الأبيات الأربعة الأولى من جمالية العشق، من النظرة البصرية حتى التمكن في القلب حلاوة العسل والرطب، فتطوّح بذلك كله وهي تقول:
فالزم صراط الهدى حبا ومعتقدا إن كان غيرك بالآثام ينشغل
هل معنى ذلك أن الحبّ عيبٌ أو حرام وآثام ينشغل بها عباد الله؟ هل لأجل ذلك قالت “يغتابه العسلُ”؟ هل كان الحب بارقة مرّت سريعاً في لحظات، وتلاشت ولم يبق منها سوى هذا الأثر الخافت، فانتفضت له الشاعرة فاستجابت، ثم عندما انتبهت تراجعت واستغفرت؟ أم أنها أرادت أن تغطي الحب بالمغفرة لتقطع الطريق على من قد يتهمها أنها تحب وتتغزل في مجتمع لا يرحم؟ أم خانها التعبير في الأبيات الأربعة الأولى أو في الأبيات الثلاثة الأخيرة؟ أم أنها لا تريد الغزل أساساً؟
ثمة أسئلة كثيرة ينم طرحها عن قلق ينتاب المرء وهو يقرأ هذين القسمين غير المتآلفين إلا في الوزن والقافية، فقد خلت الأبيات الثلاثة الأخيرة من النفَس الأنثوي ليحل محله نفَس إنساني عامّ قائم على اللغة الدينية لبناء الحكمة التصالحية المستقاة من النص الديني، مع ملاحظة خفوت الصورة الشعرية في هذه الأبيات، وصار المعنى مباشرا منظوما لا غير، لكنه مع ذلك لم يفقد جماليته الشعرية المؤسسة على التناص الديني والاندماج في المعنى الروحي للنص الأصلي الذي يكشف عن استشعار المهابة من السلطة الدينية، وهذا بحد ذاته جميل جمالية خاصة، لا يشعر بها إلا المؤمنون المتقون، ولعلّ المقطوعة كلها جاءت تجسيدا لمعنى “النفس اللوامة” الوارد ذكرها في سورة القيامة، فدلت صورة الشاعرة المرفقة مع القصيدة على شيء من هذا، حيث الحجابُ وملامح الوجه المحايدة التي لا تمنح الناظر أية إيحاءات غير منضبطة، فتآلف النص مع الصورة تآلفا تاماً، وليس هذا وحسب، بل إن النهلَ من اللغة القرآنية واضح في القسم الأول من القصيدة في تلك الكلمات التي حملتها معنى أنثويا: تضرب الدنيا بزينتها، كاعب، غيم، واسّاقطت رطباً، أضف إلى ذلك ضمير المخاطب في “عيناك” لا تدري هل هو لمذكر أم لمؤنث، فلو قرئ على الوجهين لصحّت القصيدة في الأبيات الستة الأولى، ليأتي التحديد إجباريا أنه لمذكر في فعل الأمر الزمْ، فلا يصح أن يكون إلا لمخاطب مذكر.
وفي هذه المراوغة وإهمال الضبط إمعان في تيه المعنى وعدم استقراره ما ينبئ إلى ما توصلتُ إليه أعلاه من أن الشاعرة تريد أن تطوح بالمعنى الغزلي ليستقر لها المعنى الروحي الإيماني، ويتحرر بذلك المخاطب من كونه مذكرا رجلا مقصودا إلى مخاطب عام، يدخل فيه المذكر والمؤنث، وتصبح دلالاته البلاغية “النصح والإرشاد”. فإن قرئت القصيدة على هذا النحو جاءت الأبيات السبعة وحدة واحدة بمضمونين متعاقبين لهدف واحد هو ما سعت إليه الشاعرة في بيتها السابع؛ ألا وهو الاستقامة على “الصراط المستقيم” “حبا ومعتقداً”، وذم الانشغال بغير هذا النوع من الحبّ.
ومهما يكن من أمر هذا التحليل، فقد أنبأ النص الشعري بقسمته هذه بين مقطوعتين جميلتين، عن قلق المرأة الشاعرة التي تبدأ شاعرة وتنتهي ناظمة، قلق نتيجته عوامل كثيرة، ألمحتُ إليها سابقاً، لكن تبقى الدلالة الأقوى في هذه القصيدة أن هذا النسق الشعري لا يتوافق والمرأة ومشاعرها، فلا تستطيع التطويل والإطناب فيه، هل هذا حكم جائر أو متسرع؟
كثير من تجارب الشاعرات تقول شيئا من هذا من خلال اعتمادهنّ على القصائد القصيرة والمقطوعات الشعرية، أو ذهابهن بقوة إلى قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر. ومع كل هذا يبقى هناك ما يكسر هذا الحكم، فتأتي بعض الشاعرات بالقصائد الطوال الرائقات، شعرا غزيرا بارعاً ممتعاً في صوره ومعانيه وأخيلته المجنّحة، كما قد لا يُوفّق الشعراء في قول الشعر الكلاسيكي والقصائد الطوال، فلا شيء قاطع ونهائيّ، وكل شاعر وحظه من الموهبة، كما الشاعرة سواء بسواء.