أمد/
أيها الموت/إنتظرني خارج الأرض/انتظرني في ديارك/ريثما أنهي حديثا عابرا /مع ما تبقى من حياتي..!
(محمود درويش)
لا أكاد أفتح ديواناً شعريا لأحد الشعراء من القدماء أو من المحدثين والمعاصرين إلاّ ولمست أن غيمة قاتمة و ثقيلة من الحزن والألم،والمعاناة،وفراق الأحبة قد نٓشرت رداءها وحٓجبت نور الشمس في سماء صفحاته..
وقد يبدو لي أن مثل هذا الإيقاع الموسيقي الروحي الحزين يستهوي و يستميل النفوس والأذواق لأسباب قد يكون منها ملامسة الأحاسيس،وإنعكاس ذلك الشعور على واقعهم المعاش،وتجربتهم الحياتية في محيطهم الإجتماعي..
وإذن؟
إن الحزن -في تقديري-ظاهرة من الظواهر الإنسانية،وسمة بارزة تحضر في مختلف الإبداعات الشعرية المعاصرة،حيث أصبحت علامة دالة وبارزة في القصائد الشعرية و ليست كتلك الظواهر الاجتماعية والطبيعية التي تتسم بالوضوح و إمكانية التحديد،بل ظاهرة نفسية ترتبط بالجانب النفسي غير المدرك لكي تصيب الإنسان بالألم لفترات زمنية طويلة متفاوتة الشدة،يحس فيها المرء بمأساته،فالأسى ليس حكرا على شخص دون أخر بل يلحق بالبشرية جمعاء،فقراء وأثرياء صغارا وكبارا ،وتختلف درجة الحزن فقط فيمن يجعله طريقا للتحدي والخلاص والانتصار..
لنقرأ هذه القصيدة الموجعة التي خطتها أنامل الشاعر التونسي الكبير جلال باباي،ولكم حرية التفاعل والتعليق:
ترفٌق بي أيٌها الغياب
نام جناحي الطيني
وبدت ذراعي اليسرى عصا يابسة
والقلب جاف ويتيم
كيف مللتني يا جسدي؟
وحدي شارد الخطوات
أبحث عن عمري ما استطعت/
أقاوم فيه الوحش قبل أن انكسر/
ترفق بي أيها الغياب/
انهض يا شقيق الملح بكامل طيشي/
قبل أن تتكاثر ثعالب الأرض /
تنقصني الأجوبة …
لم أعثر على بوصلتي في المتاهة /
لأسند ظلي المتهالك على شجر النخيل/
ها أتمالك عريي واحفظ ماء وجهي
حتى لا أستسلم للسقوط.
جلال باباي
شعر جلال فيه الأصالة وعمق التجربة ودعوة واضحة للحریة وللوحدة العضویة في القصیدة،وتبدأ القصیدة بإنفعال نفسي یستمر هذا الإنفعال مع عاطفته حتی نهایة مضمون القصیدة ویجذب القارئ مع عذوبته.
وحينما يكثف الشاعر جلال تيمة الحزن ويعلي من شأنها في سياق شعري منتظم في أفق حداثي،إنما يفعل ذلك ضمن رؤيا إبداعية تتأسس على التجربة الذاتية المسكونة بعشق الذاكرة وعشق الحياة،وعشق الشعر بمعناه الأوسع كما نجده عند النفري والحلاج وابن عربي..وغيرهم من المتصوفة الذين مارسوا تأثيرا بينا على شعراء الحداثة..
إن هذا النفس الصوفي،في جانبه الإبداعي،نجده حاضرا في هذه القصيدة (ترفٌق بي أيٌها الغياب)الموغلة في الوجع..
قصيدة تظهرُ بها ثيماتُ الوجع الداخلي،وعوارض الأسى،وشعور الذات بالألم والحزن.إنها صلواتٌ طافحةٌ بمرارة الواقع الذي يحاول من خلاله الشاعر تقييد يومياته في هيئة نصٍ شعريٍ محمّلٍ بلغة المواجع و تخييل الواقع..
لقد انسكب الحزن فی داخل-جلال باباي-كانسكاب السّائل فی الدّورق الشّفیف،فحینما نقرأ -هذه القصيدة الموغلة في الوَجَع-نبصر هذا الحزن فی داخلها المرسوم عبر الكلمات،وكأنّنا أمام مواجهة بین الذّات والموضوع،بل أمام تفاعل خلاّق،تفاعُل تبادل فیه الطّرفان الأدوار، حیث یجسّد الحزن فی هاته الحالة نوعاً من مواجهة الذّات،وهو فی الآن ذاته موقف شعریّ من الوجود والموجودات،یُفعّل عندما تبدو حدّة المفارقات بین ما تتغیّا الذّات وما تصل إلیه.
لكني على يقين بأن الشاعر الكبير جلال باباي الذي ذاع صيته تونسيا وعربيا،مدرك في أعماقه أنه قادر على أن يصمد في وجه المواجع مهما احتدمت في ضلوعه،و يتحدى قبضتها الأليمة،وذلك بفكره الخلاق،الذي يبقي إبداعه حيا،وهّاجا و يترنّم به القادمون في موكب الآتي الجليل..
ختاما أقول : جلال باباي شاعر مسكون بالحرف والشعر بالنسبة إليه وطن يلجأ إليه..وهو يعرف جيدا..كم وجعا يحتاج إلى قصيدة..!
لكن في كل هذا وذاك يمتح من حب لا ضفاف له ولا شطآن..