أمد/
شاعرة تمارس إكراهاتها على نصها الشعري..وتضبط اتجاه بوصلتها الإبداعية بمهارة.
“ليس الشعر أن تقول كل شيء،بل أن تحلم النفس بكل شيء” (الكاتب والناقد الفرنسي سانت بوف )
-الحزن لف دموعي في خيط من عسجد/والبعد يأكل من عمري
وعمري لا يدري/إنه قد أرمد ..! ( الشاعرة والكاتبة التونسية د- آمال بوحرب )
قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ الكتّاب الحقيقيين يشتغلون بشكل دائم،في رؤوسهم وفي نصوصهم،على آليات الكتابة التي يقيمون فيها كتأملات وتقطيعات خاصة للعالم.وهم بذلك الصنيع،يرقبون الحياة والوجود من نقطة دقيقة بمثابة فتحة بابهم المكتظ بالأسئلة والإشتغال الدؤوب.
الشاعرة والكاتبة التونسية الألمعية د-آمال بوحرب التي دأبت على مداعبة الحرف ومراقصة الكلمة كي تنحت دربا إبداعيا متميزا واحدة من هؤلاء،تشتغل بحرقة في الكتابة الشعرية،لتأسيس نفس وخيار جمالي،له تسويده وتقطيعه ونظره الخاص ليس للحياة فحسب،بل للنص الشعري نفسه الذي يغدو مرتعشا في يدها وزئبقيا وشفيف المرايا إلى حد الكسر في الرّوح..
هذه الشاعرة المتألقة تؤسس لمشهد شعري متميز،عبر استمرارية وصيرورة ذات قيمة انتمائية فذة،حيث تبيح لقلمها،لرؤاها ورؤياها،متعة التحليق في الآقاصي لتأثيث عوالم بعيدة،باحثة من خلالها عن ممرات دلالية وصورية ومديات بلاغية روحية لكونها الشعري اللامحدود،وخالقة عبر توظيفاتها متعة دلالية،ولذة تصويرية حركية،لتمارس فعلتها الكينونية الإبداعية،حالمة بولادة جديدة في رحم النص الشعري.
وأنا أضع يدي على بعض قصائدها أحسست،بعد تمحيص ونظر،أنّ الشاعرة-د-آمال تكتب وفق استراتيجية في الكتابة الشعرية.
ولذا وجب-في تقديري-لفت النظر بدقة لكل الآليات والتقنيات المستعملة وفق وعي جمالي ونقدي ملازم.وإذا حصل،سيتم تقليب صفحات كتاباتها الإبداعية الخصبة،مثلما نقلب المواجع الرائية،لأنّ الألم في الكتابة،له بكل تأكيد،ينابيعه الخلاقة التي تغني نهر الإبداع الإنساني بالإضافات العميقة والجميلة.
وهذا يعني أنّ نجاح المبدعة التونسية د-آمال بوحرب في جل منجزاتها الشعرية متمثّلا في عدم سقوطها في الإرهاق اللغوي،فهي تملك لغتها وتعرف كيف تتلاعب بها ومعها،وتبدو رؤية الشاعرة واضحة،واعية تماما لطروحاتها كشاعرة بالدرجة الأولى،وكفنانة تعشق الرسم بالكلمات في الثانية،ففي قصائدها المنتقاة بحذق ومهارة تحاول الإنفلات من عقال ذاتها والإنفصال عنها لصالح المحيط،والعبور من الخاص بإتجاه العام والإنساني.فالكتابة-في تقديري-شكل تعبيري مثل الرسم والموسيقى والنحت وغير ذلك،وتحتاج إلى وعي كبير بالذات،وإلى قدرات أخرى بطبيعة الحال،ثم تكون هي نفسها أداة تعبيرية عن ذلك الوعي وسبيلا لتطويره.كما قد يكون أيُّ نتاج للكتابة بحثا عن ذات يُفترض أنها موجودة على نحو ما.والشعر عند الشاعرة د-آمال بوحرب تدوين لحياة البشر،للألم وللخذلان،وللفرح المقبور منذ أزمنة بعيدة،ورثاء لحب مغتال..
لنقرأ هذه القصيدة الموجعة التي خطتها أناملها-بحبر الروح-ولكم حرية التفاعل والتعليق:
أصداء الجراح
يا مُعيدَ الجراحِ أعدْ مكنونَنا
واصنعْ لأطفالِنا أحلامًا تغنى
إذا حسبنا الفقدَ قصيدَةً حزينةً
تغنينا،وقدمنا لهُ أدمعَنا
ما سألنا الزمانَ يومًا ولا سألنا
نختارُ الوجعَ خلسةً دون أن يَرَنا
يا مُعيدَ الجراحِ لا تقبلْ هزيمةً
في الزوايا أذكرْ مَن كانوا قدوتنا
***
يا مُعيدَ الذكرياتِ ارفعْ صوتَنا
واهتفْ بماضٍ فيه آلامٌ تُحزِنَنا
إذا قسا الوجعُ وكسرَ عزمَنا
فلا تنس أن الروحَ تُعيدُ وصالنا
تتشبثُ الأحلامُ رغم الصعوباتِ
وتنسجُ من دموعِ الفجرِ آمالنا
يا مُعيدَ الذكرياتِ، أعدْ ضوءَنا
ولا تدعْ ظلالَ الحزنِ تُسْكتُنا
د/آمال بوحرب
إن لقصائد-د-آمال (وهذا الرأي يخصني) قيمها المؤثرة في تحريك حساسية القارئ،من خلال دهشة الصور والاستعارات والفيوضات الوجدية التي تبثها في الأنساق بين الفينة والأخرى،مما يجعلها غاية في الرقة والحساسية والجمال.
ومن هنا،فإن المثيرات الجمالية التي تؤسسها قصائدها ترتكز على الصور اللاهبة بدلالاتها،وكثافتها،وحركتها الجمالية،مما يدل على شعرية بالغة التنوع،والمواربة،والاختلاف في رؤاها ومؤثراتها الجمالية،وهذا ما يحسب لها على الصعيد الإبداعي.
وإذ أسجّل إعجابي الكبير-بالإبداعات الشعرية-للشاعرة التونسية د-آمال بوحرب التي تطمح دوما عبر كتاباتها الإبداعية إلى التطوّر والتجاوز،فإنّي أؤكّد على أنّ النص الإبداعي لن يخترق الحدود إلا بقوته الذاتية،كما أنّ حضور القارئ،بل حلوله،في الماهية الإبداعية الملغزة،هو وضع طبيعي يعكس انفتاح المبدع كإنسان على أخيه الإنسان،ويعكس انفتاح الكتابة الإبداعية الجديدة على العالم الحسي المشترك،والوقائع والعلاقات المتبادلة،وأيضًا على الأحلام والهواجس والافتراضات والفضاء التخيّلي غير المقتصر على فئة نخبوية من البشر دون سواها..
ولنا عودة إلى المشهد الشعري لهذه الشاعرة الفذة..ريثما يختمر عشب الكلام..