أمد/
في لقائي الأول بالأسير ناصر مزيونة أبو سرور في سجن هداريم (يوم 31 تموز 2019) حدّثني عن علاقته بالجدار، فهو ابن مخيّم عايدة، وحين اعتقل كتب على جدار زنزانته الأولى: “وداعاً يا دنيا” وتعلّق بالجدار، أصبح الجدار هُويّته وربّه، وآمنْ بأنّ الجدار هو ثابتكَ الوحيد فالتصقْ به ولا تسقط عنه.
تحدّثنا عن الثقب الأسود والكتابات المثقوبة، وعن أزمة الحركة الأسيرة، وعن القراءة داخل السجن حتّى تخمّرت الأفكار بما فيه الكفاية، ووجد أنّ لديه الرغبة في الكتابة، ويمتلك القدرة عليها، حلم بشرفة وحديقة وفنجان قهوة وأوراق ليكتب، فأقنع نفسه بأن شبّاك السجن شرفته فبدأ يكتب… ولم يتوقّف.
وفي لقاءاتي المتكرّرة بناصر كان الجدار حاضراً؛
تحدّثنا عن مشروع إصداره الأوّل الذي يراه ولادة ابن بكِر، فهو يريد دار نشر وليس مطبعة، وعن ظُلم المرأة؛ المرأة في مجتمعنا تحت الشُبهات، كلّ رجل من حولِها يرغب في شقّ ثوبها أو بابها أو كليهما معًا، وحرب الرجل غير المعلَنَة ضد المرأة هي أطول حروبات التاريخ، وعن حريّة التعبير السليبة في مجتمعنا، فنسينا من ماتوا وعلى أكتافهم صارت لنا منابر، ومقته للرقابة على أنواعها فأنت مجموع أجزائك وإذا تنكّرت لجزئك فلست أنت! لهذا يتوجّب علينا تحطيم الرقابة ليولد جيل واع، لا يلتقي الوعي والرقابة معًا، خاصّة أنّ عاداتنا السريّة أكثر من المُعلنَة.
وكم كنت سعيداً حين استلمت في شباط 2023 نسخة من رواية “حكاية جدار” (343 صفحة، تصميم الغلاف: نجاح طاهر، إصدار: دار الآداب للنشر والتوزيع).
هي ليست حكاية ناصر. إنّها حكاية جدارٍ قرّرَ أن يختاره شاهدًا على ما يفكّر به ويقول ويفعل… لقد أعطاه الجدار صِفاته وألقابه كلّها منذ بداية المشوار، في المخيم، على هامش المدينة، في السجن، وفي قلب امرأةٍ أو على أطرافه.
ناصر صوتُ هذا الجدار وهكذا قرَّرَ أن يتكلّم…
كتب ناصر في بطاقته التعريفيّة:
“آمنتُ…
أنا الحي الميت وأنا الحرّ السجين وأنا الشاب في مُنتصف الأربعين، وأنا الشهيد في جنّتي لا خمرٌ ولا حورُ عيْن.
آمنتُ…
بالله ربّ القيد والسلاسل، وربّ الجوع والحروب والزلازل وربّ الأحياء والأموات، وربّ الفقراء وربّ المتوسِّطين.
آمنتُ…
أنّ مؤبّدي لم يبدأ بعد، وسمائي برقٌ ورعد
وأنَّ أمي توقّفت عن العدّ، وأنَّ أبي مات مقهوراً
لا صلاةَ ولا عزاءَ ولا مُشيّعين.
آمنتُ…
أنّ فلسطين عِشقي وجزائري ودمشقي، وأنّ اليرموك عِتقٌ وأنّ العودة حقّ، وأنّ القدس محبوسةٌ في عيون السُكارى والمُصلّين.
آمنتُ…
بخضرةِ العُشبِ ولذّة الشرب ودهشة الحبّ وروعة الربّ
وأنّ وُعودي ماءٌ وظِلي فضاء، وأنّ تغريبتي ترنيمة الأسرى وصلاة اللاجئين.
آمنتُ…
أنَّ جدران الزنزانة حقيقة، وأنّ قيدي حديدٌ، ومعصمي جليدٌ وأنّ زائرتي شرقيّة الملامح لا تنسى ولا تُصالح، وأنّها وُلدت من رحم تشرين.
آمنتُ…
أنّ فقري غِنى، وعُزوبتي اشتياقٌ، ويُتمي شظيَّةٌ، وأنّ الذي يأخُذني إلى أبي ليلاً بُراق، وأنّك يا أمّي إذا متِّ قَبلي تخونين”. (ص. 228-230)
الجدار هو أصل الحكاية، يُلازمنا طيلة الوقت وفي كل زمان ومكان، جدار فكري في وعينا بدايةً وفي محيطنا ثانيةً لنصبح كلنا سجناء.
نجد الأسير الفلسطيني يصارع الجدار؛ الاحتلال الجائر والقهر والظلم، ووجدتها فعلاً سيرة وحكاية ورواية جدار وليس سيرة ناصر فحسب، فالجدار هو بطل/ لا بطل الرواية.
صوّر ناصر الواقع والاحتلال تصويراً بانورامياً ثاقباً ثلاثيّ الأبعاد (ص. 103)، اللجوء وواقع المخيم، الطرد والتهجير، ابن المخيّم على علّاته (الخائن، الهارب، المهاجر، اللاجئ، الغريب، الطريد، والدخيل)، رومانسيّة جيل الانتفاضة، انتفاضة الحجارة، المخيّم والانتفاضة.
صوّر ساعة الاعتقال (ص. 47)، والتحقيق الوحشي، و”الاعتراف” (ص. 53)، العزل الانفرادي في سجن الرملة ورحلات “البوسطة” البغيضة، ويتناول بحرقة ضياع قضية الأسرى ووأدها عن غير حق.
حوّلت الانتفاضة المهمشين إلى آلهة، ولكن ألوهيتهم لم تكن وهما بل هي ألوهية تنزف وتموت ولكن في موتها استمرار وحياة وحرية، كانت مكذبا لكنها كانت أيضا إيمانا بإمكانية فلسطين ولا نهائية النضال من أجلها، إيمانا بضرورة النضال وعدم كفايته بأن في توقفه موتاً وفي استمراره حياة.
لناصر موقف واضح تجاه اتفاقية أوسلو التي رأى فيها كذبة صغيرة ورواية مجزوءة على عكس روايات النضال، لأن ما جاءت به لا يشبهنا، ولا يشبه مشروعنا فهي ليست مشروع الفلاح أو العامل، أخلاقها وقيمها غريبة لا تتوافق مع ما يلزم لبناء رواية يؤمن بها الفلسطيني ويكتبها بنضاله.
أن أوسلو أغنية لا بحر فيها، حدودها ضيقة ولا تتسع لأحلام وآمال أسير المؤبد، ممّا أوجد (آلهة الكذب) التي ظلّت على غيّها تصدّق وتؤمن وتكتب الشعارات، وتوزّع منشوراتها الشهرية، وتدعو للثورة، ويصوّر بسخرية سوداويّة كبير المفاوضين، آسف، كبير الرُواة الذي “وصل إلى قاهرة مصر ليوقّع على وثائق وخرائط عجز هو عن تفسيرها” (ص. 95).
وجدتُ الكتاب عبارة عن سيرة ذاتية في رواية، تنقلنا من أمل الثورة إلى خذلان السلطة، أما الجدار فيبدو اسما حركيا لناصر، فيقول في سجني جداري أنا وأنا الجدار، وهذه أشيائي وتلك أسماؤها. هذا موجز الرواية الأول، رواية ناصر عن نفسه، أما السيرة تتكون من جزءين، الأول: أنا، ربّي وضيق المكان، والجزء الثاني: أنا، قلبي وضيق المكان
هذه الموازاة بين الرب والقلب لها دلالاتها ولها ثاراتها، حيث يبدأ الثأر الأول من المخيم، وهو خطيئة إسرائيل الكبرى، في حين أن الثأر الثاني يبدأ من السجن، ويكتمل الثأران بالخوف الدائري الذي يواسي به ناصر نفسه حين يعود إلى نفسه، وفي آخر الفصل يتحدث عن تصالح ما بين هذين التناقضين من خلال الحديث عن الولادة مرتين، مرة في المخيم ومرة في السجن.
محطات الخذلان التي كتب عنها ناصر كثيرة ومتعدّدة: خذلان الثورة لأبنائها، خذلان المخيم للاجئين، السجن والمرأة.
التهم التي يوجهها ناصر في روايته، والتي قسمها إلى المخيم، السجن، المرأة، فالمخيم بالنسبة لأبو سرور هو جغرافيا الألم، باستثناء لحظة واحدة هي انتفاضة الحجارة، حين تحول أطفال الخذلان من مؤمنين بالثورة إلى أنبياء، يتحول نسلهم إلى آلهة، فالمخيم الذي أخذ حياة الفلسطينيين استعاد عافيته وأخذ بثأره في إنتاج جيل كان المخيم والقرية والمدينة وكافة فلسطين بحاجة إليها.
التهمة الثانية هي السجن، الذي قسمه ناصر إلى مراحل تدرج في الحديث عنها، ابتداء من اعتقاله عندما لاقى حديد البنادق، ووحوش الحديد جبينه في لحظة الاعتقال إلى تفاصيل السجن، والاعتراف والانشغال بالجدار، وصولا إلى الشهيد الأسير فارس بارود المحتجز جثمانه في ثلاجات الاحتلال إلى حين انتهاء محكوميته فبارود كان قد التقى أبو سرور في “البوسطة” ولأجله أكمل الأخير الكتابة.
التهمة الكبرى التي يقولها ناصر والتي يذكرنا بها دوما: هي عدم إدراكنا لمعنى الجدار، الذي يلجأ إليه الإنسان ويتحول إليه ويؤنسه، حينما يفقد كل مرجعية للثبات.
يصل ناصر إلى خلاصة مفادها: “سأكملُ الحكاية من أجل فارس (بارود الذي ما زال جثمانه محتجزاً في ثلّاجات الاحتلال، ح.ع) وكل الذين سبقوه من فرسان، وآخرين لم يترجّلوا بعد وغيرهم لم يُتقنوا فنون الجدار ومهارات التعلّق ونجاة الالتصاق، لا ليتعلّموا منها أو يستَقوا منها عِبرا ودروساً، فلكلّ جدارٍ حكايةٌ وصاحبٌ يرويها، ولكلّ صاحبٍ عالمٌ وفضاءٌ وضيقٌ، له أبجديةٌ وأشباهُ أشياء وأشياء أخرى اكتملت، وله وجع وانتظار، وله حقُّ الرواية، في الكتابة علاجٌ وفسحات، وكلّ ما شحّت به الدنيا عليك من مساحاتٍ بيضاء أنت تُملي عليها سطورها بأيِّ لغةٍ تختارها أنت”. (ص. 73)
وجدت ناصر مثقّفا مشتبكاً؛ تناول بحرفيّة لوسيا (آلهة الحوامل وميسّرة الولادة)، وجونو (لمن أراد زيجة صالحة)، ونبتون (لكلّ بحّار تمزّقت أشرعته وضلّ طريقه في البحر)، ومارس (رفيق المحاربين)، وسكارليت وحبيبها في رواية “ذهب مع الريح”، وأفروديت (آلهة الجمال في الأسطورة اليونانيّة)، وحكمت ودنقل وجياب وجيفارا، وفيلم (Notting hill) وعلاقته بسيزيف… ومطاعم ميشلين الأوروبية (شوّقتني لوجبة ميشلينيّة معاً عزيزي ناصر!).
راقت لي فلسفته حول ترتيب الوقت وأهميّته (ص. 61) وأخذني للمثل الروسي “بدّك شغلِة أطلبها من واحد مشغول، دائماً بِلاقي الوقت، بعكس العطّال بطّال)، وعندما قرأت عن حفنة من تراب الوطن (ص.62) تذكّرت صديقي “أبو حمدي” (رحمه الله) الذي كان مغترباً في النرويج وفي إحدى زياراته للبلاد أجبر ابنه (الفلسطيني/ النرويجي) أن يحمل معه صخرة من البلاد لتبقى فلسطين قريبة منه.
كلمات لا بدّ منها؛
الأولى؛ حدّثني في لقاءاتنا عن رغبته باحتضان شذا، ابنة أخته، التي “تراه” أكثر من غيرها رُغم فقدانها البصر، وداد وانشراح… ومزيونة التي كانت روحها معنا في لقائه الأخير بها حين انتصبت رُغم مرضها وباحت له بسرّها، كعشيقة خجولة: “إمّك مقرِبطة. بدّيش أموت. إذا عزرايين بقرّب بقُصّ راسه”… تنتظر عناقه حرًا طليقًا!
والثانية؛ من خلال لقاءاتي بالأسرى تعرّفت على نجود ورأفت، يقين وعمار، سناء ووليد، منار وأسامة، صمود وعاصم، سنبل وباسل، وغيرهم كثر، صبايا قدّيسات ارتبطن بأسرى من ذوي الأحكام العالية، فبات الارتباط متنفّساً للأسير ومدّه بالأمل، ورغم انفصال ناصر ونَنّا وتبخّرها من حياته كتب:
“تشرين كأسٌ وناديةٌ وأنا الواقف على الهاوية، تشرينُ فستانُ سحابةٍ، وحيدة، تسبح عارية في ظلال الأمسيات” (ص.299)، ويبقى السؤال مفتوحاً للباحثين حول هذه الظاهرة.
والثالثة؛ سألني ذات لقاء عن حيفا، فأجبته باقتضاب، فغضب منّي وقرّعني قائلاً بأنّ “لحيفا قدسيّتها ولا يحقّ لك أن تجاوبني بكلام عابر وأراد أن يقطع اللقاء وكتب قصيدته “خُذْني إلى حَيْفا”:
“خُذْني إلى حَيْفا سَأَلْتُكَ مَخْجولاً ودَفَنْتُ
رَأْسي
خُذْني إلى حَيْفا أستعيدُ ذاكِرَتي
وأَغْفِرُ لي حينَ
نَسيتُ
دُوارَ البَحْرِ
وَكَوْمةَ الصَخْرِ
وحينَ رَسَمْتُ على جداري مدينةً
تُشْبِهُها
شُلَّتْ يَدايَ
وَبِئْسَ الذاكِرين” (نُشِرت لاحقاً في مجموعته الشعريّة “عن السجن وأشياء أخرى”)
نعم؛ كان مطلع الجزء الأول: أنا، ربّي وضيق المكان، وصار في الجزء الثاني: أنا، قلبي وضيق المكان، وتبيّن أنّ ضيق المكان هو أصل الحكاية.
[*] مداخلتي في ندوة أسرى يكتبون في رابطة الكتاب الأردنيين (الخميس 17.10.2024)