أمد/
في ديوانه في بناية مكتب رئيس الوزراء في «القرية الحكومية» غربي القدس، والواقعة فوق أرض الشيخ بدر الفلسطينية، سلّم رئيس الوزراء الإسرائيلي، مساء الثلاثاء الماضي، وزير أمنه الجنرال المتقاعد يوآف غالانت، رسالة إقالة، ونشر فور ذلك شريطا قال فيه «الثقة تصدّعت بيني وبين وزير الأمن وأصبحت بيننا فجوات واسعة في إدارة المعركة الحربية»، ووجه إلى غالانت تهمة إطلاق تصريحات والقيام بتصرفات تتناقض وقرارات الحكومة، وأشار إلى أن أزمة الثقة أصبحت علنية «واستمع إليها الأعداء واستفادوا منها كثيرا». وجاء في بيان نتنياهو أنّه قرر تعيين يسرائيل كاتس وزيرا للأمن خلفا لغالانت، وتولية غدعون ساعار في وزارة المالية.
لم تكن إقالة غالانت مفاجئة، وكان من الواضح في الأشهر الأخيرة أنّ نتنياهو يتحيّن الفرصة المناسبة لتنحيته عن وزارة الأمن، بسبب استقلاليته النسبية وعلاقاته الوطيدة والحميمية في واشنطن وارتباطه الوثيق بالمؤسسة الأمنية التي يتهمها نتنياهو بأنّها تناصبه العداء. وجاء اختيار توقيت التنحية تبعا للتطوّرات الداخلية في الائتلاف الحاكم، والحاجة لإزاحة غالانت لتمرير قانون إعفاء اليهود الحريديم من التجنيد، بعد أن هددت الأحزاب التي تمثلهم، هذا الأسبوع، بإسقاط الحكومة إذا لم يجرِ سن هذا القانون في الكنيست. كما قدّر نتنياهو أن الانشغال الإعلامي بالانتخابات الأمريكية يضعف الاحتجاج على الإقالة، التي من المتوقّع أيضا أن يخف الاهتمام بها تبعا للهجوم الإيراني المتوقّع.
يمكن القول بكل بساطة إن نتنياهو ما كان ليقدم على إقالة غالانت، لولا أنه على ثقة بأنه يستفيد منها من جهة ويستطيع تحمّل ثمن تبعاتها من جهة أخرى. ويبدو أن التبعات ليست ثقيلة، لأن الجنرال غالانت لم يحقق إلى الآن النجاح والنصر في الحرب، ولو جاء بنصر مقنع، لما تجرّأ نتنياهو على الإطاحة به في خضم المعارك الحربية. وفي خلفية الإقالة، يبرز الخلاف حول من المسؤول في القيادة الإسرائيلية عن فشل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وعن الإخفاق في تحقيق أهداف الحرب. ويبدو أن احتدام الخصومات في محافل الحكم في الدولة الصهيونية هو نتاج للارتباك والتخبّط، بعد صدمة «طوفان الأقصى» وما تلاها، والظاهر أن «الإنجازات» الأمنية والعسكرية المتتالية في الآونة الأخيرة، لم تكن كافية لإخراج القيادة الإسرائيلية من حالة اضطراب ما بعد الصدمة. في شهر مارس/آذار من العام المنصرم، قرر نتنياهو إقالة غالانت، لكنّه اضطر إلى التراجع تحت وطأة المظاهرات والإضرابات. هذه المرة لن يتراجع، خاصة بعد أن تراكمت عنده أسباب إضافية للإقالة. من الناحية السياسية، لا توجد فروق جوهرية بين نتنياهو وغالانت، فكل منهما متطرّف على طريقته، وكلاهما مسؤولان بالدرجة نفسها عن حرب الإبادة الجماعية والدمار الشامل والتطهير العرقي في غزة، والاثنان يفاخران بالعدوان الوحشي الإجرامي على لبنان، وبجرائم الاغتيال المتكررة والمتواصلة، وهما متهمان في المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم حرب، ومن المفروض أن تصدر مذكّرة اعتقالهما قريبا. ومع أن السياق العام هو أن مجرما يقيل مجرما مثله، الّا أن هناك فروقا بينهما في عدة قضايا ومواقف، بعضها مهم وله تأثير على سير الحرب.
الفرق الأهم بينهما هو أن غالانت أيد بقوة التوصّل إلى صفقة تبادل للأسرى ولوقف إطلاق النار، وعاد وأكّد في مؤتمره الصحافي بعد الإقالة بأن الأمر ممكن وأن الجيش يستطيع تحمّل «أثمان» هذه الصفقة. نتنياهو يعارض بشدّة أي صفقة، وقد تبين مؤخّرا أن مكتبه تورّط في مخالفات أمنية خطيرة وتسريبات للصحافة الأجنبية هدفها، إظهار أن حركة حماس ويحيى السنوار تحديدا كانا ضد الصفقة، وذلك لتبرئة ساحة نتنياهو في الشارع الإسرائيلي وتخفيف ضغط عائلات المحتجزين عليه. موقف غالانت في محصّلته يفضح كذب نتنياهو بأن حماس هي العائق. وبغض النظر عن الدوافع والحسابات، فإن هذا تباين مهم جدا في المواقف، وله أثر مباشر على استمرار حرب الإبادة في غزة، التي يتحمل الاثنان مسؤوليتها، لكن أحدهما يقبل بوقفها في إطار صفقة، والثاني يسعى لإطالتها قدر المستطاع. لقد بسط نتنياهو هيمنة كاملة على القرار السياسي في إسرائيل، من خلال الحكومة والأغلبية البرلمانية، وهو يسعى لمد سيطرته إلى القيادة الأمنية أيضا، ويرى في غالانت عائقا أمام وصوله إلى هذا الهدف، وقرر إزاحته لأنه يبدي بعض الاستقلالية في المواقف، ولأن إقالته تسهل على نتنياهو الإطاحة بالقيادات الأمنية غير الموالية له، وفي مقدمتها رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، الجنرال هرتسي هليفي، ورئيس الشاباك رونين بار. وعندما يتمم نتنياهو انقلابه السياسي على العسكر، فإنه يقترب من حلم السيطرة على السلطة التنفيذية بالكامل، إضافة إلى هيمنته على السلطة التشريعية، ولا يبقى له سوى مواصلة التغيير في السلطة القضائية، وقد دعا الأسبوع الماضي إلى التخلص من المستشارة القضائية للحكومة، التي تعتبر رأس الهرم في النيابة العامة، واتهمها بعرقلة عمل الحكومة. ويعتقد نتنياهو ومن حوله بأن إزاحة المستشارة ورئيس الشاباك ستؤدّي إلى وأد التحقيق في فضيحة سرقة وتسريب الوثائق السرية، خاصة أن الشاباك هو الذي يحقق والنيابة العامة هي التي تقرر في مصير الملف.
في مؤتمره الصحافي، بعد الإقالة بساعات، قال غالانت إن أحد أسباب إقالته هو إصراره على إقامة لجنة تحقيق رسمية حول السابع من أكتوبر وما تلاه. ومن المعروف أن نتنياهو يحاول بلا كلل منع إقامة مثل هذه اللجنة، ويقوم بحملة دعائية مكثّفة لتبرئة ساحته من المسؤولية وتحميلها لقيادات الأجهزة الأمنية «التي لم تكن جاهزة ولم تقم بتحذيره في الوقت المناسب». ويبدو أن نتنياهو على قناعة بأن إبعاد غالانت عن وزارة الأمن يضعف تأثيره على مسألة التحقيق في المسؤولية عما جرى في العامين المنصرمين، إضافة إلى خلفية «حقد» نتنياهو على غالانت، جاء تهديد الأحزاب الدينية التوراتية بإسقاط الحكومة، ليضغطه للاستعجال في إقالة غالانت، الذي لم يرفض قانون إعفاء الشباب «الحريديم» فحسب، بل كان ينوي إصدار 7000 استدعاء للخدمة العسكرية لهم. ويبدو أن إقالة غالانت أحبطت هذه الاستدعاءات، وفتحت الباب أمام سن قانون الإعفاء وضمان استقرار الائتلاف الحكومي.
لا يبدو أن إقالة غالانت ستؤدّي إلى تغييرات مهمة في إدارة العدوان على غزة ولبنان، ولكنها قد تسهّل تنفيذ بعض الأمور التي عارضها غالانت مثل، قيام الجيش الإسرائيلي بتوزيع المعونات الإنسانية بشكل مباشر، كما يريد نتنياهو، الذي يسعى إلى تعميق الاحتلال في غزة وتوسيع نطاقه. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن وزير الأمن الجديد يسرائيل كاتس، قد وصل منصبه وهو قليل الخبرة، وبعد أن توصل إلى تفاهمات انسجام في المواقف والرؤى مع نتنياهو، فإن الأخير سيكون وزير الأمن الفعلي لتصل قراراته الى قيادة الجيش بلا «فلترة». المتوقّع أن الغالبية في الشارع الإسرائيلي تعارض الإقالة، ولكن من المستبعد أن يشهد هذا الشارع احتجاجات ضخمة كالتي تلت الإقالة الأولى في مارس 2023، لأن هناك تعب وإجهاد من الحرب والخدمة الطويلة في الاحتياط، ولأن الانتخابات الأمريكية وتداعياتها تطغى على المشهد العام هذه الأيام، إضافة إلى اليأس من إمكانية التأثير على القرار. ما يريده نتنياهو هو ضمان استقرار حكومته لمدة عامين إضافيين حتى الموعد الرسمي لانتخابات الكنيست في خريف 2026، وهو يعمل على إطالة الحرب على غزة سنة أو سنتين، ويسعى إلى تأجيل محاكمته ومثوله فيها بادعاء «الانشغال بالحرب». وهو يعتقد أن سيطرته شبه المطلقة على مفاصل الحكم كافة تسهّل عليه تحقيق ما يروم إليه. ولعل الأهم بالنسبة له، في هذه المرحلة، أن يحقق «نصرا مطلقا»، أو أن يحرز على الأقل «إنجازات» عسكرية كبيرة تسجل لصالحه لاحقا في صناديق الاقتراع وفي كتب التاريخ. وقد آن الأوان لمساع جدية فلسطينية وعربية وإسلامية ودولية لوقف الحرب وحرمانه من هذه الإنجازات. ولو كانت هناك عدالة في هذه الدنيا لما كان المشهد هو مجرم يقيل مجرما، بل مجرمان في قفص الاتهام في محكمة الجنايات الدولية.
عن القدس العربي