أمد/
قد لا يحيد القول عن جادة الصواب إذا قلت أن المرأة تحتل عند الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي مساحة واسعة من خطابه الشعري،إذ تمثل بحكم ترددها في قصائده المحور الدلالي الثالث بعد محوري الأرض والوطن والإنسان.وهذا يعكس بشكل أو بآخر علاقة هذا الشاعر السامق بالمرأة في مختلف التجليات الإنسانية النبيلة.
وفي الواقع أن هذا الأمر ليس غريبا على مستوى الشعر العربي قديمه وحديثه،إذ إن المرأة تحتل مكانة متميزة في وجدان الشاعر العربي منذ امرئ القيس،وقيس بن الملوح وعمر بن أبي ربيعة،وكثير عزة وبشار بن برد،وأبي نواس وابن زيدون وحافظ إبراهيم،ونزار قباني، ومحمود درويش وغيرهم.
وأعتقد أن هذا الاهتمام إنما ينبع من اتخاذهم المرأة معادلا موضوعيا لأحاسيسهم المتلهفة ووجداناتهم المتقدّة،ولحرمانهم من كثير من متع الحياة وشعورهم بثقل القيود الاجتماعية التي تحدّ من حريتهم وعلاقتهم بالمرأة بوجه خاص يفرغون فيها أحاسيسهم المتدفقة.
فإذا كان الشاعر لا يستطيع أن يبوح بأحاسيسه ومشاعره علانية في العالم الخارجي فإنه يبثها في عالمه الشعري من خلال تناوله للمرأة المعشوقة كي يُحدث بذلك توازنا نفسيا داخليا تعقبه راحة وشعور باللذة التي لا تعادلها لذة.
و د طاهر مشي ليس بدعا من الشعراء بل هو واحد منهم رأى في المرأة ما رآه الآخرون معشوقة وأماً وأختاً ومعادلاً فنياً للأرض والوطن والإنسان..
ولكن من يتتبع معاني الحب والعشق عند “الطاهر “وعلاقته بالمرأة انطلاقا من شعره يجد أن الشاعر قد صبغ خطابه بلون خاص يميزه عن غيره من الشعراء في تعامله مع المرأة وفي التركيز عليها.
وهنا أقول : يعتبر الشاعر التونسي الكبير د–طاهر مشي من الشعراء الذين يملكون إحساسا مرهفا يسافر بك إلى أعماق المرأة عبر مركبة مليئة بالأحداث التراجيدية والدرامية أحيانا،تشهد له كتاباته الغزيرة عن تمكنه من مفاتيح الغزل والحب فهو يتنفس العشق بين حروف قصائده كل الكلمات تحملك إلى جنان الروح يفوح عبق الورود يلامس القلوب المرهفة ويناشد المرأة كملاك يسمو عاليا بين النجوم والقمر.
من خلال طقوس خاصة ينسج ترانيم قصائده فتحس بأجواء محراب الغزل حيث تتعالى ألحان الشوق لتلامس شغاف القلوب المرهفة،كل قصائده العشقية تحس فيها المرأة بأنوثتها مرصعة بألماس الحروف وزمرد الكلمات و نفائس الجواهر.
شاعر ينزف الوجع مع ذكريات حاضرة مرسومة على ملامح حبيبة غافية غائبة في وجدان الذات الإنسانية.هاجعة خلف شغاف قلب الشاعر..حاضرة بالغياب..وكأني به يقول : أيتها المفقودة الموجودة الغائبةالحالمة الناعسة بين أحضان المعاني المتوشحة بالخفاء على أرض الأبجدية..”بي شوق إليك..أضنى قلبي..”
بي شوق إليك..أضنى قلبي
في غيابك
تبخّرت كلّ الأحلام
وخيّمت عليّ الأوهام
فما طاب نومي
ولا رامت عيناي المنام
فكم ادركني الضّياع
ونهش الشوق العظام
فقد بتّ سليلا
أهذي على الدّوام
في غيابك
تغيّرت كلّ المسارات
وبات الحلم مستحيلا
فقد اشتدّت العتمة
وضاعت بوصلتي في دياجير الليالي
في غيابك
ما عدت أنا
فقد ضاعت روحي
ونزفت جروحي
وسال الدّمع من شدّة نَوْحي
في غيابك
باتت كلّ الرّوايات طلاسم
وبات رحيلي
في هواك مراسم
(طاهر مشي)
قصيدة كأنها تقول لنا بلوعة واحتراق: كانت هنا..لتغيب عني ويبقى شذاها ذكرى محملة بوجع ذكريات اللحظة الأولى،لحظة انثيال الإحساس الجارف بأنثى الوجود الأول وولادة صفاء يحتضن طبيعة خلَّقها الحب فكانت أرض وجد وشوق وعشق وهيام..
يحترق المعنى في أتون الغياب لتبقى الكلمة شاهدا و(الحبيبة) نداء يحتضن صداه قصيدة ناشدها الغياب فاستجابت القوافي لتكون قفلة ونوتة موسيقية تعبر عن شجن الشاعر واختفاء الكلمة الاسم ليبقى المعنى وجعا ينزف حيرة تذوب فيه الأنا.
تتربع الأنثى على عرش القلب لتحتل كل المساحات يجسد وجودها شعر شاعر لا يستطيع التخلي عنها ولا نسيانها.يشقيه حنين ويطيح به وجد،فهو الأصل الذي يحن إلى فرعه،وهو الوليد الذي يتوق إلى أمه،وهو الحبيب الذي يبحث عن حبه،في زمن يبدو لنا ولكأنه مفروش بالمواجع..بالغياب..وبالرحيل..!
للأنثى إغراء وتمنع،ولشاعر القصيدة انكسار لا يفارق خياله،يتضاعف الشوق لحبيبة خذلتها الرؤيا فغابت أمام مرآة الخيال وفقدت القدرة على التماهي مع مشاعر شاعر أصبح يعيش معاناة التمزق ووجع يلازم قلبا تُروى في نبضه الحكايا..يجتاح الشاعر إعصار وجداني يفقده الإحساس بلذة الحياة في عالم صنعه خيال الواقع ليتوق إلى حضور قد تصنعه يد القدر..
يتنقل الشاعر بحرفية اللغوي المتمرس والمتمكن من ريشة الرسام البارع،ليُلقي المعنى الحي في روع الصورة ويحدث شرخا بين عالمين على طرَفَي نقيض بين من يكتب الشعر انطلاقا من واقع الخيال،ومن يكتب الشعر انطلاقا من خيال الحقيقة.
للصورة الشعرية حركة وحس على أرض قصيدة تصبح آهلة بأرقى المشاعر وأصدقها تتفاعل وتؤثر في كل من يكون بين يديها،تسكن وجدانه فيشعر بروعة جمال الصورة وعذوبة حلاوة معنى له نماء في عقل وفكر يعزف لحن شاعر تتهادى على إيقاعه قوافل القوافي،رغم تمظهرات الوجع لتقول لنا الصور الفنية المنبجسة من رحم قصيدة عذبة،مطرزة بالوجَع وموسومة بمهارة ب” بي شوق إليك..أضنى قلبي “
سأصمت..إجلالا وإكبارا لهذا الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي..ريثما يختمر عشب الكلام..