أمد/
واشنطن: في مشهد سياسي غير مسبوق داخل أروقة البيت الأبيض، تصاعدت حدة المواجهة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وحاكمة ولاية ماين الديمقراطية جانيت ميلز، على خلفية قضية مشاركة الرياضيات المتحولات جنسيًا في فرق الفتيات.
وعكست المواجهة العلنية، التي شهدها اجتماع رسمي للحكام الأمريكيين في البيت الأبيض، عمق الانقسامات السياسية في الولايات المتحدة بعد عودة ترامب إلى السلطة في انتخابات نوفمبر 2024، وتنذر بمرحلة جديدة من المواجهات الدستورية بين السلطة الفيدرالية والولايات ذات التوجهات الليبرالية.
مواجهة في قاعة الدولة
خلال اجتماع رسمي ضم حكام الولايات من الحزبين الديمقراطي والجمهوري في قاعة الطعام الرسمية بالبيت الأبيض يوم الجمعة، أثار الرئيس ترامب موضوعًا شديد الحساسية يتعلق بأمره التنفيذي الأخير بشأن الرياضيات المتحولات جنسيًا، موجهًا سؤالًا مباشرًا لحاكمة ولاية ماين جانيت ميلز، حول ما إذا كانت ولايتها ستمتثل للأمر الرئاسي.
وبحسب ما أوردته صحيفة واشنطن بوست، ردت "ميلز" بطريقة دبلوماسية في البداية، مؤكدة التزامها بـ "القانونين الولائي والفيدرالي"، في إشارة ضمنية إلى التعارض بين الأمر التنفيذي الفيدرالي وقوانين ولاية ماين التي تحمي حقوق المتحولين جنسيًا.
لم يرضَ ترامب بهذه الإجابة الدبلوماسية، فقاطعها بحدة قائلًا: "نحن القانون الفيدرالي"، متبعًا ذلك بتهديد صريح: "عليكِ الامتثال، وإلا فلن تحصلي على أي تمويل فيدرالي على الإطلاق".
في مواجهة هذا التهديد المباشر، لم تتراجع ميلز أو تتردد، بل ردت بعبارة موجزة لكنها قوية: "أراك في المحكمة"، في حين أن هذه العبارة التي تحمل تحديًا صريحًا لسلطة الرئيس، أشعلت توترًا واضحًا في قاعة الاجتماع، وكشفت عن استعداد ولاية ماين للدخول في معركة قانونية طويلة مع الإدارة الفيدرالية دفاعًا عن سياساتها المحلية.
رد ترامب على هذا التحدي بأسلوب يمزج بين الثقة بالنفس والتهديد السياسي: "حسنًا، سأراكِ في المحكمة، أتطلع إلى ذلك، ستكون قضية سهلة للغاية"، ثم أضاف تهديدًا شخصيًا: "واستمتعي بحياتك بعد منصب الحاكم، لأنني لا أعتقد أنك ستبقين في الحياة السياسية".
خلفية الصراع
تعود جذور هذه المواجهة الحادة إلى قرار اتخذه ترامب في الأيام الأولى من فترة رئاسته الثانية، حيث وقع أمرًا تنفيذيًا يستهدف إعادة تعريف المشاركة في الرياضات النسائية على أساس الجنس البيولوجي فقط.
وبحسب التفاصيل التي كشفتها صحيفة واشنطن بوست، فإن هذا الأمر يدعو الحكومة الفيدرالية بصورة صريحة إلى "سحب جميع الأموال من البرامج التعليمية التي تحرم النساء والفتيات من فرص رياضية عادلة"، في إشارة واضحة إلى البرامج التي تسمح للرياضيات المتحولات جنسيًا بالمشاركة في منافسات الفتيات.
أحدث هذا الأمر التنفيذي موجة من التغييرات في السياسات الرياضية على المستوى الوطني، إذ قرر الاتحاد الوطني الرياضي الجامعي، وهو أكبر هيئة لتنظم الرياضات الجامعية في الولايات المتحدة، تغيير سياسته بشأن الرياضيين المتحولين جنسيًا استجابة للضغط الفيدرالي.
ونص القرار الجديد على قصر المشاركة في الرياضات النسائية على اللواتي صنفن إناثًا عند الولادة، مما يمثل تحولًا كبيرًا في سياسة كانت أكثر شمولًا في السنوات الأخيرة.
لكن في ولاية ماين، اتخذت رابطة مديري المدارس، وهي الهيئة المسؤولة عن تنظيم الرياضات المدرسية في الولاية، موقفًا مغايرًا تمامًا، إذ أعلنت أنها ستواصل السماح للفتيات المتحولات جنسيًا بالمشاركة في المنافسات الرياضية، مستندة في ذلك إلى قانون الولاية الذي يحظر التمييز على أساس الهوية الجنسية، ومؤكدة أن الإجراء الفيدرالي يتعارض مع هذا القانون.
صراع قانوني
تستند إدارة ترامب في موقفها إلى تفسير محافظ للباب التاسع (Title IX)، وهو التشريع الفيدرالي الذي يحظر التمييز على أساس الجنس في المؤسسات التعليمية التي تتلقى تمويلًا فيدراليًا. وتجادل الإدارة بأن هذا القانون يتطلب من الحكومة حماية الفرص الرياضية المخصصة للإناث بشكل كامل، بما في ذلك المنافسات الرياضية وغرف تبديل الملابس.
وتشير الصحيفة إلى أن إدارة الرئيس السابق جو بايدن كانت قد أصدرت في عام 2024 قواعد توسع نطاق الباب التاسع؛ ليشمل الحماية من التمييز على أساس الهوية الجنسية والتوجه الجنسي، غير أن قاضيًا فيدراليًا ألغى تلك القواعد في يناير الماضي، وسارع ترامب في يومه الأول بالرئاسة إلى إصدار أمر تنفيذي، يؤكد أن الولايات المتحدة ستعترف فقط بالجنس البيولوجي كأساس للتصنيف في جميع السياسات الفيدرالية.
تحقيق فيدرالي وتداعيات سياسية
لم تتوقف تداعيات المواجهة عند حدود التهديدات المتبادلة، بل سارعت وزارة التعليم الأمريكية إلى اتخاذ إجراء عملي، فبعد وقت قصير من مشادة يوم الجمعة، أعلنت الوزارة في بيان صحفي أن مكتب الحقوق المدنية التابع لها أطلق تحقيقًا رسميًا مع إدارة التعليم في ولاية ماين بشأن انتهاكات محتملة للباب التاسع.
وذكرت واشنطن بوست أن التحقيق سيفحص مزاعم خطيرة بأن إدارة التعليم في ماين "تواصل السماح للرياضيين الذكور بالتنافس في الرياضات المدرسية للفتيات"، وأنها "حرمت الرياضيات الإناث من مرافق خاصة بهن، مما ينتهك قانون مكافحة التمييز الفيدرالي".
كما أشار البيان إلى توسيع التحقيق ليشمل المنطقة التعليمية رقم 51 في ماين، بعد تقارير تفيد بأن إحدى المدارس التابعة لها تسمح "لطالب ذكر واحد على الأقل بالتنافس في فئات الفتيات".
في أعقاب المواجهة العلنية، أصدرت الحاكمة ميلز بيانًا، قالت فيه إن ولاية ماين "لن ترهبها تهديدات الرئيس".
وأضافت بلهجة تحدٍ: "إذا حاول الرئيس حرمان أطفال المدارس في ماين من الاستفادة من التمويل الفيدرالي بشكل أُحادي، فإن إدارتي والمدعي العام سيتخذان جميع الإجراءات القانونية المناسبة والضرورية لاستعادة هذا التمويل والفرص الأكاديمية التي يوفرها".
صراع القيم والسياسات
تمثل هذه المواجهة المثيرة للجدل نموذجًا للصراع الأوسع الذي تشهده الولايات المتحدة حول قضايا الهوية الجنسية والحقوق المدنية.
وكشفت واشنطن بوست أن هذه ليست المرة الأولى التي يستهدف فيها ترامب ولاية ماين بشأن هذه القضية، فقد سبق أن هدد بحجب التمويل الفيدرالي عن الولاية خلال تصريحات منفصلة ألقاها في اجتماع لرابطة الحكام الجمهوريين يوم الخميس وتأتي هذه التطورات في سياق انقسام عميق بين الولايات حول هذه القضية، إذ تشير الصحيفة إلى أن أكثر من 25 ولاية أمريكية فرضت بالفعل حظرًا على مشاركة الرياضيين المتحولين جنسيًا في الرياضات المدرسية، سواء في المدارس الابتدائية والثانوية أو على المستوى الجامعي.
ومن المثير للاهتمام أن تشارلي بيكر، رئيس الاتحاد الوطني الرياضي الجامعي، كان قد صرح في يناير بأن هناك أقل من 10 رياضيين يعرّفون أنفسهم علنًا بأنهم متحولون جنسيًا من بين 510 آلاف رياضي يتنافسون على المستوى الجامعي، مما يثير تساؤلات حول حجم القضية مقارنة بالاهتمام السياسي الذي تحظى به.
وختامًا تُشير الصحيفة الأمريكية إلى أن هذه المواجهة المتصاعدة بين الرئيس ترامب وحاكمة ولاية ماين، إلى أن الفترة الرئاسية الثانية لترامب ستشهد على الأرجح صراعات قانونية وسياسية مع الولايات ذات التوجهات الليبرالية التي تعارض سياساته المحافظة، خاصة في القضايا المتعلقة بالهوية الجنسية والحقوق المدنية.