أمد/
قمت في السنوات الأخيرة بمئات الزيارات لأسرى وأسيرات في سجون الاحتلال، وكان لكلّ زيارة مذاق آخر.
لكن اليوم قمت بزيارة مغايرة.
في زيارة لي إلى رام الله التقيت بصديقي نقولا عقل (صاحب دار الرعاة للدراسات والنشر) وأهداني كتاب “رسائل في التجربة الاعتقالية” لوائل نعيم أحمد الجاغوب وحين قرأته تبيّن لي أنّني التقيت في حينه ببعض “أبطاله” خلال مشواري التواصليّ مع أسرى يكتبون، فكان لقراءته مذاق خاصّ.
التقيته صباح 09 يناير 2020 في سجن هداريم مُطلًا بابتسامة شامخة فباغتني قائلًا: “شو جابك بهالشتا وبهيك طقس من حيفا؟” وحينها كُسِر جليد الحاجز الزجاجيّ بيننا وتبادلنا أطراف حديث مع مناضل صلب ملمّ بكلّ شاردة وواردة. حدّثني عن شعوره بالحريّة في “البوسطة” اللعينة حين كانت تعبر الكرمل، ولحيفا حضور طاغٍ في عالم الأسر وأخبرني بقصيدة نظمها صديقي الأسير ناصر أبو سرور حول حيفا يوم زرته في هداريم. تناولنا موقف الشارع الفلسطيني تجاه قضيّة أسرانا وإهماله قضيّة الأسرى، فصار اهتمام الزعامة الأوسلويّة وأتباعها لا يتعدّى الاحتجاجات “البروتوكوليّة”! والاستنكارات الموسميّة، كلّمني بثقة، منتصب القامة ومعنويّات عالية أثلجت صدري وأزالت عنّي عناء ومشقّة السفر في ذلك اليوم العاصف والماطر.
كتبت في حينه تغريدة “وجدته مناضلًا صلبًا يؤمن بقضيّته وصاحب حقّ، رسّخ في مخيّلتي ما قاله باولو كويلو: “الحالمون لا يمكن ترويضهم”!
زرته في سجن الجلبوع وتبادلنا أطراف الحديث حول الكلّ الفلسطيني والهويّة الفلسطينيّة الجامعة وأهميّة سقوط الحواجز والتركيز على ال-14 مليون فلسطيني؛ شعب واحد وقضيّة واحدة، وكلّ فلسطيني في مكانه مؤثّر، والنقد الخجول خلّص ما عليه. نعم، وجدته مناضلًا صلبًا لا يليِن. كلّمني بثقة وصلابة وعنفوان وثوريّة بريئة، لديه رؤية ورؤيا للمشهد وما يتوجّب فعله، ما زال حالمًا ولم ينجح الأسر والسجّان بكسر شوكته وترويضه.
وفي لقاء آخر قبيل طوفان الأقصى في سجن مجيدو (كان وائل رحّالة يحبّ التجوال في أرجاء الوطن السليب) خلال عزله الانفرادي (العزل القطري) أطلّ بابتسامة واثقة كعادته، ولخّص اللقاء بقوله “الساكت والصامت هو الخاسر، والمبادر هو الرابح، وكل نقطة يوجد فيها مناضل هي نقطة اشتباك”، يؤمن بأنّا شعب واحد، هويّة واحدة وخيار مقاومة واحد، والمطلب وحدة وطنية شعبيّة واحدة، وفلسطين قضيّة أوسع من الجغرافيا، وكلّ منّا يجب أن يعرف دوره. نعم، وجدته مناضلًا صلبًا لم يكسر ظهره العزل، وصورة غزل، ابنة اخته، رافقته في التحقيق الأخير ومدّته بالقوّة والعزيمة.
ما زلت أذكر كلماته حين افترقنا وصافحني عبر الزجاج المقيت ملوّحًا بيده: “مشروعنا مشروع تحرير، مش تمثيل”.
وها هو وائل يتحرّر بصفقة الطوفان.
وها نحن نلتقي (رافقني إبراهيم عارضة؛ أخو أحمد ونور) في حضن أم وائل، بِعِزّ الشتا والعاصفة، دون زجاج وحاجز، لنتعانق عناقاً طويلاً دافئاً، ونتباوس مثنى وثلاث ورباع، ترافقنا، أخيراً، ابتسامة وضحكات والدته فاستفززتها: “مكنتش أعرف إنك ممكن تبتسمي، وبتضحكي”؟
قارعته قائلاً: “كثير من الأصدقاء حوّلولي بودكاست مسارنا “زمن المؤبد انتهى…هذه حكايتي مع الزنزانة ل 24 سنة” وسألوني: فِكرك وائل بتغيّر؟”، فقال لي أنّه ينتعش للأسئلة المستفزّة، وللمقابلة من بيتا مقولة.
تحدّثنا مطولّاً عن وضع الحركة الأسيرة بعد السابع من أكتوبر، والانتهاكات الجسيمة بحقّ أسرانا خلف الزنازين، وزملاء أسر بقوا هناك وحتماً سيتحرّرون قريباً، وكما قال لي عزيزنا أحمد عارضة في لقائنا الأخير بسجن الجلبوع “مروّحين يعني مروّحين”، وتضحيات المقاومة وثمن الحريّة الباهظ، ولا يجوز أن يذهب هدراً، والوحدة الوطنيّة هي الحل من خلال قيادة وطنيّة موحّدة، ودوره القيادي الإعلامي في هذه المرحلة، ووصف لي شعوره وأحاسيسه حين أخبره ضابط الشاباك بموعد مقابلته في حوارة، يعني ترويحة مؤكّدة، وللبلد، وشعوره من استنشاق هواء الحريّة بين أهله وأبناء شعبه بعد طول غياب.
تناولنا أهميّة الحاضنة الشعبيّة للأسرى وقضيّتهم، فنشاهد في الساحات أم وائل وأبو عزمي نفاع وأبو محمد الحلبي، وجماعة الصور. لا غير. وين باقي شعبنا في بلد المليون أسير؟ سقى الله أيام الانتفاضة!
أهديته نسخة من مجموعتي القصصيّة “على شرفة حيفا”، موسومة بعطر حيفا وعبقها إلى حين لقاء يجمعنا على شرفة الحريّة.
كتب لي وائل في الإهداء الذي انتظرته منذ 19/08: “كأول تجربة لكتابة إهداء… للأستاذ حسن. ليصل شواطئ حيفا… ويبقى. وائل”.
آمل بحريّة قريبة لجميع أسرى الحريّة.
اعذرني غسّان؛ والله زيارة عن زيارة بتفرق.
السبت 22.02.2025 (نابلس/ حيفا)