أمد/
باريس: يسعى الرئيس إيمانويل ماكرون إلى تحقيق حلم ديغولي قديم: أوروبا مستقلة عسكريا وجيوسياسيتا تحت قيادة فرنسا.
وتتمثل الاستراتيجية الحالية التي يسعى ماكرون من خلالها إلى تحقيق هذا الهدف في تقديم فرنسا باعتبارها الطليعة العسكرية لأوروبا في الدفاع عن أوكرانيا، من خلال اقتراح إرسال قوات فرنسية وقوات أخرى تابعة لحلف شمال الأطلسي إلى ذلك البلد.
ففي ظل عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وتزايد الضغوط الروسية على حدود الاتحاد الأوروبي، تشهد أوروبا مرحلة محورية في إعادة تقييم استراتيجيتها الدفاعية ومستقبل العلاقات عبر الأطلسي، إذ يبدو أن الموقف الفرنسي، الذي طالما دافع عنه الرئيس إيمانويل ماكرون، حول "الاستقلالية الاستراتيجية"، قد وجد آذانًا مصغية أخيرًا بعد سنوات من التجاهل.
تحول في الموقف الأوروبي
بعد فوز دونالد ترامب في الانتخابات وتوليه السلطة رسميًا في يناير 2025، تحولت المواقف الأوروبية بشكل غير مسبوق، إذ إنه وفقًا لصحيفة "بوليتيكو" الأمريكية، بدأ ترامب بمجرد عودته إلى البيت الأبيض التفاوض مباشرة مع روسيا، حول إنهاء الحرب في أوكرانيا، مستبعدًا الأوروبيين وكييف من هذه المحادثات؛ ما أثار مخاوف من تحالف أمريكي-روسي مفاجئ.
في ألمانيا، تعهد المستشار الألماني الجديد فريدريش ميرز، بعد فوزه في الانتخابات المبكرة، بـ "الاستقلال" عن "أمريكا ترامب"، محذرًا من أن حلف الناتو قد يكون في طريقه إلى النهاية، بل إنه أثار إمكانية استكشاف التعاون النووي مع فرنسا والمملكة المتحدة لتعويض المظلة النووية الأمريكية، في تحول صادم عن موقف بلاده التاريخي المؤيد لأمريكا.
قبل يومين فقط من هذا التصريح، سافر ميرز إلى باريس للقاء ماكرون، في إشارة واضحة إلى بداية حقبة جديدة من التنسيق الأوروبي؛ لمواجهة التهديد الروسي المحتمل والتعامل مع إدارة ترامب المتقلبة.
ماكرون ولحظة "قلت لكم"
لطالما نادى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بضرورة تطوير قدرات دفاعية أوروبية مستقلة عن الولايات المتحدة، إذ تقول فاليري هاير، إحدى مساعدات ماكرون الرئيسيات في بروكسل ورئيسة مجموعة "تجديد" في البرلمان الأوروبي، كما نقلت عنها "بوليتيكو": "لقد تغيرت العصور، هذا واضح جدًا، نتساءل ما إذا كانت الولايات المتحدة لا تزال حليفة أم أصبحت خصمًا. مع ميرز؟ نقترب خطوة واحدة من الدفاع الأوروبي".
وتعود جذور هذا الموقف الفرنسي تاريخيًا إلى الجنرال شارل ديجول، الذي يُعد الشخصية السياسية الأكثر احترامًا في فرنسا، إذ قاد المقاومة الفرنسية ضد النازيين في الحرب العالمية الثانية، ثم أصبح مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة عند عودته إلى السلطة في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي.
تاريخ من عدم الثقة
كانت علاقة ديغول مع الولايات المتحدة معقدة، تميزت بالولاء في لحظات حاسمة، ولكن أيضًا بنقص في الثقة يعود إلى الحرب العالمية الثانية، حين واجه الحلفاء صعوبات في الاتفاق على هيكلية تحرير فرنسا، بل وحتى فكروا في احتلالها.
وفي خطوة درامية، انسحب ديغول من القيادة المتكاملة لحلف الناتو في ستينيات القرن الماضي، ما أدى إلى إزالة القواعد والقوات العسكرية الأمريكية من الأراضي الفرنسية، وواصلت باريس تعزيز برنامجها الذري، حتى حصلت على أسلحتها النووية الخاصة وطورت صناعة دفاعية قوية ذات روابط محدودة مع الولايات المتحدة.
تحديات الاستقلالية الأوروبية
رغم هذه اللحظة التي تبدو فيها فرنسا محقة، تشير "بوليتيكو" إلى أن هناك تحديات كبيرة أمام طموحات الاستقلالية الدفاعية الأوروبية، إذ إن حجم القوة العسكرية الأمريكية الهائل، بما في ذلك أسلحتها النووية، وميزانيتها الدفاعية التي تقترب من تريليون دولار، يجعل من الصعب على أوروبا تحقيق الاكتفاء الذاتي سريعًا.
وفقًا لدراسة نشرتها "ديفنس نيوز"، سيحتاج الأوروبيون إلى خمس سنوات لبناء بعض "الممكنات الحاسمة" التي توفرها الولايات المتحدة حاليًا، مثل القيادة والسيطرة الميدانية، والأقمار الصناعية العسكرية لجمع المعلومات الاستخبارية، وقدرات الضربات العميقة.
بالإضافة إلى ذلك، بنت دول مثل ألمانيا وبولندا، وهي مشترٍ رئيسي للأسلحة الأمريكية، سياساتها الخارجية والدفاعية بالكامل على روابط قوية عبر الأطلسي.
وكانت هذه الدول تخشى أن التحول نحو باريس، استباقًا لانسحاب أمريكي محتمل من أوروبا، قد يتحول إلى نبوءة تحقق ذاتها.
لحظة الحقيقة
وتشير الصحيفة إلى أن الوقت للمجاملات انتهى الآن، إذ تقول جيزين فيبر، الزميلة في مؤسسة "جيرمان مارشال فاند" للفكر عبر الأطلسي، ومقرها باريس، كما نقلت عنها "بوليتيكو": "يجب على الأوروبيين كسر المحرمات الفكرية للتفكير في نظام الأمن بدون الولايات المتحدة".
وأضافت: "إنها حقًا لحظة "قلت لكم" بالنسبة لفرنسا، الجميع في باريس يعرف ذلك، والجميع في قصر الإليزيه يعرف ذلك".
وتختتم الصحيفة بالإشارة إلى أنه مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض واستمرار التهديدات الروسية، تقف أوروبا على مفترق طرق حاسم، كما أن الخيارات المطروحة تتراوح بين مواصلة الاعتماد على الحماية الأمريكية المشكوك في استمراريتها، أو بناء قدرات دفاعية مستقلة حقيقية تحت قيادة مُشتركة فرنسية-ألمانية.
أوروبا الشرقية
من حيث جذب الدول الأوروبية الأخرى، فإن موقف ماكرون المتشدد تجاه أوكرانيا يستهدف الشركاء في أوروبا الشرقية. ومع ذلك، فإن حكومات هذه الدول هي على وجه التحديد الدول ذات التصميم الأكثر رسوخًا لمعارضة روسيا، الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي والحفاظ حتى النهاية على التحالف الأقرب قدر الإمكان مع الولايات المتحدة.
وكما ذكر ماكرون نفسه، فإن الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي في الأمد البعيد يعتمد أيضاً على النمو الهائل للقاعدة العسكرية الصناعية في أوروبا. ولكن هذا يعتمد على المشاركة الكاملة للقوة الصناعية الأوروبية، ألمانيا. وبصرف النظر عن عدم رغبة ألمانيا في قبول الزعامة الفرنسية، فإن الاقتصاد الألماني يتعثر بل ويواجه " نزع الصناعة "، ويرجع هذا جزئياً إلى نهاية الطاقة الروسية الرخيصة نتيجة للحرب والعقوبات الغربية.