أمد/
مقدمة:قصة “حرمان” للقاص سعيد رضواني هي نص أدبي يعكس بعمق تجارب إنسانية مشحونة بالعواطف والتأملات الفلسفية. بمهارة فنية عالية، ينقل رضواني مشاعر الاضطراب والتشظي الداخلي للشخصية الرئيسية، مستخدما لغة غنية بالمجازات والاستعارات. تتيح القصة للقارئ فرصة للتفكر في معاني الحياة والوجود، من خلال تناقضات الزمان والمكان، وتداخل الذكريات بالحاضر. في هذا التحليل البنيوي، سنستكشف كيف يتقن الكاتب بناء نصه، وكيف تعكس عناصر السرد والوصف والرمزية الحالة النفسية العميقة للشخصية، مما يجعل “حرمان” نصا أدبيا يستحق التأمل والدراسة.
العنوان:العنوان “حرمان”: يعكس شعورا بالنقص والافتقار لشيء حيوي. اختيار العنوان يوحي بأن القصة ستتناول جوانب متعددة من حياة الشخصية تتسم بغياب أو فقدان معان أو مشاعر مهمة.
السرد والوصف:السرد الذاتي: السرد من منظور الشخصية الرئيسية يعمق فهم القارئ لمشاعرها وأفكارها. السارد يعبر عن حالة نفسية معقدة، مما يجعل القصة تتجاوز السرد الخارجي للأحداث لتغوص في التأملات الداخلية.
الوصف التفصيلي: القاص يستخدم وصفا دقيقا للمشاهد والأحاسيس، مما يعزز من قوة التجربة الأدبية للقارئ. الأوصاف التفصيلية تسهم في بناء عالم القصة بشكل حي ومؤثر.
الشخصية الرئيسية:التحليل النفسي والجسدي للشخصية: الشخصية تعيش حالة من التشظي والانفصال بين الحاضر والماضي، وبين الواقع والخيال. هذا الاضطراب يعبر عن حالة نفسية معقدة حيث تختلط الذكريات بالتجارب الحالية.
الأوصاف الجسدية والنفسية: الجسد المرتعش والذكريات المتداخلة تعبر عن القلق والاضطراب الداخلي. حالة الجسد المتماوج بين البحر والجبل تعكس التوتر الداخلي للشخصية.
الزمان والمكان:الزمان، القصة لا ترتبط بزمن محدد، مما يمنحها طابعا عاما يمكن أن يحدث في أي وقت. التركيز على اللحظة الحالية وذكريات الماضي يضفي على النص بعدا زمنيا مرنا۔
المكان: الانتقال بين البحر والجبل يعكس التناقضات الداخلية للشخصية. البحر يرمز للانفتاح والحرية، بينما الجبل يرمز للتحديات والثبات. هذا التباين المكاني يعزز من فهم التوترات الداخلية للشخصية.
الأحداث والحبكة:الحبكة: تعتمد على السرد الانسيابي للأفكار والمشاعر بدلا من الأحداث الخارجية. الأحداث تتطور داخليا من خلال تأملات وذكريات الشخصية.
التصاعد الدرامي: يحدث داخل ذهن الشخصية من خلال تأملاتها، مما يعطي النص عمقًا داخليا. تداخل الذكريات والتجارب الحالية يعزز من تعقيد الحبكة.
الرمزية:البحر: يرمز للحرية والانفتاح، وأيضا للاضطراب الداخلي. البحر يعكس حالة الانفتاح على الحياة والتجارب الجديدة.
الجبل: يرمز للتحديات والثبات، وأيضا للصعوبات التي تواجهها الشخصية في الحياة. الجبل يعبر عن الصمود والاستقرار المفقودين.
الوادي: يمثل الأماكن التي تتجمع فيها مشاعر وتجارب الشخصية. الوادي الجاف يعكس الفراغ الداخلي، بينما الوادي المترع بالمياه يعبر عن فيض المشاعر والتجارب.
الثيمات (المواضيع):الحرمان، العنوان يعكس الثيمة الأساسية للقصة. الشخصية تعيش في حالة من الحرمان الداخلي من السلام والاتصال مع الذات.
التناقض: التناقضات بين الماضي والحاضر، وبين البحر والجبل، تعكس حالة التشظي الداخلية للشخصية.
البحث عن الذات: الشخصية في رحلة مستمرة للبحث عن ذاتها وسط هذه التناقضات.
اللغة والأسلوب:اللغة، الكاتب يستخدم لغة غنية ومكثفة بالمجازات والاستعارات، مما يضفي بعدا شعريا على النص. هذه اللغة تساعد في تعبير دقيق عن مشاعر الشخصية.
الأسلوب: النص يتنقل بحرية بين الأوصاف الخارجية والتأملات الداخلية، مما يعكس حالة التشظي التي تعيشها الشخصية.
أمثلة من النص:
1. الطابع الوصفي والتأمل:
▪ “أنظر إلى البحر الهادئ ثم إلى جسدي المرتعش متأملا السنين الكثيرة التي خلفتها ورائي وما وراء ورائي، ومعها تلك السنة، وذلك الصيف، وتلك اللحظة…”
▪ التحليل: الوصف الدقيق يعكس التأمل العميق للشخصية في ماضيها وحاضرها، ويبرز الشعور بالحنين والندم. التداخل بين الزمانين (الماضي والحاضر) يعزز من شعور التشظي الداخلي.
2. الانتقال بين الأمكنة:
▪ “أسبح باتجاه رمال الشاطئ، باتجاه شاطئ البحر وأحلامي…”
▪ “أرتشف جرعة أخرى وأنظر إلى أسفل الجبل الأغبر بيت خالتي العجوز…”
▪ التحليل: الانتقال السلس بين البحر والجبل يعكس حالة الانفصال الداخلي للشخصية، ويسلط الضوء على التناقضات في حياتها. هذا التباين المكاني يعكس أيضًا البحث المستمر عن الذات وسط الفوضى الداخلية.
3. الرمزية والتناقض:
▪ “على سطح بحر يجري في عروقي كدمائي. على سطح بحر أعرفه وأعرف كائناته المائية في تناقض عجيب مع جهلي بالكائنات البرية…”
▪ التحليل: استخدام البحر كرمز للمعرفة الداخلية والثبات، مقابل الجهل بالكائنات البرية، يعكس التناقضات الداخلية للشخصية ويبرز شعورها بالانفصال عن الواقع. البحر يمثل الانسجام الداخلي الذي تسعى الشخصية لتحقيقه.
4. التأمل في الذات والآخر:
▪ “أرتشف جرعة أخرى وأنا أتأمل الوادي والجبلين، والرمال والبحر، الممرضة والإبر المتنوعة. أتأمل الثعبان والسمكة، أتأمل طفولتي في المدينة وطفولة ابن خالتي في الجبل.”
▪ التحليل: هذه الفقرة تجمع بين تأملات الشخصية في ذاتها وفي الآخرين، مما يعكس التوتر الداخلي والصراع بين ماضيها وحاضرها. التركيز على عناصر الطبيعة والأشياء المحيطة يعزز من الشعور بالانفصال الداخلي والتشظي.
قصة “حرمان” لسعيد رضواني تقدم نصًا عميقًا يعبر عن حالة إنسانية معقدة من خلال لغة مجازية غنية وأسلوب سردي متأمل. القصة تعكس حالة تشظي وانفصال داخلي، وتعتمد على التناقضات بين البحر والجبل، والماضي والحاضر، لتعكس رحلة الشخصية في البحث عن ذاتها ومحاولتها للتصالح مع ماضيها ومشاعرها المتضاربة. التحليل البنيوي يظهر كيف يستخدم الكاتب العناصر السردية والوصفية والرمزية لبناء نص معقد وعميق يثير التأمل والتفكير في الحالة الإنسانية.
▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪
النص المرجعي
” حرمان “
القاص سعيد رضواني
أفتح قنينة لأرتشف بعض الجرعات. يتحرر ما بداخلها وما بداخلي وينسكب ما بداخلها داخل الكأس، وما بداخلي خارج الزمن. ينفلت بصري مما بقربي ليرى الأفق وما بَعده وما وراء بُعده وبُعدي. أنظر إلى البحر الهادئ ثم إلى جسدي المرتعش متأملا السنين الكثيرة التي خلفتها ورائي وما وراء ورائي، ومعها تلك السنة، وذلك الصيف، وتلك اللحظة التي كان فيها البحر يتماوج هائجا بينما جسدي فيه يسبح هادئا واثقا من مهاراته. أنظر جهة الأفق فأرى السفن وقوارب الصيد وجمال الشفق الأحمر. أستنشق الهواء الرطب وأتذوق الرذاذ المالح المنعش، ثم ألتفت جهة الشاطئ فأرى حشدا من الناس متجمعين على الرمل. أفكر في أنهم ربما ظنوا أني أغرق فألوح لهم بإشارة النفي بأصبعي مطمئنا إياهم. ثم أتمدد على سطح الماء الناعم ككائن مائي، على سطح بحر يجري في عروقي كدمائي. على سطح بحر أعرفه وأعرف كائناته المائية في تناقض عجيب مع جهلي بالكائنات البرية إلى درجة أن صحت وأنا طفل ذات زيارة للبادية: حوتة حوتة حوتة، عندما رأيت ثعبانا تحت السرير.
أسبح باتجاه رمال الشاطئ، باتجاه شاطئ البحر وأحلامي. تلامس أقدامي الرمال المبتلة المنغمسة في المياه فأسحب جسدي المثقل نحو الحشد. أمشي فوق الرمال المبتلة ثم الجافة متجها صوب الحشد مخلفا على المبتلة آثارا مطبوعة تمحيها المياه وعلى الجافة آثارا مبتلة تبخرها الشمس، بينما تمحي الريح والشمس آثار البحر من على جسدي. أبحث لنفسي عن موضع وسط الحشد المتجمهر فيقع بصري على جسد منبطح فوق الرمال بالكاد يتنفس. أتساءل في نفسي إن كان المغمى عليه غريقا؟ فتجيبني نفسي بألا أحد يغرق بثياب جافة! أتساءل مستفسرا عن الأمر، فيتطوع صوت ويجيب بأن الرجل المسكين أصيب بدوار البحر على الرمل، لأنه لم ير بحرا من قبل. أتأسف، وأغادر تاركا المغمى عليه ممدا على الرمل وأنا ادعو له بالشفاء.
أرتشف جرعة أخرى ثم ألتفت جهة الجبال فأرى واديا بين جبلين. يجذبني جمال الوادي الجاف الملتوي كأفعى أسفل هذا الجبل الأغبر الذي أقيم في فندق على قمته. يُطوحّ بي جمال الوادي كموجة من قمة هذا الجبل الأغبر الذي يعلو هذا الوادي الجاف هذا الوادي ويرمي بي في واد آخر، واد مترع بالمياه. أتسلق المسافة الفاصلة بينه وبين قمة الجبل المشجر الذي يعلوه، ومن قمته ينطلق بصري مستمتعا بالأشجار التي تحيط بالجبل. أملأ رئتيّ بالهواء النقي ثم آخذ بالركض نزولا مراوغا الحشائش والصخور والأشجار منحدِرا باتجاه الوادي الذي يعبره نهر متعرج ملتو كأفعى المياه، مثلما أنحدر دائما من أعلى هذا الجبل الأغبر إلى أسفل أول امرأة ساقتها أقدامها أو أقدارها إلى الوادي الجاف لتمد رجليها إلى السماء بعد أن أعياها مد الأيادي، وتفتح فخذيها لأول منحدِر من الجبل، ولمن بَعده ولمن بَعد بَعدِه إلى آخر منحدِر. تباعد ما بين فخذيها لتقرب ما بين أهلها وتجمعهم في بيت واحد تحت سقف واحد ببعض الأموال القذرة التي تمر فوق جسدها مقابل ما تبعيه من تحت هذا الجسد، ثم تبيّض تلك الأموال في جيوب أمها وأبيها وإخوتها. بينما أنا لا يهمني إلا أغمد رأسي فيما بين نهدين غير عابئ بالقرب والبعاد، مهتما فقط بالإدخال والإخراج كمستغور يحب اكتشاف المغارات، أو متوحش يهوى الكهوف. وكثيرا ما أغمد رأسي بين نهدين مثلما اغمدته ذات انحدار من الجبل الأغبر ولم أفتح عيني إلا بعد أن استيقظت من الغيبوبة في مستشفى وأخذت أتحسس رأسي المشجوج بينما ترمقني الممرضة مبتسمة مهنئة إياي على نجاتي وهي تقترب مني لتخزني بإبرة معدنية. تلك الممرضة التي كادت تودي بحياة صديق جاء لزيارتي، ولم يكن هذا الصديق قد رأى نهود النساء من قبل، ولما انحنت الممرضة ورأى هو وادي صدرها وجبليه هوى بصره إلى الوادي من أعلى القمتين ودخل في غيبوبة.
أرتشف جرعة أخرى وأنظر إلى أسفل الجبل الأغبر بيت خالتي العجوز الذي كانت تسكنه منذ شبابها. خالتي التي شاخت وذهب عمرها في محاولات يائسة لإبقاء البيت شابا بسلسلة من ترميمات أجهزت على كل سلاسلها الذهبية التي قايضت بها سلسلة من الحفر كانت تخترق جدران البيت فاسحة المجال للحشرات وللزواحف كي تدخل وتخرج متى تشاء والتي تآلفت مع سكان البيت إلى درجة أن صاح ابنها حنش حنش حنش عندما رأى سمكة في المطبخ.
أرتشف آخر جرعة من آخر كأس من آخر زجاجة من آخر سقطاتي، وأنا أتأمل الوادي والجبلين، والرمال والبحر، الممرضة والإبر المتنوعة. أتأمل الثعبان والسمكة، أتأمل طفولتي في المدينة وطفولة ابن خالتي في الجبل. أتأمل سقطاتي الكثيرة من أعالي قمم جبال مختلفة ثم أحاول تذكر أي من الجبلين أتواجد الآن، أفي قمة الجبل الأغبر أم في قمة الجبل المشجر. أحاول وأحاول لكني أعجز. وإذ يداهمني النوم أضع رأسي على الطاولة بين قنينتين وأنا أشعر بأني أضع قنينة بين رأسين.