أمد/
هل اقترب الوطن اللبناني (مجدداً) من أتون التعصب الإيديولوجي- العنصري ومعها انفجاراته الأهلو- حربية الدموية؟
نقول هذا الكلام بكلمات واجفة ومذهولة لما نرى ونسمع هذه الأيام، وكأن التاريخ، تاريخ الوطن، تجمّد عند العام 1975، وبالتالي كل ما حدث خلال هذه الخمسين سنة بعده كان مجرد استراحة للشياطين المعربدة في معبد الحرب الأهلية “الدائمة”.
هل قليل أن تطل علينا الآن فئة مسيحية لبنانية (المحافظون الجدد) لتدعو علناً، وبإصرار عنيف إسماً ومضموناً، ليس فقط إلى تقسيم لبنان على أسس “دينية- عنصرية” تحت يافطة فيدرالية غامضة، بل أيضاً إلى الانضمام إلى الحرب الكونية القومية- المسيحية اليمينية المتطرفة في أوروبا وأميركا ضد..
ضد من؟
لم يقل بيان المحافظين الجدد- لبنان صراحة ضد الحضارة الإسلامية وفق ما حددها أرباب المحافظين الجدد الأصليين: صدام الحضارات (صموئيل هانتينغتون) وحروبها (برنارد لويس) وحدود الدم فيها (رالف بيترز)، وفضّل البيان الحديث الغامض عن “يسار عالمي” لم يعد له وجود. لكن الطبعة الأصلية للمحافظين الجدد العالميين كانت واضحة في تحديد هذه الحضارة كعدو أول حتى قبل الحضارة الكونفوشيوسية الأخطر عليها الآن. ولأن الأمر كذلك، سيكون المسلمون اللبنانيون هم الوجبة الأساسية للمحافظين الجدد المسيحيين اللبنانيين على هذه المائدة الدولية الدموية الجديدة.
بعض الأطراف اللبنانية الإسلامية سرعان ما التقطت “إعلان الحرب” الإيديولوجية الجديدة هذه وردّت على التحية بمثلها. قالت هيئة علماء المسلمين (السنّية ):
“إن المسلمين السنّة في لبنان حريصون على بناء الدولة القوية العادلة، التي يتساوى فيها كل اللبنانيين في المواطنة، ويمدّون أيديهم لكل شركائهم في الوطن، ومنهم المسيحيون، لتحقيق ذلك. فمن أحبّ أن يتعاون معنا لتحقيق هذه الغاية فأهلًا وسهلًا، ومن أصرّ على لغة الانفصال والعداء فهو حر… لكننا نُنبّه أن هذه اللغة الانفصالية والعدائية قد تفتح الباب واسعًا للدعوة إلى الوحدة السياسية والاقتصادية والجغرافية بين كل دول بلاد الشام…وعندها، فليتمتع “اليمين المسيحي اللبناني” بـ”اليمين الأوروبي والأمريكي” خلف البحار، ولنتمتع نحن بمحيطنا العربي والإسلامي الواسع، الذي يشمل الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين، ويلتقي حتمًا مع تركيا والخليج العربي، ويكون جزءًا لا يتجزأ من أمة الملياري مسلم في كل العالم”.( البيان نسي إيران الإسلامية).
واضح؟
إنها الأرضية نفسها التي خيضت فوقها حرب 1975 تحت الشعار نفسه: أي لبنان نريد. ولكن، بدلاً من الخناقة حول الهويتين العربية أو الانعزالية اللتين تدوران حول فلسطين والفلسطينيين، المقتلة الأن تحوم مباشرة (على الأقل وفق ما يريد المحافظون الجدد) حول “صدام الحضارات” أو بالأحرى حروب الحضارات التي سيكون ضحيتها الأولى بالطبع مشروع الوطن اللبناني بكل ألوانه الرسالية، والحضارية، والتعددية الديمقراطية، والإنسانية.
وحين يغيب مثل هذا المشروع الوطني الذي كان أول من تبناه ورعاه الفاتيكان، سيأتي سريعاً دور شياطين الحرب الأهلية “الحضارية” الدموية. وهذا أمر بديهي: فحدود الدم لا تُسقى بماء الورد، بل بالدم القاني.
وحين الحديث عن الفاتيكان، ومعه بكركي، فالكل ينتظر الآن ما سيقولانه، ومعهم بقية الأطراف المسيحية الأساسية، حول هذا الشطط الخطير لدى فئة من اللبنانيين المسيحيين، والذي يُهدد (في حال لم يكبح جماحه) الوجود المسيحي نفسه في لبنان، المُهدّد أصلاً بالمخاطر الديموغرافية وبالمؤامرات الإقليمية ضد كل الوجود المسيحي في المشرق.
بيد أن الأمر لا يجب أن يقتصر على الأطراف المسيحية الرئيسة. ثمة في الدرجة الأولى دور كبير وتاريخي للقوى الوطنية والديمقراطية والعلمانية اللبنانية التي يقع على عاتقها الآن، وأكثر من أي وقت مضى، المسؤولية الكبرى والتاريخية للدفاع عن الهوية الوطنية اللبنانية، الحضارية والديمقراطية والرسالوية، والحفاظ عليها، وحتى القتال من أجلها.
الآن، وأكثر من أي وقت مضى، وبسبب الانقلابات الهائلة والمتسارعة في العالم والإقليم على كل المستويات، يتعيّن على كل ذي ضمير وطني لبناني أن ينتفض بقوة ليدافع عن الدولة الوطنية ويحصّنها ضد عواصف الانغلاق والتعصب والتطرف والعنصرية في العالم التي تمهّد الآن لاستعادة أجواء الحرب العالمية الأولى، وأيضاً لتحصين الوطن اللبناني ضد عودة أشباح حرب 1975 الأهلية القاتلة.
.. وهذه أيضاً رسالة من فوق الماء إلى الرؤساء جوزف عون ونواف سلام ونبيه بري.
_____________