أمد/
الوعي، رغم أن تعريفه مازال مسألة معقدة فلسفياً ومثار جدل، لكن من المتفق عليه، أنه من أهم صفات الإنسان البيولوجية والإدراكية، كونه الكائن الحي الوحيد الذي يدرك أنه كائن واعٍ، وأن مستوى وعيه يتوقف على تجاربه وتكوينه الثقافي والروحي والفلسفي، ومعارفه ومسيرته وذاكرته، وأنه قادر على التأمل وإصدار الرأي أو الأحكام على الأشياء والمفاهيم والسلوكيات.
وإذا غاب الوعي لدى الإنسان، يصاب بحالة من التعاسة والخوف والقلق، ما يؤدي إلى حالات من الإحباط والقنوط، وإذا ما بدأ في اكتساب الوعي، تتولد لديه مشاعر التفاؤل والإيجابية والثقة بالنفس والسلام مع الآخر، والاستعداد لامتلاك قدرات النقد وكشف التزييف.
وقال لي حكيم ذات يوم: أخشى عليكم من مخاطر الإفراط في الوعي، فتزداد آلامكم وتتضاعف معاناتكم.
إن بناء الوعي مهمة وطنية تشاركية، ومسؤولية مجتمعية تحتاج إلى جهود هائلة ومتواصلة، لبناء مسار مستنير ورشيد، يؤسس لشخصية سوِّية وقادرة على التعامل مع الواقع، واستشراف الغد، وإدراك الدروس والعبر، وتطهير الوعي العام من الخرافات والتشويه والمعلومات الزائفة.
ويصنع الوعي مؤسسات الأسرة والمدرسة والإعلام والثقافة والتربية والسياسات الاجتماعية والتشريعية، وثقافة الشفافية والمساءلة، وإشاعة روح التضامن والتعايش، وتثبيت السمة الرئيسية للوعي بالثقافات الإنسانية، وهي التفاعل والتفاهم.
وفي الوقت نفسه، فإن تزييف الوعي له مخاطرة العديدة، ومن بينها: إحداث فوضى وتشويش، وعبث بالأمن الفكري والنفسي والاجتماعي للفرد والمجتمع، وخلط الحابل بالنابل، والغث بالسمين، والتحريف أو التوظيف الغرضي، سياسياً أو اجتماعياً أو دينياً أو أيديولوجياً، فضلاً عن إضعاف قدرة المرء على إدراك الحقائق، وجعله مجرد متلقٍ ومتفرج.
في ظل الوعي الوهمي، يشيع الفن المبتذل، وينتشر الزيف المضمر في خطابات إعلامية وسياسية، وتسود سلوكيات رديئة، ومفاهيم سطحية، وأفكار مضللة تزرع الإحباط واليأس، وتخلق اهتمامات فارغة وثقافات ضحلة.
لصناعة الوعي الوهمي مفكروها وفلاسفتها، وسُلط تربوية وتعليمية وإعلامية، ودوائر سياسية، ونخب ثقافية، تعمل على إنتاج الوعي الوهمي، والاستثمار فيه، وتعطيه دوراً وظيفياً، لتمويه المشهد وخلط الأوراق، وتقديم الخيال على أنه «إنجاز»، وإذاعة الشائعة وتلوينها بأمور يتعذر فصلها عن الحقيقة، فتتحول الشائعة إلى وعي وهمي، وبخاصة في وقت الأزمات. كذلك الأمر مع نشر المعلومات المضللة والمقالات والأخبار الزائفة، والتعليقات والصور. وأمست هذه الصناعة مؤخراً تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي.
بالتكرار والإلحاح، والتهويل والخداع، يتعزز الوعي الوهمي، وتجربة «هوليوود» بأدواتها وآلياتها ومنتجاتها، كانت ومازالت وسيلة فعالة في صناعة الوعي الوهمي، ومررت رسائلها عبر العقل اللاواعي.
لا يتأتى الوعي الوهمي نتيجة تفكير عميق، وثقافة وتربية نقدية، وحقائق واقعية، ومعرفة موضوعية، وإنما في ظل خوف أو خيبات أو ضعف أو انكسار. ويقول البروفسور الأمريكي نعوم تشومسكي: «إن أردت غزو شعب ما، اصنع له عدواً وهمياً، يبدو لهم أنه أكثر خطراً منك، ثم أقنعهم بأنك لهم المنقذ».
هل يذكرنا هذا القول بمسألة الصراع العربي – الإسرائيلي، في الوقت الراهن؟.
تتطلب مواجهة الوعي الوهمي وعياً نقدياً، وشجاعة فكرية وروحية، لرؤية الأمور من زوايا متعددة، وحينما يشتبك العقل مع الواقع، تبدأ معركة الوعي، فإمَّا أن يُضلل العقل، فيتولد الوعي الوهمي، من قِبل الآخر، أو يختبئ صاحب العقل وراء أقنعة مزيفة، فيرتاح من إشكاليات الاختيار.
أما إذا استقام التفكير، واستعاد العقل الرؤية الحقيقية للواقع، فهذا ما يمكن تسميته بتحرير العقل من أسر الوهم.
من ناحية أخرى، يمكن المجازفة بالقول: إن هناك أناساً كُثراً تغريهم الراحة والقيلولة في ظل «وعي» يطمئنون له، فيحررهم من مشقة التفكر، ومن توتر مغامرة الوعي، ويفضلون تلقي الوعي «العمومي»، ويكثرون من ترديد شعر المتنبي، وقوله:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جرَّاها ويختصم
…….
إن «غفوة العقل» كما صوّرها الرسام الإسباني غويا في إحدى لوحاته «وتخليَّ العقل عن التفكر والتخيُّل، يخلقان وحوشاً».