أمد/
كان فبراير 1979 شهر الانقلاب الكبير في العلاقة الإيرانية الأمريكية فلقد كان النظام الإيراني-الشاه- عبارة عن الحليف الاستراتيجي للإدارة الأمريكية والمنخرط معها في سياسات إستراتيجية في المنطقة لاسيما تجاه العرب في العراق والخليج وفي ظل هذه العلاقة الإستراتيجية كان الموساد الإسرائيلي وضباط الجيش الإسرائيليين يتمتعون بحصانة فوق العادة في طهران.. وفي لحظة واحدة كل شيء انتهى بشكل دراماتيكي طرد السفارة الإسرائيلية وتحويلها الى سفارة فلسطين، مطار طهران يستقبل اول طائرة تقل زعيم الثورة الفلسطينية، وإيران تعلن أنها دولة مواجهة وأن القدس هي عنوان كل قضاياها.. قطع العلاقات مع الإدارة الأمريكية بل ومع كل دولة عربية تطبع مع الكيان الصهيوني.. تقوم الولايات المتحدة بسلسلة إجراءات عقابية ضد إيران تحجز من خلالها أموال إيران المودعة في البنوك الأمريكية والبنوك التي تأتمر بأمرها و تفرض عليها عقوبات متتالية وتدعم المجموعات المسلحة المعارضة لخنق الثورة وذلك ترافقا مع دفع بدول المنطقة لتسهيل إسقاط الثورة الإسلامية والتي حملت عناوين مضادة للمشروع الاستعماري في المنطقة.. فكانت الحرب العسكرية المفروضة لثمان سنوات مدعومة بمال النظام البترودولار تحت غطاء من حملة شيطنة نهض بها علماء البلاط والفتن.. فكانت الحرب شاملة داخليا وإقليميا بالسلاح والإعلام والثقافة بكل أبعادها..كان من الواضح ان المراد هو منع ايران من التقدم نحو بؤرة الصراع المركزية مع الكيان الصهيوني ثم منع ايران ان تكون قدوة لشعوب المنطقة في التحرر من الهيمنة الغربية الاستعمارية، كما ان النفخ في بوق القومية والطائفية كان من شأنه إقامة أسوار أمام الثورة ومشروعها التحرري الذي نادت به..
الملف الأفغاني والعراقي والالتقاء بالامريكان:
كما صرح السيد رافسنجاني وبعض الساسة الإيرانيين وكذلك مصادر قرار أجنبية إن إيران قدمت تسهيلات ومساعدات للأمريكان في الموضوع الأفغاني وكذلك في الشأن العراقي ولعله ليس صعبا اكتشاف ان الأمريكان كانوا يرون في الدور الإيراني مكمل لدورهم في إسقاط النظام العراقي وكذلك نظام طالبان لاختلافات سياسية وأيديولوجية.. ولعل القوى الشيعية العراقية التي تتخذ من طهران مقرا لقياداتها كما كانت زيارات الحلبي لطهران وسواه كانت بمثابة القاعدة الخلفية التي تحركت في مراحل معينة للانقضاض على الدولة العراقية مرة سنة 1991 ولقد فشلت، ومرة في 2003 عندما تم اسقاط النظام وتدمير الدولة العراقية وكانت المنظمات الشيعية هي عراب الاحتلال الامريكي.. لقد كان واضحا ان الدولة الايرانية منسجمة مع سقوط العراق ودولته وهي تجد حلفاءها يقتحمون المؤسسات وينهبون ثرواتها ويمزقون البلد على اثنيات طائفية وعرقية ومن الواضح ان ايران كانت ذا حضور مهم منذ اللحظات الاولى لسقوط النظام وذلك في جو رضي من الأمريكان على الأقل.
كانت القيادات الايرانية لا تجد صعوبة في النزول في بغداد وبأعداد كبيرة ولقد أسهمت أجهزة الأمن الايرانية في اغتيال مئات الضباط الكبار والعلماء العراقيين وساندت ترعرع الروح الطائفية لدى الجماعات الشيعية العراقية لتقوم بأبشع عملية احتلال للمساجد في بغداد وسواها وقتل للآمنين في الأنبار والموصل وذلك بحجج مفتعلة واتهامات بملاحقة الجماعات الإرهابية الى درجة إيجاد تحالف بين قوى الحشد الشعبي الذي افتى به السيستاني مع طيران الأمريكان في قصف الموصل والانبهار وبالمناسبة يجب التنبيه ان السيد السيستاني وهو عالم شيعي كبير لم يفت ولو لمرة واحدة بضرورة مواجهة الاحتلال بالقوة ولم ينف علاقاته مع الحاكم العسكري بريمر التي أفاض بريمر في الحديث عنها في كتابه عن فترة حكمه للعراق.
الا أننا يمكن ان نعتبر أن يناير 2020 يوم فارق في العلاقات الإيرانية الأمريكية التكتيكية حيث وجه ترمب باغتيال قاسم سليماني الذي كان له دور كبير في ترتيب العلاقات على الأرض وإنشاء مجموعات مسلحة في سورية والعراق ودعم المجموعات المسلحة السابقة كحزب الله و حماس والجهاد.. وكان له دور متميز في إقناع الروس بدخول الساحة السورية وهنا بدأ نفوذ إيران يتقدم على حساب الوجود الأمريكي في المنطقة فلقد عادت الفعاليات السياسية في بغداد تتبع مباشرة للقرار الإيراني وكذلك أصبحت دمشق بيد المستشارين الإيرانيين وكذلك حزب الله الذي تحول الى قوة إقليمية كبيرة والأمر نفسه يمكن ان يطلق على أنصار الله في اليمن ورغم ان حماس لم تكن على عميق اتفاق مع الموقف الإيراني بخصوص الشأن السورية الا ان إيران لم تشأ التخلي عن علاقة قوية مع حماس فحماس الفلسطينية العربية السنية لها علاقة بأكثر القضايا إثارة في المنطقة والأكثر فعالية في إثبات الوجود وتكسير أطواق الحصار المعنوي.. هذا جنب الى جنب التصنيع العسكري الذي وجد تقدما نوعيا وصولا الى التركيز على المفاعلات النووية التي يدور حولها هذه الأيام الكلام الكثير والمتوتر حيث كما يشير كثيرون ان ايران تكون قد وصلت الى مرحلة متقدمة على طريق صناعة القنبلة الذرية.
الطوفان يغير الخرائط:
جاء الطوفان ليلغي محاولات التكتيك والحروب الإعلامية و يفتح الصراع على حقيقته مع إيران فلقد أثبتت إيران في العشريتين الأخيرتين انها تشتغل لنفسها ولمصلحتها الوطنية وليس لصالح الأمريكان الذين ظنوا انه بمكانهم احتوائها ولم يخف بعض المسئولين الإيرانيين والمتحدثين في ايران حجم غبطتهم بان اربع عواصم عربية أصبحت تسير بأمر من ضابط إيراني.. وهنا بدأ القلق الأمريكي والصهيوني في حالة من التوحد والهدف هو إسقاط إيران بإسقاط برامجها النووية وإخراجها من العواصم العربية وفك الارتباط بينها وقوى المقاومة في المنطقة.. واستخدمت الإدارات الأمريكية كل أدواتهم المتوحشة والسياسية لتحقيق ذلك الهدف.
كان الحديث متواصلا عن محور المقاومة ولقد شهدت طهران وبيروت لقاءات عديدة لتعزيز محور المقاومة وعندما تذكر المقاومة لابد من الاشارة بان الكيان الصهيوني هو العدو المعلن الا ان الحرب داخل سورية تم اعتبارها مقدسة و دخلت اطراف المحور ماعدا الطرف الفلسطيني في المعركة ضد الشعب السوري وقوى المعارضة السورية..
في 7 اكتوبر قام الطرف الفلسطيني وهو الطرف الرئيسي والقائد في المحور بهجوم قل نظيره تخطيطا واهدافا فاوقع بالصدمة في العدو الصهيوني خسائر معنوية وسياسية ومادية فادحة.. ولكن المحور في هذه اللحظات ظهر عليه الخجل والتردد وفي حين كان ابناء غزة يواجهون العدوان الجنوني تقدمت اطراف المحور مترددا ليس كما بدا عليه النشاط والحيوية والتحمس عندما كانت الاف المقاتلين من المجموعات الشيعية تقاتل حماية للنظام السوري.. وبعمليات جزئية حاول الحزب ان يكرس معادلة الاسناد وهنا كان الخلل الاول للمحور، لم يكن خللا محدودا بل هز كل مقولة المحور ومبادئه ومن هنا بدأ انتظار دمار المحور وخسارته مواقعه الواحد تلو الاخر.. وهنا يجب القول ان عدم انخراط المحور كله في الهجوم كما حصل 7 اكتوبر تسبب بعظيم محنة غزة وبانهزام الحزب وانقلاب الوضع في سورية وانسحاب ايران من سورية ولبنان.. لقد اكد قادة الصهاينة بوضوح ” ان القدر انقذ الكيان الصهيوني من انهيار تام فلو قام الحزب بهجومه من خلال فرقة الرضوان نحو الجيلل كان يمكن للفلسطينيين واللبنانيين ان يلتقوا في تل ابيب”
خروج الحزب من الحرب في نصف الطريق- بعد ان وقعت فيه تضحيات مؤلمة وكبيرة- الحق بالحزب خسائر استراتيجية في تموقعه في المشهد اللبناني وتم تعزيز كيانات هشة ديكورية كالجيش اللبناني وتراجع الحزب على صعيد شفافيته وطهره خطوة الى الوراء عندما اصبح يحتمي بمقولة التوأم الشيعي” امل والحزب” وان نبيه بري- متعدد الولاءات- هو الشقيق الاكبر.. لم يبق سياسيا من الحزب ما يمكن ان يقنع بأي دور في السياسة الداخلية ولقد زاد الأمر سوءا بالنسبة للحزب حيث انتصر خصومهم الالداء في سورية و الذي اكدوا انهم لن يسمحوا بتقوية الحزب من خلال التهريب بل لعلهم فتحوا جبهة اشتباك على الحدود اللبنانية السورية انتهي بطرد مواقع الحزب عن الحدود.
ايران تكون قد خسرت مواقع تحالف في الاقليم سورية ولبنان بشكل واضح ولم يبق الا اليمن كحليف تقليدي الا ان انصار الله لا يلتزموا بالتوجه الايراني الذي يدفع الى التهدئة مع الامريكان الامر الذي اخرج الانصار من دائرة التحالف الاستراتيجي الى دارة الصديق الاستراتيجي.. ويمكن ملاحظة التطورات الحاصلة في العراق على انها تتجه الى حرمان ايران من مواقع نفوذها وحرمانها من الاستفادة من امتيازات على صعيد البترول والغاز والامداد بالكهرباء.
ماذا تريد امريكا بالضبط:
لقد تقبلت الولايات المتحدة وجود دولة اسلامية – باكستان- ان تكون دولة نووية ولكن ذلك لم يكن الا في ظل علاقات مصالح كبيرة مع الامريكان هذا من جهة واما الاهم فلقد تم ذلك في منأى عن الصراع مع اسرائيل.. وهنا تعرف الاشياء بضدها فايران في حالة صدام مع الادارات الامريكية وكذلك فان ايران دولة معادية للكيان الصهيوني.
ومن هنا يأتي الضغط على ايران في ظل حرب كونية اقتصادية يقودها ترمب على دول العالم ويطرح عنوانا لهذه الحرب انها حرب التحرير التي تستعيد امريكا فيها ثرواتها.. ولكن ايران تحتل الموقع الاكثر اهمية، فايران لابد ان تتخلى عن امرين الاول منهما وهو الاهم: ان تتخلى عن دعم فلسطين و مقاومتها، والثاني: ان تتحول الى دولة ذات علاقة بالمؤسسات الدولية وصندوق النقد الدولى وتبتعد عن المشروع العسكري لاسيما النووي منه.. وهنا ينبغي ادراك حجوم الضغط الصهيوني على صناع التشريع والقرار في امريكا بخصوص ضرب ايران.
ولكن هنا يجب الانتباه الى العلاقة الامريكية الصينية المتوترة والمهددة للاقتصاد العالمي بل والامن العالمي ومدى تأثير ذلك على عملية نقل النفط حيث تزايد الطلب الصيني عليه اتساقا مع النهضة الصناعية العملاقة فالى أي مدى تتأثر عملية تسويق النفط ان حصل أي توتير للمسألة الامنية في الخليج العربي؟ والى أي مدى قامت المؤسسة الأمريكية بحسابات المصلحة في شأن التحكم بالنفط العالمي وتحريك سعره بما يفرض عقوبات محتملة جديدة على الصناعة الصينية.. ومن هنا يبدو كلام
الأمريكان عن التهديد الإيراني لمصالحهم غير مقنع.. وكان بإمكان أمريكا ان تسرح وتمرح في العراق والخليج دون قلق من ايران.. فأمريكا تشفط نفط المنطقة بلا معرقلات وتضع قواعدها العسكرية في العراق وسورية والخليج كله فلماذا كل هذا التحشيد ضد إيران اما الحديث عن النووي الايراني فهو من باب السخرية بعد ان التزمت ايران بموجب بروتوكلات ومعاهدات بطريقة تبعد النووي الايراني عن صناعة سلاح نووي..
صحيح ان قدرة إيران على المواجهة أصبحت اقل بخسارتها حلفاء استراتيجيين كان من الممكن ان يكون لوجودهم ضغوط عملياتية ضد الوجود الصهيوأمريكي في المنطقة وصحيح كذلك ان خطورة المعركة المحتملة ستؤثر على بنية النظام وربما توجهاته السياسية والروح المعنوية للشعب الايراني وتماسك المجتمع الى حد ما.. لكن الذي قد لا يعرفه الأمريكان لاسيما حكومة ترمب ان اكثر من 40 قاعدة عسكرية امريكية بالمنطقة بالإضافة الى إسرائيل ستكون جميعا أهدافا مثلى بالإضافة للسفن الحربية في الخليج العربي للقوات الإيرانية الامر الذي يعني ان العملية العسكرية الامريكية المتوقعة سيكون ثمنها باهضا.
قد تكون كل تصريحات ترمب من باب الضغط على الإيرانيين للتفاوض ضمن اطار اقل طموحا بالنسبة للايرانيين ولكن لن تكون الكلمات بعيدة عن احتمال الإعداد لإشعال النار، ويبدو ان الايرانيين قد أخذوا التهديدات على محمل الجد.. وستكون أي مواجهة مسلحة مع ايران هي بداية مرحلة سياسية في المنطقة وليس من المتوقع ان تتحرر أي دولة مشرقية من القواعد العسكرية الموجودة فيها ولكن لن تجري الامور حسب مرام الادارة الامريكية وقد تكون هذه اخر محاولات امريكا للغواية والترهيب.. والله غالب على أمره