ابو علي حسن
أمد/ ما حدث في السابع من أكتوبر كان فكرة رؤيوية مختلفة في مسار النضال الفلسطيني, وأطلق طوفاناً سياسياً اجتاح المنطقة كلها, بل المعمورة على كبر مساحتها, وطوفاناً عسكرياً وأمنياً اجتاح غزة والإقليم والكيان, ولا زال هذا الطوفان يتحرك في كل اتجاه عابراً وكاسراً حالة الرتابة والركود السياسي والأمني السائد في المنطقة بشأن القضية الفلسطينية…
وأول ما مرّ هذا الطوفان بعنفوانه كان على دولة الكيان, مجتاحاً المجتمع الإسرائيلي ومحدثاً تموجات أمنية وسياسية واجتماعية واقتصادية ونخبوية, أطاحت بالجدران الأمنية والعقائدية والسياسية التي بناها الكيان لتحصين نفسه من صحوة الفلسطيني والعربي, مما جعل الكيان بكليته عارياً إلا من حقيقة ضعفه وهشاشته, التي لم يدركها النظام العربي الرسمي بعد…
كما لا زال هذا الطوفان الفلسطيني يجتاح شعوب المنطقة في الإقليم والعالم محدثاً تحولات في وعيها وإدراكها وبصيرتها نحو فلسطين وشعبها, حيث تفرع هذا الطوفان إلى فروع وجداول عالمية, أحدثت تحولات ومتغيرات في الموقف والسياسات والأفعال رسمياُ وشعبياً…
ومما لاشك فيه أن هذا الحدث قد أزاح تلك الغشاوة لدى البعض التي حجبت رؤية الشعب الفلسطيني على حقيقة وجوده, وأزالت من أمامه تلك المسلمات الزائفة والأوهام بأن القضية الفلسطينية قد وئدت, وليس أمام الشعب الفلسطيني إلا التسليم بقدره وبواقع الكيان الصهيوني, وقبول التسويات معه من موقع المهزوم, والاندماج في سياساته التي تفقد الإنسان الفلسطيني هويته ووجوده…
بهذا المعنى لحركة الطوفان, فنحن أمام حدث أمني وسياسي غير عادي ليس خارج فكرة فلسطين, وليس خارج فكرة تأصيل المقاومة, بل هو منعطفاً حاداً في مسار الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الممتد, وكونه حدثاً فوق العادة, وفوق المألوف, يستدعي الأمر البحث في معنى ودلالات الحدث النوعي والاستثنائي وسياقاته على الأرض…
طوفان الأقصى إعجاز سياسي وميداني…
وعليه فنحن أمام حدث رؤيوي, وارتقائي فكري وسياسي وأمني يشكل إعجازاً سياسيا بمعنى القدرة على أخذ القرار الصعب, وإعجازاً ميدانياً بمعنى اجتياز الجدران والفعل في الميدان, بما يجعل هذا الحدث بكليته معجزه سياسية أمنية فاقت خيال السياسيين والاستراتيجيين والمحللين والمتنبئين, ولا سيما من قادة الكيان وسياسييه…
إن تجليات أي معجزة هي ألا تجد لها تفسيراً منطقياً في السياق السائد للأحداث, عند المحللين والمفسرين وفق منطق البيئة المهيمنة, كونها أمرٌ خارق للعادة, ومخالف للقوانين والمسلمات السياسية السائدة, وبهذا المعنى فإن طوفان الأقصى يمكن إطلاق المعجزة السياسية عليه, من جهة, ومعجزة عبور الجدران من جهة أخرى…
إن تجليات المعجزة السياسية لمعركة “طوفان الأقصى” تتمثل في ضرب معطيات البيئة الراكدة العربية والدولية المتعايشة مع واقع الاحتلال…
حين تقدم المقاومة على مجرد “التفكير والتخطيط ” لمعركة خارج المألوف وخارج الوعي السائد في الحالة العربية الساكنة, أي خارج “وعي العجز” فهذا بحد ذاته مكون أولي للإعجاز السياسي…
وحين تتنكر عامداً لموازين القوى القائمة المائلة منذ زمن لغير صالحك سياسياً وعسكرياً, وتعتمد على “إرادة المقاوم” على أنها المكافئ الآخر لميزان القوى, فأنت قطعت الشوط الآخر في نسج المعجزة السياسية …
وحين تغادر المألوف وهيمنة الوعي المهزوم, وقوة العادة السياسية التي ألجمت الجيوش والعروش على فتح معارك مع الكيان, بفعل تقديس موازين القوى المائلة دوماً لصالح الكيان, وبفعل الالتزام بالتبعية للغرب الاستعماري, فأنت غادرت مساحة الوهم, وأدخلت نفسك في فضاء مختلف, لا توجد فيه سلاسل الهزيمة…
وحين تتعامى عن كل القدرات الأمنية والعلمية والتقنية, وأجهزة المراقبة وأدوات الحرب الحديثة والحاسمة لدى عدوك, وتتخطّى هذه البديهية, وتقدم على الممنوع ” وتوظف إرادتك ومحدودية معارفك” فهذا لاهوت سياسي مقاوم من طبيعة الإعجاز السياسي, وعملقة في وجه مارد متوهَم, وتلك معجزة التحدي…
وحين تقدم على خوض غمار معجرة من طبيعة مختلفة, تدرك صعوبتها, وتدرك أثمانها اللاحقة على المقاومين والأرواح المدنية, والبنى المادية والعمرانية, فأنت تبحث عن نصر من طبيعة مختلفة أيضاً, وهذا دونه الأثمان الضخمة, لكنه نصر فيه عبور استراتيجي لمعنى فلسطين, ومعنى الوطن, وفيه خسائر بنيوية بالكيان الاسرائيلي, وخسائر من طبيعة وجودية عبر خلخلة الوعي الاسرائيلي وتدمير يقينياته وروايته, وهذا يدخل في باب استخدام التفكير الاستراتيجي في المواجهة التاريخية مع الكيان…
في كل ذلك من مفاهيم وتجليات لتجاوزات المألوف, كان القرار السياسي بالعبور والبدء في تسطير المعجزة السياسية واختراق ما كان مستحيلاً, وتباعاً كان الوصول إلى المعجزة الميدانية التي وقعت أحداثها في السابع من أكتوبر, وفي الحرب البرية التي لا زالت أحداثها تتوالى منذ ثلاثة شهور, محدثة صدمات متتالية للكيان, على مستوى قياداته السياسية, وقيادات جيشه, ومستوى الشارع الاسرائيلي ومؤسساته الإعلامية والثقافية وحيث أثبت المقاوم الفلسطيني المتسلح بإرادته, جدارته في الميدان والمواجهة, وأثبت إيمانه العميق بقضيته الوطنية, برغم الإبادة التي يمارسها الاحتلال, وكل الدمار والخراب والترحيل والقتل الذي لا يتوقت…
الطبيعة العدوانية…لا تحتاج إلى أسباب…
إن أي قراءة لمعركة طوفان الأقصى من عنوان الخسائر التي أحدثها العدوان من إبادة جماعية, وتحويل القطاع إلى منطقة غير قابلة للحياة, مع ممارسة التهجير وقتل الآلاف من أهل القطاع, للوصول إلى أن معركة طوفان الأقصى لم تكن خياراً ضرورياً, أو أنها مغامرة غير محسوبة في ضوء نتائجها المدمرة والكارثية, هي قراءة ساذجة وسطحية…
مثل هذه القراءة هي تجاوز ونكران لطبيعة الكيان وعقيدته الاستيطانية والإجلائية والعنصرية, وتغييب لمخططات الكيان الممنهجة وشعاراتها السياسية “كي الوعي” “وجز العشب” وغيرها والتي لا يتوقف الكيان عن ممارستها كلما شعر بتعاظم قوة المقاومة, وهذا يعني أن الحرب العدوانية بكل أهوالها هي من طبيعة الكيان العدوانية, واسترتيجياته السياسية والأمنية المتمرحلة, ولم يكن العدوان ردة فعل على معركة في مواجهته أو دفاعاً عن النفس, ولم يحتاج إلى مبررات حتى يمارس طبيعته العدوانية, بقدر ما كان يحتاج إلى تفعيل طبيعته وعقيدته الإجلائية في الوقت المناسب وكان يحتاج إلى إعادة الاعتبار لقوة الردع للجيش الاسرائيلي, ليس عبر تدمير غزة فحسب, إنما لتوجيه رسالة قوية ومرعبة للأنظمة العربية في حال أي تفكير بتغيير مواقفها السياسية أو الأمنية, ورسالة إلى لبنان وحزب الله بذات المعنى…أي إبقاء الأنظمة العربية “مردوعة ومرعوبه” كجزء من أهدف الحملة على غزة…
ثنائية المأساة والملحمة…
وعليه فإن المقارنة بين ما حققته معركة طوفان الأقصى من مكاسب, وما حققه العدوان الاسرائيلي على غزة من خسائر, قد لا تبدو منطقية بفعل هول الخسائر التي تكبدّها أهل القطاع من قتل وتدمير وترحيل, وهي خسائر لا يجب أن يتغافل عنها أو يهوّن من تبعاتها أي مسؤول أو مواطن, وبالمقابل لا يجب أن تغيب الصورة الأخرى للمقاربة…
هل استطاع الاحتلال كسر الصمود والمقاومة بخلق الكارثة…؟ وهل قدمت المقاومة أو البيئة الحاضنة صك الاستسلام أمام الكارثة..؟ وهل كسر وعي الشعب الفلسطيني مع هول الكارثة…؟ وهل مجازر الأطفال والنساء أضعفت الهوية وهزمت الحاضنة الشعبية…؟
الأمر لا يحتاج إلى البحث عن الأجوبة, بقدر ما يحتاج إلى رؤية صورة الواقع كما هو من ثنائية المأساة والملحمة, مأساة تلد صموداً وعنفواناً وإصراراً على المقاومة, وملحمة ميدانية تحدث أزمات وجروح في الكيان, فهذه أول حرب يفقد فيها العدو عنجهيته وسطوته وغروره, وتتآكل مجدداً عقيدته الأمنية العسكرية, وجيشه لم يبرهن على جدارته في الميدان, بقدر ما أثبتته آلته العسكرية والصاروخية على التدمير والإبادة, وإذا قرأنا ميزان الخسائر والأرباح في هذه المعركة, فالأمر يحتاج أيضاً إلى تظهير تلك الأزمات السياسية الداخلية التي تعصف بمؤسسة الحكم, وهي أزمات ليست كسابقاتها التاريخية, وتظهير تلك االتصدعات في المجتمع الاسرائيلي الذي يجمع على قتال الفلسطيني, ولكنه يعيش قلق الوجود الدائم, حيث عبر عنها معظم المسؤولين بالقول أنهم يخوضون حرباً وجودية, وحرب الاستقلال الثانية بما يجعل مئات الآلاف يغادرون الكيان / الهجرة العكسية, لعدم يقينهم باستمرار هذا الوجود, حيث تتحدث بعض المصادر عن مغادرة نصف مليون إلى خارج الكيان خلال الشهور السابقة, وعلى الجانب الآخر فإن الترحيل من الشمال والجنوب إلى وسط البلاد يشكل عبئاً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً, لا يمكن التهوين من آثاره على أكثر من مستوى, وفي هذه الحرب توقفت عجلة الاقتصاد الاسرائيلي بكل قطاعاته, وأن خسائر الكيان قد تجاوزت حتى الآن (56 مليار دولار) دون الآثار الاجتماعية والاقتصادية اللاحقة والمستمرة…
أما الإضافة النوعية التي أضافها طوفان الأقصى وصمود غزة, فقد تمثلت في ذلك الفتح الاستراتيجي في الرأي العام العالمي, وإحداث تحول نوعي في وعي الشعوب نحو فلسطين وشعبها…
خذلان عربي…وأمريكا تحارب غزة
ومن المفارقات التاريخية أن هذا القطاع الضيق وصغير المساحة يصمد أمام ما يقال عنه أقوى جيوش العالم وأكثرها تقنية وتسليحاً, وليس ذلك فحسب, إنما كان صموده أمام الدور الأمريكي المشارك فعلياً في الحرب عبر إمداد الكيان بجسر جوي لإمداد السلاح, وعبر استدعاء البوارج الأمريكية المتاخمة على بحر غزة, وعبر الخبرات الأمنية, وأقصى درجات الدفاع الدبلوماسي في مجلس الأمن وفي العالم, ورفض وقف إطلاق النار بالمطلق…
وازداد الأمر مأساوية مع بلوغ العجز العربي مدى الخيانة, حيث تحولت الأنظمة العربية الرسمية إلى دول مرعوبة ومردوعة ومتآمرة, بعد رسالة تدمير غزة, إلى تلك الأنظمة, الأمر الذي أضاف بعداً مأساوياً آخر على أهل غزة, حيث شعر الشعب الفلسطيني بالخذلان العربي أمام جرائم الإبادة الجماعية, ولم يتلقى إلا ما تفتق به العقل العربي الرسمي ضمن أقصى درجات الدعم بلفظة “الإدانة والاستنكار” وما يسمى بالدعم الغذائي الإنساني الشحيح…!! مما شجع الكيان على الاستمرار في عدوانه وإعطائه ضوءاً أخضر عربي…
هذا النظام العربي فقد وظيفته في الحفاظ على الأمن القومي العربي, وفقد علاقته مع مفهوم العروبة, وأخوة الجار, وفقدت دوله مبرر وجودها التاريخي, وإذا كانت غزة قد تحولت إلى حطام وبقي إنسانها, فإن النظام العربي تحول إلى حطام في الوعي العربي عموماً, وعزل عن شعوبه, وغزة ستكون بشارة التحول وبداية الغيث في مستقبل عربي أفضل, وستكون عامل أساسي في الإطاحة بزعماء الكيان والولايات المتحدة وغيرهم في المنطقة…