2023-12-17 16:58:10
أمد/
قد يجانبه لبّ الصواب مَن يعتقد أنّ تقاطر جيوش الغرب بحراً وجواً وبرّاً إلى منطقة الشرق الأوسط يستهدف غزة هاشم، أو إبراق رسالة ردع لدول وجيوش وشعوب هذه المنطقة إن سوّلت لها أنفسها ـ مجتمعة أو متفرقة ـ أي محاولة مهما صغرت أم كبرت للتدخل، أو حتى لاستنقاظ ربيبتها وصنيعتها المدللة "إسرائيل" فحسب. بل لعل في الأمر ما قد يتجاوز تلك الاحتمالات فرادى ومجتمعين، خصوصاً إذا ما أمعنّا النظر في طبيعة هذا الجمع الغربي الذي يضمّ ضحايا الحربيْن العالميتيْن وجلّاديهم في آن معاً، في سابقة لم تحدث من قبل، وربّما لن تحدث مستقبلاً.
من البداهة الاستنتاج أن أمراً جللاً مشتركاً قد وحّد اليوم كلّ الغرب بمتناقضاته على اختلافها، وبطبيعة الحال فإن هذا الأمر يتمحور حول المصير المشترك الواحد، الحياة أو الموت وفق صرخة شكسبير المدوّية قبل عدة قرون خلت: "نكون أو لا نكون". ومما يؤكد ذلك جملة من المعطيات المتزامنة والمتتابعة فور صدمة زلزال "طوفان الأقصى" فجر سبت السابع من تشرين أول/أكتوبر الفائت، هذا الزلزال الذي أقل ما يمكن أن يقال فيه وعنه أنه مثّل بحق الشعرة التي قصمت ظهر البعير الغربي قبل الإسرائيلي ـ وهذا مبحث آخر ـ ولعل من جملة تلك المعطيات، على سبيل المثال لا الحصر، التوحّد المنقطع النظير على كافة المستويات القطرية والإقليمية والدولية في مواجهة ما اعتُبر تهديداً وجودياً ليس فقط إسرائيلياً بل وأمريكياً وللغرب الاستعماري برمته، وهو ما تجلى في الإجماع الأمريكي الرسمي بجناحيه الجمهوري قبل الديمقراطي باعتباره حرباً وطنية أمريكية خالصة، والمسارعة الإسرائيلية حكومة ومعارضة على تشكيل حكومة حرب موحدة، والفزعة الأمريكية والأوروبية العسكرية قبل السياسية والدبلوماسية والإعلامية وحتى الثقافية. وكذلك في التوحّد الهستيري غير المسبوق حول الانقياد "الببغائي" الأعمى خلف الفبركات الصهيونية التي تمثّل أصدق تعبير عن سياسة "غوبلز" النازي القائمة على مقولة "اكذب ثم اكذب حتى يصدّقك الناس"، مميطين بذلك اللثام عن حقيقة سمفونياتهم التي لا نهاية لها حول حقوق الإنسان والقانون الدولي والإنساني وحقوق الطفل والطفولة والمرأة والإنسان بشكل عام. وبالمقابل التوحّد حول تصوير ما يجري بأنه حرب بين التحضّر والهمجية ـ وهذا مبحث آخر أيضاً ـ والهمجية هنا تعني "حماس" بعد "تدعيشها"، وتصوير ما يجري على أنه حرب مقدّسة بين فرسان الحضارة أو "النور" و "خفافيش الظلام" الهمج، وهو ما يذكّر بتشكيل "التحالف الدولي" لضرب أفغانستان والعراق ثم ليبيا وسوريا ـ أرضاً وشعباً ـ بعد "تقعيد" ثم "تدعيش" نظمهم القائمة الرسمية منها والشعبية..!
وبشيء من التحليل الموجز، يبدو جليّاً أن ما يحدث في أوكرانيا، ومفاعيله المتنامية وخصوصاً الاقتصادية منها وفي طليعتها الطاقوية، وارتداد السحر على الساحر فيها. فضلاً عن المتغيرات الدراماتيكية في القارة الإفريقية بذهبيْها الأسود والأصفر ومعادنها النفيسة وفي مقدمتها اليورانيوم. وكذلك النفوذ الصيني والروسي المضطرد المصحوب بتوسيع مجموعة البريكس وتعاظم حالات ومحاولات الانفكاك والتمرد الدولي على هيمنة نظام القطب الأمريكي الأوحد ودولاره المتربع على عرش الاقتصاد العالمي بل والجاثم فوق صدره… كل ذلك وسواه، قد جعلت الغرب الاستعماري بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، يوقن بأنه قد بات يواجه حرباً مصيرية صفرية لا بدّ له من خوضها طوعاً أو كرهاً. وهو الذي أزهق أرواح عشرات الملايين من البشر، ناهيك عن الشجر والحجر، في حربيْن عالميتيْن بين دوله المختلفة ـ ليس هنا مجال الإسهاب في تحليل مسبباتهما ونتائجهما ـ وهو أيضاً الذي بنى ما يسمى تجاوزاً حضارته، وكذلك رغد عيشه على جماجم الملايين من شعوب العالم واستعبادها ونهب ثرواتها تحت شعارات برّاقة خدّاعة، برّر من خلالها كلّ ما اقترفت يداه، وما أكثره..؟!
من هنا جاء هذا التقاطر الغريب العجيب، في محاولة أخيرة يائسة لاستنقاظ ما يمكن استنقاظه من بساط الهيمنة والأحادية القطبية الذي يوشك أن يسحب من تحت أقدامه، وهو الذي بذل قصارى جهده منذ بداية عقد تسعينيات القرن العشرين الماضي، ليتربّع على عرش الأحادية ويحافظ عليها بلا منازع أو حتى شريك، في أعقاب انهيار النظام الثنائي القطبية السابق. بل ذهب في مطلع القرن الحادي والعشرين الجاري إلى حدّ التبشير بأن هذا القرن هو القرن الأمريكي بامتياز، وليس هنا مجال الحديث عن ما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها من حروب وفتن بإداراتها الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة، أزهقت من خلالها أرواح ملايين الأبرياء وضعف ذلك من الجرحى والمعاقين، وكذلك اللاجئين والمهجّرين والمهاجرين، كما دمّرت دولاً آمنة لم تشكل أدنى تهديد لها. مستدعية في سبيل ذلك فبركات تاريخية دينية بائدة من نمط "الحروب الصليبية" والحرب على الإسلام ثم "الحرب على الإرهاب" الإسلامي طبعاً، وأخيراً حرب التحضّر ضد الهمجية والبربرية… وتخلل كل ذلك الإفصاح بمنتهى العنجهية والغطرسة عن سعيها لفرض إعادة فك وتركيب المنطقة وفق مشيئتها تحت مسميات "الشرق الأوسط الجديد" تارة و "الشرق الأوسط الكبير" تارة أخرى.
أما لماذا اختيار منطقة الشرق الأوسط كمكسر عصا لهذا الكباش العالمي المصاحب لمخاض ولادة نظام عالميّ جديد لم تتبلور معالمه بعد على أنقاض النظام الأحادي الاستعماري الظالم والمتغطرس والدموي بل واللا إنساني… فإن الجواب الشافي الوافي لهذا السؤال الكبير يحتاج إلى الكثير من البحث والتنقيب والدراسة والتحليل، وسبر أغوار حركة التاريخ الإنساني للعالم القديم بقاراته الثلاث ـ آسيا، إفريقيا، وأوروبا ـ وصولاً إلى العالم المعاصر، وليس هنا مجاله. ولكن يكفي في هذا المقام أن نشير إلى أن هذه المنطقة تحتل موقعاً حيوياً لا مثيل له في الأهمية والتأثير، وبالتالي كانت على امتداد التاريخ البشري مطمعاً لكافة الحضارات الصاعدة والطامحة للهيمنة، حيث في الماضي السحيق كان مَن يظفر بها ويسيطر على قلبها النابض ممثلاً في فلسطين التاريخية وجوارها يعتلي عرش العالم برمته عسكرياً وأمنياً واقتصادياً وتجارياً… أما في الماضي القريب والحاضر المعاصر، وخصوصاً بعد صحوة أوروبا من عصورها المظلمة، وتسابق دولها المختلفة لتقسيم وتقاسم واستعمار باقي الكعكة العالمية، فقد تحوّلت المنطقة إلى شريان حياة الغرب الأوروأمريكي، حيث احتلت مصادر الطاقة مكان الصدارة لدى المجمّعات الصناعية الغربية بشتى فروعها وتخصصاتها العسكرية والمدنية وحتى الحياتية، بالإضافة إلى أهمية موقعها الإستراتيجي الفريد سالف الذكر.
ومن هذا المنطلق أجمع الغرب الاستعماري على ضرورة تبنّي المشروع الصهيوني، والعمل على صناعة وزراعة ورعاية تجسيده العملي "إسرائيل" كدولة وظيفية، وما واكب ذلك من تقسيم وتقاسم المنطقة بشكل تعسفي وبمسميات مختلفة، بغية الحيلولة دون وحدة واستقلال وتطوّر ونهضة هذه المنطقة، ووضع اليد على مصادر الطاقة والثروة فيها، واعتبار ذلك مسألة حياة أو موت، وهو ما يحتاج إلى حديث مطوّل لا مجال له هنا. ويكفي في هذا السياق اقتباس قول الرئيس الأمريكي "المغلّظ" بايدن مؤخراً: "لو لم تكن إسرائيل موجودة لأوجدناها"، في رسالة واضحة وصريحة بأنه لا حليف ولا شريك ولا وكيل ولا حتى صديق للولايات المتحدة الأمريكية والغرب الاستعماري في المنطقة سوى "إسرائيل" حصريّاً و"إسرائيل" فقط لا غير. وهو الذي كرّر مراراً وتكراراً اعتزازه بصهيونيته، مبدياً حسرته على كونه غير "يهودي"، وغابطاً وزير خارجيته بلينكن على يهوديته التي انتشى بها فور فزعته لتل أبيب في أولى جولاته المكوكية في المنطقة..؟!
وقد أفصح الرئيس الأمريكي بايدن عن الأهداف الحقيقية للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في مقال يحمل اسمه نُشر يوم الثامن عشر من تشرين ثاني/نوفمبر، مستبقاً حتى نتائج الحرب المستعرة وانقشاع غبارها، بأن المطلوب "استعادة هيبة الولايات المتحدة"، وقطع الطريق على النفوذ الصيني ـ الروسي المتزايد، والإجهاز على أية محاولات تمرّد أو رفض أو مقاومة مسلحة وحتى غير مسلحة يمكن أن تهدد بقاء الولايات المتحدة متسيّدة المنطقة والعالم كقطب واحد ووحيد. مستحضراً مجدداً مشاريع "الشرق الأوسط الجديد" و "الشرق الأوسط الكبير"، والذي يُراد له أن يكون بحيرة أمريكية صرفة وبحراسة إسرائيلية حصراً. وما يستوجبه ذلك من "تحالف دولي" بقيادة البيت الأبيض مجدداً، بهدف ما أسماه "كسر دائرة العنف وإنهاء الحرب إلى الأبد"، وهو ما تجري محاولات تحقيقه على الأرض راهناً، ولكن بطريقة متسلسلة ومتتابعة، وعلى نار "مقبولة"، تفكّك "وحدة الساحات" وفق منطق "إضرب المربوط كي يرتدع الفالت"، في محاولة لكسب الأهداف المرجوّة دون تكبّد عناء الحرب الشاملة وتكاليفها الباهظة ونتائجها غير المحسومة الربح..؟!
ويبدو أن قادة الاحتلال الإسرائيلي قد أدركوا أيّما إدراك هذه الحقيقة، واستغلّوها أيّما استغلال، لدرجة أن كبيرهم نتنياهو قد بدأ كالطاووس يمارس دوره القيادي المحوري ليس في المنطقة بل وعالمياً، متلحّفاً بعباءة الترسانة الأمريكية والغربية الحاضرة بقوة لمؤازرته. فكان ردّه المتغطرس على قادة العرب والمسلمين المؤتمرين في الريّاض: "عليكم أن تصمتوا". وكان رفضه المتعجرف لما ورد على لسان الرئيس الفرنسي ثمّ رئيسي وزراء إسبانيا وبلجيكا وغيرهم بضرورة مراعاة "القانون الإنساني الدولي" عند ممارسة "حق الرد" الإسرائيلي. وكان التطاول حتى على الأمم المتحدة بأنها "فقدت المصداقية والشرعية"، وتهديد أمينها العام بعدم ترشيحه لولاية جديدة. وكان.. وكان..؟!
كما يبدو أن هؤلاء القادة وداعميهم من صقور الولايات المتحدة والغرب، كانوا أكثر صراحة واستعجالاً من بايدن وإدارته، في سعيهم الحثيث لاستغلال التواجد العسكري الأمريكي ـ الغربي غير المسبوق، واستدراجهم لحرب صفرية شاملة، للقضاء المبرم على كافة المقاومات المجاورة وغير المجاورة لفلسطين التاريخية، وإعادة العرب والمسلمين ومنتقديهم ومعارضيهم والمتطاولين على "عرش الدولار الأمريكي" ونظامه العالمي الأحادي إلى "العصر الحجري" أو "بيت الطاعة والاستعباد" وإلى الأبد. حيث كانت الدعوات لسحق قطاع غزة وتسويته بالأرض وحرقه وضربه بالنووي، تليه وقد ترافقه الضفة الغربية واستكمال تهويد القدس العاصمة الأبدية الموحدة للدولة القومية اليهودية. وكانت التهديدات بتعميم نموذج غزة المدمّرة ليطال العاصمة اللبنانية بيروت، واحتلال سوريا، واحتلال الأردن وتنصيب نظام يتماشى مع التهجير و "الوطن البديل" ـ مشروع شارون القديم المتجدد ـ وإعادة احتلال سيناء وتهجير مَن يتبقّى من مواطني غزة إليها، وتحويل قطاع غزة إلى قاعدة أمريكية ـ إسرائيلية وميناء تجاري عالمي بعد خنق مصر وتجفيف شريانها الحيوي قناة السويس وإنشاء بديلها "قناة بن غوريون" ذات الاتجاهين وفق المشروع الأمريكي ـ الهندي البديل لطريق الحرير الصيني ـ بالإضافة إلى إعادة تركيا لصوابها، وتدمير قدرات إيران وتغيير نظامها السياسي..؟!
مما تقدّم، وبعيداً عن أية أوهام، يتضح أن زلزال "طوفان الأقصى" قد أصاب "إسرائيل" في مقتل ونسف مبررات وجودها، وهي التي تمثّل قاعدة عسكرية متقدمة للولايات المتحدة والغرب الاستعماري في المنطقة، وفرض حرباً وجودية صفرية ضروس، تتسم باللعب على المكشوف، ورفض الحياد والمواقف الرمادية، والتخلّي عن الدبلوماسية واللباقة ومساحيق حقوق الإنسان والديمقراطية وحتى مباديء الأخلاق الأساسية، فضلاً عن إنهاء حتى أساليب تكتيك حفظ ماء الوجوه… وبالتالي، فإن ما يصدر من انتقادات خجولة غربية رسمية وشبه رسمية للأسلوب الاحتلالي، وليس للأهداف والمبررات، لا يعدو عن كونه امتصاص لردود الفعل الشعبي العالمي، ولحسابات أخرى بعيداً عن الحقوق الفلسطينية الثابتة والمشروعة، وكذلك العربية. كما أن محاولات الهروب إلى الأمام، من خلال طروحات مشاريع ما بعد الحرب على غزة، وقبل حسم نتائجها الميدانية، ما هي إلا محاولات لانتزاع مسبق لمكاسب يساورهم الشك في إمكانية انتزاعها في ميادين الحرب، فضلاً عن الإيحاء بأنهم ما يزالون يمتلكون كل أوراق الحل والعقد والربط، وإغراق المنطقة خاصة والعالم عامة في سجالات سابقة لأوانها وتحت سقوفهم المحددة، بل والإلهاء عن ما يجري من جرائم حرب وتطهير عرقي وإبادة جماعية. وحتى سيناريوهات "الهدن الإنسانية" إن استمرت، وكذلك وقف إطلاق النار إن حدث اضطرارياً لاعتبارات تتعلق بالحرص على دولة الاحتلال أولاً وأخيراً، فإنها لن تعني بأي حال من الأحوال انتهاء الحرب الصفرية التي بدأت للتو، بل مجرد انتهاء معركة في هذه الحرب الطويلة الشاملة، والتي تفرض مواجهة تفصيلية شاملة، تنحّي الصراعات البينية، وتضع الخلافات الجانبية جانباً، وتصوّب البوصلة تكتيكياً وإستراتيجياً نحو المصالح العليا المشتركة، ومواجهة الخطر الوجودي الذي يتهدد ويستهدف الجميع ولا يستثني أحداً. وهو ما يحتاج إلى حديث آخر.
وعليه، يتأكد من جديد أن قدر منطقة الشرق الأوسط أن تبقى مكسر عصا الحضارات صعوداً وهبوطاً، وأن تظل فلسطين التاريخية وقلبها القدس الشريف بوّابة الحرب والسلام في العالم أجمع.