2023-12-19 13:53:41
أمد/
تعتبر قضية الأسرى من القضايا المركزية عند الشعب الفلسطيني، لما قدموه من تضحيات كلفتهم حريتهم وفي بعض الأحيان حياتهم ثمنًا لها، لقد بلغ عدد الأسرى قبل معركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، نحو 5200 أسيراً، من بينهم (59) أسيرة، ونحو (160) قاصرًا بينهم ثلاث أسيرات قاصرات، و(915) معتقلًا إداريًّا، و34 يعانون من مرض السرطان. ولقد استشهد مئات الأسرى داخل سجون الاحتلال أو بعد الإفراج عنهم بفترة وجيزة بسبب الإهمال الطبي المتعمد، مما يؤكد على أن الاحتلال جعل من السجون مكانًا لنشر الأمراض التي تلاحق الأسرى بعد تحررهم وتسبب لهم الوفاة. فقد ارتقى 243 شهيدًا منذ سنة 1967 وحتى تشرين الثاني/نوفمبر2023 داخل سجون الاحتلال، ومنذ السابع من أكتوبر تم إعدام 6 معتقلين جراء التعذيب والضرب ارتقوا شهداء داخل السجون. وقد بلغ عدد الأسرى المحكومين بالمؤبد "الأحكام الفلكية" تقريبًا 600 أسير، منهم من هو رهن الاعتقال منذ أكثر من ثلاثة عقود. بعد السابع من أكتوبر قامت إسرائيل في اعتقالات انتقامية وعقوبة جماعية غير مسبوقة، فاعتقلت حوالي أربعة آلاف فلسطيني في الضفة، وهي ورقة مساومة للضغط والمقايضة وابتزاز المقاومة التي تأسر الجنود في القطاع.
وتتعمد إدارة مصلحة السجون حرمان الأسرى من أبسط الحقوق التي نصت عليها كافة المواثيق الدولية، وهي حقهم في العلاج، من خلال سياسة الإهمال الطبي المتعمد. يهدف الاحتلال إلى معاقبة الأسير على ممارسته حقه المشروع في المقاومة، هذا الحق الذي كفلته الشرائع السماوية والمواثيق الدولية، ونداء الواجب الوطني بضرورة التخلص من الاحتلال. فالإهمال الطبي هو عقوبة إضافية يفرضها الاحتلال على الأسرى المرضى ليعيشوا المعاناة المركبة والحقيقية، فالأسير المريض يجتمع عليه ألم القيد، وألم الجسد معاً، وألم القيد أهون بكثير من ألم الجسد داخل المعتقل الذي سببه الأول والأخير "الإهمال الطبي". إن الرعاية الصحية للأسرى شكلية وشبه معدومة بدليل ارتقاء الشهداء من بينهم، وازدياد عدد المرضى منهم؛ الأمر الذي يشكل خرقاً لمواد اتفاقيتي جنيف الثالثة (المواد 29 و30 و31) والرابعة (المواد 91 و92)، والتي أوجبت حق العلاج والرعاية الطبية، وتوفير الأدوية المناسبة للأسرى المرضى، وإجراء الفحوصات الطبية الدورية لهم.
لم تلتزم إدارة مصلحة السجون باتفاقها مع الأسرى في إضرابهم الأخير سنة 2017عن الطعام الذي استمر 42 يومًا، وكان من أبرز مطالبه تحسين الرعاية الطبية، ووقف سياسة الإهمال الطبي، والإفراج عن الأسرى المرضى، وإنما صعدت من سياسة الإهمال الطبي بحق الأسرى المرضى، ورفضت نقل العديد منهم إلى المستشفيات المدنية.
وعلى نفس المنوال، اتخذت الحكومة الإسرائيلية ضد الأسرى العديد من القرارات والتشريعات، والتي تهدف للنيل من الأسرى ومعنوياتهم والتضييق عليهم ومحاصرتهم في زنازينهم لتزيد من معاناتهم المتزايدة والمتواصلة التي تنفذها إدارة مصلحة السجون بحقهم. حيث أصبحت عاملًا أساسيًا في استهداف قضية الأسرى وزيادة حدة معاناتهم. فالهدف من هذه القرارات والتشريعات المتخذة ضد الأسرى إفراغهم من قيمهم الوطنية وزرع الشك في قناعاتهم في مقاومة الاحتلال، بالإضافة إلى أنها تسهم في صبغ الانتهاكات والجرائم الإسرائيلية بالصبغة القانونية.
كما عملت إسرائيل على تشريع القوانين العنصرية ضد الأسرى، ومن أبرزها، مشروع قانون إعدام الأسرى، ومشروع قانون يقضي بحظر الإفراج عن الأسرى، مقابل جثث الجنود الإسرائيليين المحتجزين لدى فصائل المقاومة، وقانون خصم مخصصات الأسرى والشهداء من مستحقات السلطة الذي تم إقراره من قبل المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر "الكابنيت" في 17شباط/ فبراير 2019، أي خصم جزء من أموال الضرائب بما يوازي مجموع الأموال التي تدفعها السلطة لعوائل الشهداء والأسرى.
وفي نفس السياق، استخدمت الأحزاب الإسرائيلية الأسرى كوقود لدعايتها الانتخابية، وذلك باتباع أساليب متعددة منها التقدم للكنيست بالعديد من القوانين ومن ثم تشريعها، وهذا ما تجلى في دعاية رئيس حزب اليمين الجديد نفتالي بينت في 4آذار/مارس 2019، حيث وجه رسالة ضد الأسرى كدعاية لخوض الانتخابات.
وجدير بالذكر، أن جريدة القدس في17شباط/فبراير 2019، دقت ناقوس الخطر من خلال التطرق للهجمة الإسرائيلية على الأسرى التي تستدعي دق جدار الخزان بضربات شديدة، من قبل الكل الفلسطيني، من خلال حديث القدس الذي تناول الدراسة الموسعة التي أجراها الباحث عقل صلاح حول سياسة الإهمال الطبي المتعمد من قبل إدارة مصلحة السجون بحق الأسرى المرضى التي نشرت في مجلة المستقبل العربي العدد 480 في آذار/مارس 2019.
وفي بيان استنجاد بالأمة الإسلامية والعربية صادر عن الحركة الأسيرة في 26شباط/فبراير 2019، جاء فيه أن الاحتلال يمارس بحق الأسرى كل أشكال الإجرام والتنكيل ومنها حرمان آلاف الأسرى من زيارة أهاليهم منذ سنوات، بالإضافة لتركيب أجهزة التشويش المسرطنة في كافة أقسام السجون.
لقد عمدت إسرائيل منذ قيامها على أرض فلسطين إلى فتح العديد من السجون وزجت بعشرات الآلاف من الفلسطينيين والعرب بها، وعملت على استصدار وإقرار كافة القوانين والسياسات العنصرية والقمعية لاستهداف الأسرى للنيل من عزيمتهم وثنيهم عن مواصلة الكفاح ضدها. فمنذ بداية اعتقال أول أسير فلسطيني وحتى اليوم وهي تبتكر وسائل وأساليب للتضيق على الأسرى في زنازينهم، وحديثًا بدأت تمنح ممارساتها الإجرامية الصبغة القانونية من خلال تشريعاتها لسلسة من القوانين التي تستهدف الأسرى ومحاصرتهم على جميع الصعد.
أما بخصوص الدعائم الأساسية التي اعتمدت عليها السياسة الفلسطينية الرسمية وغير الرسمية من أجل معالجة قضية الأسرى، فالدعامة الأولى الرسمية، تمثلت في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، حيث تتعامل السلطة مع ملف الأسرى ضمن القضايا المرتبطة بالحل النهائي مثل الحدود والأمن واللاجئين. وعلى الرغم من أن هذه السياسة أدت إلى الإفراج عن العديد من الأسرى، إلا أن إسرائيل استخدمت هذه السياسة لحمل السلطة على تقديم تنازلات. والثانية غير الرسمية، تبادل الأسرى، حيث جرى العديد من صفقات التبادل التي أفرج بموجبها عن الآلاف من الأسرى، ولكنها جرت وفقًا لشروط معينة فرضها الاحتلال ومنها، عدم الإفراج عمن شاركوا في عمليات قتل لجنود ومستوطنين، وإبعاد بعض الأسرى المحررين إلى خارج الوطن أو اشتراط إبعاد البعض من الضفة إلى القطاع. وفي هذا الإطار، أكد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية بأن الأسرى يمثلون أحد ركائز المشروع والنضال الوطني، مضيفًا بأن حركته مصممة على تحرير الأسرى من خلال زيادة الغلة، وهذا الأمر على رأس أولويتها.
لقد عملت حركة حماس على تبني خطة عملية لتحرير الأسرى وبالأخص النساء والأشبال والمرضى منهم، وبعد تنصل الاحتلال من كل الاتفاقيات، تبين أن الاحتلال لا يفهم غير لغة القوة. فالسياسات الإسرائيلية وضعت المقاومة الفلسطينية أمام سؤال مهم وهو كيف يمكن تحرير الأسرى؟، وإجابته واضحة، فتجربة أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط قد أجبرت الاحتلال على الإفراج عن أكثر من ألف أسير مقابل الإفراج عن شاليط، وغير ذلك يبقى في خانة المطالبة والشجب والاستنكار والدعاء بالفرج. فإسرائيل غير معنية بحل ملف الأسرى، ولعل تملص إسرائيل من إطلاق سراح الدفعة الرابعة والأخيرة من أسرى ما قبل أوسلو والتي كان من المقرر الإفراج عنهم في 29آذار/مارس 2014 أكبر دليل على ذلك.
ومن أجل إنقاذ الأسرى عملت حماس على خلق المزيد من الفرص السياسية بتطوير عملها المسلح وصولًا للمعركة التي زعزعت من خلالها الأمن الإسرائيلي وحصدت مزيدًا من التأييد الشعبي لعملها المقاوم، ومن البديهي القول بأن حماس أثبتت نفسها في ساحة المقاومة، وبالأخص بعد الانسحاب الإسرائيلي من القطاع على إثر ضربات المقاومة، والذي رأت به حماس والشعب الفلسطيني إنجازًا لم يحقق مثله مسار المفاوضات، فتولدت قناعة لدى الأوساط الشعبية أن لغة المقاومة هي اللغة التي تفهمها إسرائيل، وأن معادلة زيادة الغلة هي المعادلة الوحيدة التي تجبر إسرائيل على إطلاق سراح الأسرى، كما حصل في صفقة جلعاد شاليط. وعلى هذه القاعدة عملت حماس وأعدت جيدًا لمعركة يعجز جيش عن القيام بها في مهاجمة إسرائيل، وإيقاع الهزيمة في جيشها في السابع من أكتوبر2023، إضافة إلى اقتناصها للفرص المتاحة أمامها والمتمثلة بإمعان إسرائيل في التنكيل بالأسرى حتى وصل الحد في المتطرف الوزير إتيمار بن غفير في دخول السجون وتهديد الأسرى ومطالبته بقطع المياه والطعام عن الأسرى وحرمانهم من جميع حقوقهم التي حصلوا عليها بدمائهم وأمعائهم الخاوية ومعاناتهم، فإسرائيل هي التي مهدت الطريق أمام حماس للقيام في المعركة من خلال خطواتها الغبية والمتمثلة في الإمعان في قتل الشعب الفلسطيني وتهميش قضيته ورفضها المطلق لصفقة إطلاق سراح الأسرى، وقد شكلت الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على الشعب الفلسطيني، وبالتحديد على المسجد الأقصى والأسرى فرصة كبرى للحركة تمثلت بردع إسرائيل وخلق حقائق جديدة على الأرض والإيفاء بتعهدات القائد يحي السنوار ومحمد الضيف بتحرير الأسرى. فكان العديد من القادة الأسرى منهم حسن سلامة وعبد الله البرغوثي وإبراهيم حامد وعبد الناصر عيسى وغيرهم الكثير معاول تحفيز للحركة من سجنهم من خلال رسائلهم شديدة الانتقاد للحركة للخلاص من ملف الأسرى، وقد لعب فرار 6 أسرى عبر "نفق سجن جلبوع" في 6أيلول/سبتمبر2021، دورًا في النهوض بالحالة الثورية لدى الكتائب لتخليص الأسرى من السجن، وذلك من خلال أسر جنود جدد.
فإدراك حماس للتغير الداخلي الذي طرأ على قوة كتائب القسام والذي تمثل بدعم بلا حدود من القادة على رأس الحركة وهم من مؤسسي الكتائب وفي مقدمتهم السنوار والقائد صالح العاروري اللذان عاشا أكثر من عقدين في سجون الاحتلال مع رفاقهم الذين مازالوا رهن الاعتقال، فقد كان واضحًا في سياسة حماس أن الأسرى، وبالتحديد المؤبدات منهم لا يمكن بقاؤهم في السجون ليخرجوا في أكياس سوداء بعد سنوات، فبعد صفقة شاليط ورفض إسرائيل إطلاق سراح الأسرى القادة المؤبدات أصحاب الأحكام الفلكية، أدركت كتائب القسام أن إسرائيل لا يمكن أن تستجيب ولا تريد دفع الثمن المتمثل في إطلاق سراح الأسرى. وفقدان حماس الأمل بعقد صفقة جديدة لتبادل أسرى الاحتلال مقابل إطلاق سراح المؤبدات، أدركت حماس أن الفرصة السياسية مفتوحة أمامها لتغيير معادلة التفاوض لصفقات جديدة من تبادل الأسرى، فأعدت جيدًا للمعركة وكان هذا ظاهرًا بشكل جلي في أسر المئات من الجنود والضباط وطريقة إخفائهم التي كانت جاهزة وعدم قدرة إسرائيل في الوصول لهم بعد أكثر من شهرين على المعارك الطاحنة في القطاع، ومنهجية تسليم الرهائن والتعامل مع الرهائن بأخلاق ولطف وإنسانية فريدة، وسلوك الرهائن المفرج عنهم أذهل العدو والصديق وحتى التسليم في المناطق التي دخلتها ودمرتها القوات الإسرائيلية في القطاع، وفي المقابل كيف تعاملت وتتعامل إسرائيل مع الأسرى من خلال إذلالهم وتجريدهم من جميع ملابسهم وتصويرهم والتبول عليهم وقتل العديد منهم؛ فطريقة التعامل مع الأسرى توضح المنتصر من المهزوم، فدائما المهزوم يلجأ للانتقام والقتل والتعامل بطريقة العقاب الجماعي.
وهذا ما تجلى في الهدنة الإنسانية التي بدأت في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، واستمرت ستة أيام وتم خلالها تبادل للأسرى ما بين كتائب القسام التي أطلقت سراح الرهائن المدنيين الإسرائيليين والجنسيات المختلفة مقابل إطلاق إسرائيل للأسيرات والأشبال الفلسطينيين. وكانت معادلة التبادل واحد مقابل ثلاث، وإدخال المساعدات الإنسانية، وقد انتهت الهدنة الإنسانية لرفض إسرائيل التفاوض على شريحة جديدة وإصرارها على الإفراج على نفس شروط الشريحة الأولى، فرفضت المقاومة شروط إسرائيل التي أرادت اعتبار العسكريين وبالتحديد المجندات مدنيين، فتوقفت الوساطات وانتهت الهدنة في الأول من كانون الأول/ديسمبر 2023وعادت إسرائيل لحرب الإبادة للشعب الفلسطيني في غزة، وفي الثاني من نفس الشهر أعلن نائب رئيس المكتب السياسي للحركة العاروري، عن موقف الحركة "لا تبادل للأسرى إلّا بعد وقف الحرب نهائيًا"، ولن تسير في طريق التبادل إلا بشروط المقاومة وتطبيق معادلة الكل مقابل الكل، ولكن إسرائيل تحاول إطلاق سراح الأسرى بالقوة، ولكنها فشلت فشلًا ذريعًا في تحرير أي جندي، حيث فشلت عمليتها لتحرير الجندي الأسير ساعر باروخ في 8كانون الأول/ديسمبر2023، فتم قتل ساعر، وإيقاع القوة الصهيونية بين قتيل وجريح، وهذا يؤكد على أن صفقة التبادل هي النافذة الوحيدة أمام إسرائيل لتحرير جنودها وضباطها أحياء. وفي الختام، يمكن القول أن حماس ستفتح نافذة الحرية للأسرى من خلال الصفقة القادمة التي سوف تبيض السجون وتعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية على جميع الصعد.