أمد/
سعت ايران خلال العقدين الماضيين على تمتين حضورها في المنطقة وإبراز نفوذها في ظل غياب واضح للنفوذ العربي وأنشأت تحالفات مع بعض النظم العربية بموازاة نسج علاقات تحالفية مع قوى وتيارات شعبية تشارك ايران العداء لإسرائيل. وقوبل الحضور الإيراني بحملات تحذيرية من الكيان الصهيوني ومن دول عربية وغربية إلا أن هذه المخاوف لم تصل إلى مستوى تبني مشاريع عربية لاحتواء الحالة الايرانية، وكل ما رشح عن دوائر صنع القرار الأميركية هو إقرار مشروع للتعاون الإقليمي لمواجهة هذا الحضور لكنه لم يترجم عمليا. ومع هذا فان السؤال المركزي المطروح اليوم هل فعلا ايران وإسرائيل جادتين في قتال بعضهما البعض ؟ يأتي هذا التساؤل بعد استهداف عدد من قيادات الحرس الثوري الإيراني في سوريا خلال الأسابيع الماضية آخرهم اغتيال سيد رضي موسوي، أحد كبار مستشاري الحرس الثوري الإيراني في سوريا، مساء الاثنين (25/12/2023).
ويرى غالبية المراقبين أن هذا الاغتيال سيضيف تحولا جديدا في طبيعة المواجهة بين تل ابيب وطهران لاسيما أن الموسوي يحتل الموقع الثالث في قيادة "قوة القدس" التابعة للحرس الثوري ووصف رسميا بأنه كان يتولى " مسؤولية إسناد جبهة المقاومة ". وفي الوقت الذي لم تعلن فيه إسرائيل مسؤوليتها عن الاغتيال إلا أن كبار المسؤولين الإيرانيين أكدوا ارتكابها لهذه الجريمة، وتوعد الحرس الثوري الإيراني بأن " الكيان الصهيوني سيدفع ثمن هذه الجريمة". وضمن سياق الردود بين الطرفين ذكرت صحيفة (يديعوت أحرونوت) الأربعاء(29/12/2023)، أن إسرائيل هددت باغتيال زعيم حزب الله اللبناني، حسن نصر الله، في أعقاب اغتيال القيادي في الحرس الثوري الإيراني، رضا موسوي. وقال وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين ، "إن الأمين العام لحزب الله اللبناني يجب أن يفهم أنه التالي في الدور". ومن المرجح أن الحكومة الاسرائيلية أعلنت عن هذه التهديدات بعد أن لمست مدى الجدية في مستويات التهديد بالثأر والتي جاءت من الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، وبتوجيه من المرشد الأعلى ، والعد التنازلي بدأ مثلما قال حسين أمير عبد اللهيان وزير الخارجية.
ورأى البعض أن عملية الاغتيال تمثل انتقاما إسرائيليا من إيران على خلفية هجوم السابع من أكتوبر الذي شنته المقاومة الفلسطينية في غزة، والذي حظي بمباركة من القيادة الإيرانية والتي نفت في ذات الوقت علاقتها بعملية طوفان الأقصى وصرحت على لسان مسؤوليها بأن "طوفان الأقصى عملية فلسطينية بحتة وايران تتبنى عملياتها دون خوف ".
ويبدوا أن كيان الاحتلال لا ينوي استدراج ايران إلى حرب مباشرة لاعتبارات عديدة إلا أن منطق "حرب الظل" الذي كان قائما بين بين الطرفين في الأعوام الأخيرة أصبح الآن منطقا مكشوفا بعد السابع من أكتوبر ويشتمل على بنك أهداف متنوع يطال اغتيال قيادات عسكرية بارزة وعمليات تخريب ضد ايران ، ومن هذه الزاوية يمكن ملاحظة أيدي إسرائيل في الهجوم السيبراني الأخير على منظومة محطات الوقود في إيران، وكذلك الهجوم على مركز قوات الشرطة في راسك في محافظة سيستان وبلوشستان جنوب شرق إيران، والذي أسفر عن مقتل 12 شخصا.
ومن الواضح أن ايران لن تتخلى عن سياسة النفس الطويل لتجنب الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل. فهي تعي أن نتنياهو يسعى إلى تحقيق عدة أهداف من وراء هذه الاغتيالات أهمها أن يخرج إسرائيل من المأزق الاستراتيجي الذي وجدت نفسها فيه، وأن تحد ايران من دعمها لقوى المقاومة وربما دفع القيادة الإيرانية إلى إنهاء سياسة النفس الطويل لاستدراجها إلى ساحة المعركة في غزة، وتاليا دفع أميركا إلى خوض الاشتباكات العسكرية.
لذلك، فإن أمام طهران خيارين: الأول، هو التزام سياسة النفس الطويل والرد على إسرائيل بواسطة قوى المقاومة الحليفة وعلى جبهات متعددة، والخيار الثاني هو عدم التزام طهران سياسة النفس الطويل وبالتالي شن هجوم مباشر بالصواريخ والمسيرات إلا أن المؤشرات الحالية تقول بأن ايران ليست في وارد حرب مباشرة مع اسرائيل وغيرها نظرا لتبعاتها وتداعياتها المكلفة. وبغض الطرف عن الخيارات المتوقعة أمام ايران فإن عملية الاغتيال هذه تأتي مغايرة عن عمليات سابقة فهي تتزامن مع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ولها وقع بالغ الحساسية على سمعة إيران ومكانتها الإقليمية والدولية، حيث تعرضت لعديد الانتقادات من خصومها لأنها لم تناصر حلفائها في محور المقاومة ووقف المجازر وحرب الإبادة في قطاع غزة بالتدخل العسكري المباشر أو غير المباشر وأضحت هيبتها ومصداقية تهديداتها على المحك. ولذلك هي مطالبة أمام الرأي العام الداخلي وأمام حلفائها وأنصارها في الخارج إلى اتخاذ اجراء انتقامي عملياتي يرتقي إلى حجم استهداف السيد الموسوي وذلك لرفع المعنويات، وأيضا للتأكيد على أنها لا تتردد في الثأر لشهدائها في استهداف اسرائيل في أي مكان. وأكدت وسائل إعلامية مقربة من السلطات الإيرانية بأن عملية الرد لن توكل للحلفاء بل ستقوم بها بنفسها وفي أقرب فرصة ممكنة مما حدا بالبعض أن يستنتج أن الرد ربما يتزامن مع ذكرى اغتيال قاسم سليماني في الثالث من شهر يناير المقبل.
في الواقع، لا يستبعد أن تكون عملية اغتيال الموسوي خطوة مقصودة من حكومة نتنياهو لوضع الولايات المتحدة الأميركية أمام استحقاق حرب مباشرة مع إيران لإشعال المنطقة بحروب مدمرة بعد أن أدركت اسرائيل أنها في مأزق كبير في عدوانها على غزة وأنها لم تحقق أي من أهدافها المعلنة في كسر المقاومة وتهجير الفلسطينيين بل على النقيض فهي تواجه مقاومة نوعية أوقعت بها الخسائر الفادحة أفقدتها هيبتها وأمنها واستقرارها ، ولهذا يريد نتنياهو توسيع دائرة الحرب وتوريط الولايات المتحدة لخلط الأوراق والهروب من المأزق السياسي والميداني الذي يعيشه.