أمد/
في الاجتماع الأخير الذي جمع الشهيد القائد الوطني بامتياز الشيخ صالح العاروري، إلى عدد من القيادات الفلسطينية في بيروت، تحدث الشهيد بادئاً حديثه إليهم قائلاً: "أن ليس لدينا أوهام أن الأمور ستسير كما هي، الثمن كبير، لكن الخاتمة هي انتصار لن يستطيعوا هزيمتنا أو كسرنا أطمئنكم. هناك ثبات وصمود. لا تقلقوا على نتائج المعركة".
بهذه الكلمات كأن الشهيد أراد قبل القول: – اليوم بينكم وغداً الله أعلم، وكأن احساسه يؤشر له أنه يعيش أيامه الأخيرة، لذلك هو في الفترات الأخيرة كان يُكثر الحديث عن الشهادة والشهداء، ومرد ذلك اطمئنانه النابع من يقين راسخ أنّ شعبنا ومقاومته منتصرة، ولا مجال للتشكك بأنّ العدو الصهيوني سيهزم لأنه هُزِم منذ السابع من تشرين الأول 2023، كما في المواجهات اليومية أمام المقاومة.
بعد أيام قليلة على الاجتماع، وصلت يد الغدر الصهيونية الجبانة للشيخ صالح العاروري مع عدد من رفاقه. السؤال لماذا وبعد ثلاثة أشهر على ملحمة طوفان الأقصى التي نفذتها المقاومة الفلسطينية بعنوان كتائب القسام والسرايا وسائر فصائل المقاومة، وحرب الإبادة الإجرامية التي يشنها الكيان الصهيوني على شعبنا في قطاع غزة، قرّر نتنياهو تنفيذ عملية الاغتيال بهذا التوقيت واختيار المكان؟
الشهيد والقائد الوطني الكبير الشيخ صالح العاروري، الأجهزة الأمنية الصهيونية تلاحقه منذ سنوات بهدف اغتياله، ولأجل ذلك تمّ رصد مكافأة مالية قيمتها خمسة ملايين دولار لما يُدلي بمعلومات عنه، ليس فقط من قبل الكيان بل أيضاً من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. والكيان قد بدأ حربه العلنية ضد الشهيد العاروري، بطلبٍ رسمي من تركيا بضرورة منع تواجده وممارسة نشاطه وعمله على أراضيها، وكان له ما طلب، فكان الخيار الضاحية الجنوبية من بيروت مقراً وإقامةً وعملاً. وعُقب ملحمة طوفان الأقصى تداولت وسائل الإعلام العبرية اسمه ضمن ستة من قادة حماس لاستهدافهم، حتى أنّ نتنياهو صرح بما يخصه مهدداً إياه. إذاً ماذا في التوقيت واختيار المكان؟
أولاً، الأجهزة الأمنية في الكيان تنظر للشهيد العاروري على أنه أحد مهندسي ملحمة "طوفان الأقصى". بالإضافة إلى أنه القائد المباشر عن حركة حماس وكتائب القسام في الضفة الغربية التي شهدت وتشهد تصعيداً مرتفعاً في أعمال مقاومة الاحتلال. وهو المُنسق بين حماس من جهة، وحزب الله وإيران من جهة ثانية.
ثانياً، في الوقت الذي كثر فيه الحديث عن فشل الوساطات لتنفيذ هُدن تفضي في الإفراج عن أسرى ومحتجزين من كلا طرفي المقاومة من جهة، والعدو الصهيوني من جهة أخرى. ومرد ذلك إلى تمسك المقاومة برؤيتها للحل القائم على وقف العدوان وانسحاب قوات العدو، وبعدها يجري الحديث عن بقية القضايا والتي في أساسها إبرام صفقة الكل مقابل الكل بما يخص الأسرى عند المقاومة وكيان الاحتلال. والدوائر في أمريكا والكيان تُحمل مسؤولية الفشل إلى تعنت قيادة المقاومة في مطالبها، لا سيما من هم في قطاع غزة وعلى رأسهم المجاهد يحيى السنوار، مضافاً لهم ومن ضمن ممن تم تحميلهم فشل الوساطات الشهيد الكبير الشيخ صالح العاروري، الذي كان قد لعِب دوراً بارزاً في صفقة وفاء الأحرار أو ما سميت ب "صفقة شاليط" العام 2011. وهنا ما تؤكده قيادات المقاومة، أنه وبعد الاغتيال الجبان للشيخ العاروري ورفاقه، الموقف من مسألة أية هدن قادمة لما تعد قائمة، وهي أصبحت أكثر تشدداً إذا ما اعتقد العدو الصهيوني أنّ الاغتيال سيدفع باتجاه تليين المواقف لجهة القبول بهدن للإفراج المتبادل عن أسرى لدى المقاومة والعدو الصهيوني.
ثالثاً، بعد الفشل المدوي لجيش الاحتلال الصهيوني المتوغل في قطاع غزة من تحقيق أي منجز أو انتصار عسكري، تريد حكومة نتنياهو وقادتها العسكريين تحقيق صورة انتصار لهم يقدمونه لمجتمع المستوطنين. ذهبت تلك الحكومة ورئيسها إلى اغتيال الشيخ صالح العاروري، وهو من دون أدنى شك هدف كبير وثمين. وهذا يصنف أو يقع تحت مندرج الهروب إلى الأمام من الهزائم الميدانية التي تلاحقُ العدو في كل مناطق قطاع غزة وتحديداً في شماله، على أيدي أبطال المقاومة.
رابعاً، اعتقد نتنياهو وجوقة ائتلافه الفاشي وحكومة الطوارئ، أنّ باغتيالهم للشيخ العاروري هم يحضرون لمشهد اليوم التالي بعد العدوان، من خلفية ما تمّ تسريبه أو ترويجه من قبل وسائل إعلام تدور في فلك الدوائر الأمريكية، عن أنّ هناك رؤية جدية في إعادة ترتيب إدارة القطاع بما يتوافق مع مسعى كيان العدو في الإمساك بأمن قطاع غزة بشكلٍ مباشر. متناسين أنّ المعركة والحرب لم تضع أحمالها وهي حتى الآن ليست في صالح الإدارة الأمريكية الأصيل في هذا العدوان، ومعها الوكيل حكومة نتنياهو. فالميدان المشتعل تحت أقدام الغزاة الصهاينة لن تعطيهم أحقية فرض رؤيتهم على شعبنا ومقاومته الباسلة.
خامساً، نتنياهو الذي يعلم علم اليقين أنه في اليوم الثاني للعدوان هو إلى مزبلة تاريخه الإجرامي الأسود، حيث مصيره السجن الذي ينتظره بفارغ الصبر. وما يسعى نتنياهو إليه من خلال الاغتيالات هو توسيع رقعة الصراع في حربٍ إقليمية شاملة، وتوريط الولايات المتحدة الأمريكية في هذه الحرب ضد إيران التي لطالما حرّض على الإدارة الأمريكية على ضربها عسكرياً على خلفية ملفها النووي. وبذلك ينفذ ما سعى إليه منذ سنوات إلى تلك الحرب المُتخيل في عقله المريض والمهووس بالإجرام والمجازر.
سادساً، نتنياهو وحكومته عندما قررت اغتيال الشهيد العاروري في الضاحية الجنوبية، كانوا يُدركون المخاطر المترتبة على فعل هذا الاغتيال الجبان. ورغم ذلك ذهبوا إليه لأنهم كانوا يتعمدون إيصال رسالة في اتجاهين. الأولى، لمجتمع المستوطنين بأنهم قادرين وغير مردوعين من تهديدات حزب الله وأمينه العام السيد حسن نصر الله. والثانية، لحزب الله بأنّ تهديدكم لا قيمة له ولا نقيم له أية حسابات. وهنا صحيح أنه في الوقت الذي يضع الحزب في حساباته المصالح الوطنية للبنان، وبالتالي هو يقد خبر تعقيدات التركيبة الطائفية والسياسية التي تطبع لبنان المنقسم أهله وأحزابه فيما بينهم على الكثير من الملفات، وتحديداً حول الاستراتيجية الدفاعية، والمعادلة الذهبية "الجيش والشعب والمقاومة" التي أطلقها ويتبناها حزب الله ومعه سائر حلفاؤه في لبنان. ولكن الأصح من ذلك أنه عندما يتم تهديد المقاومة بعنوان حزب الله عموماً، والاعتداء على الضاحية الجنوبية العاصمة الجهادية لحزب الله، فالوضع هنا أو عندها يشكل تحولاً خطيراً، لأن الحزب لا يتحمل أن يعمل العدو الصهيوني على تغيير قواعد الاشتباك التي عمل الحزب وأرسى تلك قواعدها منذ العام 2006. وهذا ما أكد عليه سماحة أمين عام حزب الله السيد نصر الله بأنّ الرد على جريمة الاغتيال قادمة لا محالة، وإذا ما ذهب العدو إلى الحرب على لبنان فالمصلحة الوطنية تفرض علينا خوضها بلا حدود أو ضوابط، والليالي والأيام بيننا.