أمد/
لقد أقدمت إسرائيل على اغتيال الشيخ القائد الوحدوي صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في قصف إسرائيلي لشقة في الضاحية الجنوبية في لبنان، المعقل الأساسي لحزب الله اللبناني الذي يستقبل العاروري ورفاقه القادة في جنوب العاصمة اللبنانية بيروت، مساء يوم الثلاثاء الثاني من كانون الثاني/يناير2024. وعلى إثر الخبر توشحت فلسطين في السواد والحداد والإضراب الشامل احتجاجًا على عملية الاغتيال التي طالت قائدًا تاريخيًا له بصماته في الضفة والقطاع والسجون، ومحبوب من قبل جميع الفصائل، وأينما حل أوجع إسرائيل. ولعل السابع من أكتوبر مازال ماثلًا أمام إسرائيل وهزيمتها المستمرة، فحتى بعد اغتياله مازال يلاحق إسرائيل، ومازالت دماؤه ودماء رفاقه القادة تأرق إسرائيل خوفًا من ردة الفعل على جريمة الاغتيال.
وهذا يقودنا في البداية لتناول نبذة مختصرة عن الشيخ صالح محمد سليمان العاروري. ولد العاروري في قرية عارورة قضاء رام الله في 19 آب/أغسطس 1966، وكان قد التحق بالعمل الإسلامي في سن مبكرة، وقاد العمل الطلابي الإسلامي للكتلة الإسلامية في جامعة الخليل منذ عام 1985 حتى اعتقاله في سنة 1992. وهو متزوج وله ابنتان ويعيش في لبنان.
ويذكر أن العاروري اعتقل لأكثر من 18 سنة في السجون الإسرائيلية، اعتقل إداريا منذ سنة 1990 وحتى سنة 2007، تقريبًا 15 سنة بتهمة تشكيل الخلايا الأولى للكتائب القسامية في الضفة، ثم أعيد اعتقاله بعد ثلاثة شهور من الإفراج عنه، ولمدة ثلاث سنوات حتى سنة 2010، حيث قررت المحكمة العليا الإسرائيلية الإفراج عنه وإبعاده خارج فلسطين وترحيله إلى سوريا.
العاروري قيادي سياسي وتنظيمي وعسكري فلسطيني بارز، وهو نائب لرئيس حركة حماس، وهو من مؤسسي كتائب القسام الجناح العسكري لحماس في الضفة، ويعد الرأس المدبر لتسليح كتائب القسام، وله بصمات كبيرة جدًا مع مجموعة من شباب حماس الذين استطاعوا إقناع قادة حماس التي كان مسيطر عليها من قبل الشيوخ الكبار -مؤسسي الإخوان المسلمين- الذين كان لهم موقف من استخدام العمل العسكري خوفًا من إغلاق مؤسساتهم واستهدافهم من قبل إسرائيل، لتبني العمل العسكري في بداية التسعينات، وكان أحد أصلب وأعند أعضاء الفريق المفاوض لإتمام صفقة وفاء الأحرار "صفقة شاليط" في 18 تشرين الأول/أكتوبر 2011، وظل مصرًا على دفع الثمن مقابل شاليط حتى في الأسماء التي طرحت من قبله، حيث كان له علاقات معهم، وهو من نظمهم للعمل العسكري، وكان سجينًا لفترات طويلة معهم. بعد الإفراج عنه، تم ترحيله إلى سوريا وبعد استقراره بها ثلاثة أعوام خرج منها في تشرين الثاني/نوفمبر 2012، إلى تركيا وتنقل بين عدة دول من بينها قطر وماليزيا، وبعد ضغط أمريكي وإسرائيلي على قطر وتركيا طلبت منه الدولتين مغادرة أراضيهم، فذهب إلى الضاحية الجنوبية في لبنان لعلاقاته النوعية مع محور المقاومة وبالتحديد مع السيد حسن نصر الله.
يؤكد عدد من قادة الحركة على أن الكتلة الإسلامية في الجامعات استطاعت من خلال برامجها تأسيس وتخريج قيادات مؤثرة في المجتمع، أبرزهم القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام محمد الضيف ومؤسس جهاز مجد الأمني يحيى السنوار، ورئيس الوزراء هنية، وفي مقدمتهم العاروري.
وبناء على ما سبق، يجب الاعتراف أن استشهاد العاروري خسارة فادحة للشعب والقضية الفلسطينية والمقاومة، وهو حدث جلل أصاب حركة حماس بمصيبة لما له من تأثير ودور على جميع الصعد في الساحة الفلسطينية بشكل عام، وعلى مستوى حركة حماس بشكل خاص. يعتبر العاروري القاسم المشترك ما بين فروع حماس الأربعة، الضفة والقطاع والخارج والسجون، بالإضافة إلى الجناح العسكري. وتعتبر كلمته هي النافذة في الكتائب، وقد لعب دور المفوض العام من الكتائب للتفاوض والإقرار فيما يخص الكتائب أثناء حرب الطوفان، والتفاوض على التبادل والهدن وغيرها من العلاقات التفاوضية مع جميع الوسطاء العرب والدوليين. كما كان يحظى بشعبية عارمة في الحركة، وله مكانة كبيرة عند الأسرى والجناح العسكري الذي يعتبر هو أحد مؤسسيه ومموليه حتى تاريخ استشهاده؛ ولعلاقته المميزة مع محور المقاومة ودوره الكبير في عملية الإعداد والتمويل والتجهيز والتدريب وتناقل الخبرات والتطوير المستمر للكتائب من خلال محور المقاومة وهو صاحب نظرية وحدة الجبهات. لطالما اعتبرته إسرائيل أحد أهم مؤسسي الكتائب في الضفة، كما اتهمته بأنه يقف خلف عملية خطف المستوطنين الثلاثة في الخليل، وجميع عمليات الضفة الغربية، وبعد كل عملية كانت إسرائيل تسارع لتحميله المسؤولية عنها، فبعد كل خطبة له أو لقاء تلفزيوني، تحصل عملية نوعية مما أوجع الاحتلال.
أن عملية الاغتيال وتاريخ ودور الشيخ يقودنا للتعريج على تاريخ حركة حماس، فكيف كانت حماس وكيف أصبحت، فقد كانت منشغلة بعد 1967 ببناء مؤسساتها ونشر دعوتها وتجنيد الشباب وإصلاح المجتمع، ولم يكن الجهاد ضد الاحتلال الإسرائيلي ضمن أولوياتها، فلم يكن الاحتلال هو المعيق لعمل الحركة الجهادي بل كان عملها تحت نظر الاحتلال. إذ تم الموافقة والترخيص من قبل الاحتلال لإنشاء المجمع الإسلامي، ولو وجد الاحتلال في أنشطة الحركة أي تهديد له؛ لعمل على قمعها واستهدافها كغيرها من التنظيمات الفلسطينية التي كانت منشغلة بأعمال المقاومة. وهذا يتجلى بشكل واضح عندما سلكت الحركة طريق الجهاد والمقاومة في بداية التسعينيات، تم استهدافها أشد استهداف من قبل الاحتلال إبتداءً من الاعتقالات مرورًا بالإبعاد وإنتهاءً في الاغتيالات التي طالت قادتها، وعلى رأسهم المؤسس الشيخ ياسين.
وبدأت الحركة بالانخراط في أحداث الانتفاضة الأولى عام 1987، مستخدمة في البداية أساليب تجنبت فيها الصدام المباشر مع الاحتلال، ومنها الدعوة لترديد الشعارات، والاعتصام على أسطح المنازل، والدعوة للصوم. إلا أنها سرعان ما انتقلت للعمل المسلح والذي اتخذ أشكالًا متعددة كقتل وخطف جنود، واغتيال العملاء، وزرع العبوات الناسفة، وإلقاء الزجاجات الحارقة. وبدأت الحركة بتطوير عملها العسكري، ففي عام 1989 قامت بأسر جنود إسرائيليين، وعلى إثرها تم اعتقال العديد من قيادات الحركة، وعلى رأسهم الشيخ ياسين. وابتكرت حرب السكاكين ضد جنود الاحتلال عام 1990، مما مهد الطريق لتأسيس الجناح العسكري للحركة والمسمى بكتائب عز الدين القسام في 1991، الذي يعد العاروري أحد أهم مؤسسي الكتائب في الضفة والقطاع.
لقد واجهت قيادة الإخوان وبخاصة الشيخ ياسين تساؤلات لا تنتهي حول موقف الحركة من مسألة فلسطين والحركة الوطنية الفلسطينية من قبل الأجيال الشابة، ومن ضمنهم الشيخ صالح العاروري وغيره ممن تم اغتيالهم وممن هم في السجون الإسرائيلية الذين حملوا راية الجهاد ونقلوا الحركة نقلة نوعية في العمل العسكري، وكان العاروري حتى استشهاده من أكثر القيادات التي حافظت على الجناح العسكري حتى وصل إلى جيش قوي قاد معركة طوفان الأقصى، ويسجل أيضًا للعاروري والسنوار وغيره من القادة الذين حولوا الحركة من حركة سياسية اجتماعية دعوية إلى حركة مقاومة، بأنهم حافظوا عليها بعدم تحولها إلى حزب سياسي، وأصروا على عدم تكيفها مع واقع الحكم السياسي الرسمي الفلسطيني، ومضوا في بناء القوة الاستراتيجية فوق الأرض وتحت الأرض في القطاع من خلال حفر شبكة الأنفاق العملاقة، بعيدًا عن التطويع والتكيف الذي كان يهدف لجر الحركة إليه بعد دخولها النظام السياسي الفلسطيني، وبالتحديد الانتخابات التشريعية عام 2006 وما نتج عنها. ففي نهاية هذه النقطة كان العاروري من المبادرين للعمل العسكري في التسعينيات، وهو من القادة الذين تمسكوا بالعمل العسكري وأبقوا على خيار القوة وتطورها لمواجهة إسرائيل بهذا الشكل الحالي.
وفي عام 2010، انتخب العاروري عضوًا في المكتب السياسي للحركة وبقي في منصبه حتى أكتوبر 2017، وفي التاسع من تشرين الأول/أكتوبر عام 2017 أعلنت الحركة عن انتخابه نائباً لرئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية، وفي 20 حزيران/يونيو 2014، تم هدم منزله في منطقة عارورة شمال غرب رام الله. وكانت قوات الاحتلال قد هددت منذ بداية الحملة باستهداف منازل قادة حركة حماس في الضفة رداً على اختفاء 3 مستوطنين في الضفة. وفي الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 2023، قامت قوات الاحتلال مرة ثانية بهدم منزل العاروري الخالي من السكان في رام الله أثناء معركة طوفان الأقصى.
ولم يقتصر الاستهداف والملاحقة للعاروري على إسرائيل لوحدها بل اشتركت به الولايات المتحدة الأمريكية، ففي العاشر من أيلول/سبتمبر 2015، صنفت العاروري "كإرهابي عالمي" حسب التصنيف الظالم للمقاومة الفلسطينية. وعرضت سنة 2018، مكافأة قيمتها 5 ملايين دولار أمريكي مقابل الإدلاء بمعلومات تقود له، فأمريكا وإسرائيل يعتبروه رأس الإرهاب، بينما يعتبره الشعب الفلسطيني والمقاومة وحماس قائد أركان المقاومة في الضفة وغزة ومهندس طوفان الأقصى. وحتى قادة السلطة الفلسطينية يعتزون به، فقد صرح جبريل الرجوب "أن رحيله خسارة فتحاوية قبل أن تكون حمساوية…خسارة لكل حركات التحرر الوطني…وأنا حزين لأنه صمام أمان للوحدة الوطنية الفلسطينية".
وجاء تصريح الرجوب ليذكر في الدور الوحدوي الذي لعبه العاروري في جلسات الحوار "المصالحة" وكان العاروري ومعه يحيى السنوار من أكثر القادة في حماس الذين دعموا من أجل التوصل للمصالحة الفلسطينية وقدموا تنازلات كبيرة جدًا من أجل إتمام المصالحة، إلا أن هناك قادة فلسطينيين، وبدعم إسرائيلي وأمريكي عطلت تنفيذ ما تم الاتفاق عليه.
وهنا لابد من القول أن سياسة الاغتيالات ليست جديدة على العدو الصهيوني، فقد اغتال المئات من القادة الفلسطينيين منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية في الستينات وقبلها وحتى قبل انطلاقة حركة حماس، فقتل من الحركة جمال منصور وجمال سليم ويحي عياش والشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وصلاح شحادة وإسماعيل أبو شنب وأحمد الجعبري وغيرهم الكثير، فما زادت الحركة بذلك إلا قوة وعنفوانًا وبركة، ولم ولن تنتهي مقاومة الاحتلال بل زادت حتى وصلت بقوة طوفان الأقصى، وكانت ومازالت دماء القادة هي رسالة اطمئنان للمقاومة أنها على الحق، وجميع قادة فصائل المقاومة يتسابقون على الشهادة، وما سلكوا هذا الطريق إلا وهم يعلمون أن طريق النصر معمدة بدمائهم، وأن طريق تحرير الأسرى القادة في السجون الإسرائيلية لن يتحقق إلا في الدماء الطاهرة، وهذا مصير ودرب القادة التاريخيين والكبار، فقد كان العاروري يعلم الطريق الشاق فقد أمضى حياته مجاهداً ثم أسيراً ثم مبعداً و مطارداً حتى الشهادة مقبلاً.
وفي هذا الصدد، إن مسلسل الإرهاب الصهيوني في استهداف القيادات لا يتوقف، منذ غسان كنفاني وأبو جهاد وأبو علي مصطفى والشيخ أحمد ياسين والرنتيسي والشقاقي وقاسم سليماني وعماد مغنية ورضى الموسوي والقائمة تطول، ومازالت إسرائيل تهدد بكل مستوياتها السياسية والعسكرية والأمنية بملاحقة واغتيال القادة الفلسطينيين والعرب وقادة المقاومة، لذلك يتطلب من جميع القادة أخذ الحيطة والحذر وكل إجراءات الأمن الشديدة والمعقدة؛ لإفشال مخطط الموساد الإسرائيلي من الوصول لهم وبالتحديد القائد يحي السنوار وغيره حتى لا نعطي النصر الوهمي للاحتلال، ففشل اغتيال المقاومة هو مقاومة بحد ذاته.
ومن المؤكد أن سياسة قتل القيادات الفلسطينية أو غيرها من محور المقاومة لم يؤدي إلى تراجع الفصائل، ولعل حادثة اغتيال الأمين العام للجبهة الشعبية أبوعلي مصطفى مازالت ماثلة أمام الاحتلال الذي تلقى درسًا قاسيًا بعد قتل الجبهة للوزير المتطرف رحبعام زئيفي بعد أيام من استشهاد أبو علي، ونحن على يقين أن دماء العاروري ستكون لعنة على الاحتلال وسوف يدرك أن بقاء العاروري أفضل مليون مرة من اغتياله. ها هي الحرب على غزة تثبت وتؤكد على أن سياسة الاغتيال لن تنهي المقاومة، وحتى الليلة الثانية من يناير الأسود لن تنهي المقاومة وسوف تبقى المقاومة قائمة إلى أن يتحقق النصر وإقامة الدولة الفلسطينية والحرية والاستقلال والعودة للشعب الفلسطيني، غير ذلك هراء وسراب. وسوف تتفاجأ إسرائيل كما تفاجأت في السابع من أكتوبر، فقد كانت دماء القادة وقود الحشد والتعبئة والتضحية والفداء والصمود المنقطع النظير الذي واجه أقوى الجيوش، وهزمه من نقطة الصفر، ولعل المئات من المشاهد النوعية والفريدة تؤكد هذا المشهد الأسطوري الذي مازال مستمرًا. وهذا هو ما دعا الاحتلال الذي لم يتمكن في القطاع من تحقيق نصر إلى الوصول لحذاء يحيى السنوار، لذلك ذهبوا خارج غزة لقتل العاروري ظنًا منهم أنهم يستطيعون تعويض فشلهم في اغتيال قادة حماس على أرض المعركة الحقيقية في القطاع الذين يقاتلون ويمنعون الجيش الإسرائيلي من تسجيل أي انتصار عسكري في غزة، سوى قتل المدنيين وتدمير القطاع، وهذا ما يتحدث به الكثير من القادة الإسرائيليين باختلاف مستوياتهم وتخصصاتهم والعديد من الإعلاميين الإسرائيليين أن إسرائيل عاجزة عن تحقيق هدف واحد من أهداف الحرب، بل ذهبوا إلى المطالبة بوقف الحرب والقبول بجميع شروط حماس لإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين.
ففي بيان صادر عن الفصائل الفلسطينية في الثاني من كانون الثاني/يناير 2024، نعت به الفصائل الفلسطينية القائد الوطني الكبير الشيخ العاروري ورفاقه القادة، وأكدت على أن المقاومة مستمرة ودعت للرد عليها بقوة من كل الساحات والجبهات، وأعلنت الحداد الوطني العام والإضراب الشامل والتحرك الثوري في كل الساحات والجبهات. وبنفس السياق نعى حزب الله اللبناني وجميع أعضاء محور المقاومة العاروري، وطالبوا بالرد على الجريمة النكراء التي تطاولت على الدم الفلسطيني العربي بلبنان، وهذا ما أكد عليه سماحة الشيخ نصر الله في الثالث من كانون الثاني/ يناير 2024 في خطابه أن الرد قادم لا محال على جريمة الاغتيال لقائد كبير، وتجرأ الاحتلال وبهذه الطريقة على استهداف العاروري والضاحية الجنوبية. وهذا يؤكد أن إسرائيل تتهرب من هزيمتها في القطاع لفتح جبهات أخرى، وعدم تسليمها بالحلول السياسية للقضية الفلسطينية وقدرة بنيامين نتنياهو على التهرب وإدامة أمد الحرب خوفا من انتهائها ووصوله إلى السجن الذي ينتظره.
وفي النهاية، إن استشهاد الشيخ العاروري ورفاقه لن يوقف المقاومة ولن يضعفها بل على العكس تمامًا، فهذه الجريمة تزيد المقاومة والشعب الفلسطيني وكل أحرار العالم قوة وثقة في النصر والتحرير، وتؤكد فشل الحرب على القطاع مما جعل العدو يبحث عن صورة نصر له في الضاحية وهذا لن يتحقق، وستجعل الضاحية الاحتلال يندم على فعلته النكراء.