أمد/
عندما تحدث هزة أرضية لثواني معدودة في أي دولة، يهرع المواطنين خوفًا من انهيار مسكانهم على أجسادهم، ولك أن تتخيل الحياة وسط انفجارات وغارات عسكرية وإطلاق نار من كل صوب وحدب، ليلًا ونهارًا.. فكيف يستطيع أي إنسان على كوكب الأرض أن يعيش وسط هذه الأجواء المروعة؟.. الإجابة على هذا السؤال ليست صعبة، لأننا نراها بأعيننا على شاشات التلفاز، وعبر السوشيال ميديا، كل لحظة في قطاع غزة «الجريح»، الذي يشهد أصعب أزمة إنسانية على مر التاريخ، جراء العدوان الغاشم، من جانب جيش الاحتلال الإسرائيلي.
لم تكن هذه المرة هي الأولى التي يشهد فيها قطاع غزة عدوانًا على يد الاحتلال، ولكن هذه المرة، لا تقارن بما حدث من قبل، فالمشاهد مروعة وحزينة، من يراها لأول مرة، قد يظن أنها مشاهد من «فيلم أكشن»، ولكن المُفزع أن ما يحدث هو حقيقة مؤلمة، تتنافى مع كافة المواثيق والأعراف الدولية والإنسانية، التي ضرب بها جيش الاحتلال عرض الحائط، في تحدٍ سافر للعالم أجمع، الذي اكتفى ببيانات الشجب الإدانة، وتقديم حفنة من المال والمساعدات، وعجز عن وقف نزيف دماء الأبرياء الفلسطينيين، وأصبحت الأرواح في غزة لا قيمة لها.
ما يقوم به جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة، ليس مجرد حرب أو عدوان، وإنما هو خطة إبادة متكاملة لكافة مناحي الحياة على أرض النضال، التي تعيش لم تشهد دومًا استقلالًا أو حرية على مر العصور، بل كانت مطمع الغزاة، ومحط أنظارهم ليس الاحتلال فقط، بل تغيرت الخطة الممنهجة إلى محاولة التهجير القسري لأصحاب الأرض، والاستيلاء عليها عليها بالكامل، وظهر ذلك جليًا عندما نشهد كل يوم قيام دولة الاحتلال، بالتوسع في إنشاء المستوطنات.
ما حدث في 7 أكتوبر، هو أمرًا طبيعيًا من جانب المقاومة الفلسطينية، بمثابة ضربة مدوية هزت المجتمع الإسرائيلي، وحكومة «نتنياهو» المتغطرس، لما يرتكبه جيش الاحتلال من جرائم بحق الشعب الفلسطيني، ولكن عواقب الضربة كانت وخيمة على «شعب غزة» على وجه الخصوص، فوجه جيش الاحتلال ضربات عنيفة وشن غارات مكثفة، دمرت البنايات فوق رؤوس ساكنيها، في مشاهد مروعة لم تحدث من قبل.
الضربات الإسرائيلي الغاشمة، دمرت جنوب غزة بشكل شبه كامل، طالت المساكن والمستشفيات والمساجد والكنائس، والأسواق والمدارس، ولم يسلم منها سوى من كتب الله له القدر أن يصبح على قيد الحياة، وينتظر الموت في كل لحظة.. ما فعله جيش الاحتلال في غزة، دمر مختلف مناحي الحياة تمامًا، فأصبح سكان القطاع يعيشون داخل مخيمات ينتظرون المساعدات الإنسانية، التي تصل لهم بصعوبة شديدة، بسبب القيود التي فرضها الاحتلال.
ما يواجهه قطاع غزة كارثة إنسانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، نسبة كبيرة من السكان لا يملكون قوت اليوم، فأصبح الجميع يواجهون خطر المجاعة بالإضافة إلى انتشار الأمراض، وتأكد ذلك من خلال الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة في غزة،
والتي أفادت باستشهاد أكثر من 23 ألف شخص، بالإضافة إلى إصابة 58 ألفا و926 آخرين، منهم 70% تقريبًا من النساء والأطفال، ونحو 7 آلاف آخرين في عداد المفقودين، بالإضافة إلى نزوح 1.9 مليون شخص داخليًا، أي ما يقرب من 85% من السكان.
ويلجأ حوالي 1.4 مليون شخص منهم إلى مرافق الأونروا، ويقيم معظم الباقين مع الأصدقاء أو العائلة أو الغرباء، أو ينامون في العراء. ويعيش الآن حوالي مليون شخص -نصف سكان غزة- في منطقة رفح الحدودية الجنوبية وما حولها، بعد أن كانوا حوالي 280 ألف شخص قبل اندلاع الحرب، ولم يُسمح إلا لنحو 1100 شخص بمغادرة غزة عبر معبر رفح إلى مصر
وتشير الإحصائية إلى أن حوالي 65 ألف وحدة سكنية قد دمرت، أو لم تعد صالحة للسكنى. وتضرر 290 ألف منزل آخر، مما يعني أن نحو نصف مليون شخص لم يعد لديهم منزل يأوون إليه، في حين أن 500 ألف شخص ليس لديهم منزل، فإن العديد من الأشخاص سيظلون مشردين بسبب حجم الدمار الذي لحق بالمرافق العامة الحيوية في غزة، بالإضافة إلى أن 23 من أصل 36 مستشفى أصبحت غير صالحة للعمل كليًا، وتعرض نظام التعليم في غزة أيضًا لأضرار بالغة؛ فقد دمرت 104 مدارس أو تعرضت لأضرار جسيمة، وفي المجمل، أُصيب حوالي 70% من المباني المدرسية بأضرار، بينما تُستغل المباني القائمة إلى حد كبير لإيواء النازحين داخليًا.
وبسبب النقص في المياه الصالحة للاستهلاك الآدمي، أضحت الظروف مهيأة لانتشار الأمراض، حيث تم الإبلاغ عن أكثر من 100 ألف حالة إسهال، نصفها بين الأطفال دون سن الخامسة، وبحسب إحصائيات الأونروا، فقد كانت تدخل إلى قطاع غزة 20 شاحنة يوميا خلال الأيام العشرة الأخيرة من شهر أكتوبر، و85 شاحنة يوميًا، لكن هذه الأرقام لا تزال أقل بكثير من معدلاتها قبل الحرب، وهو 500 شاحنة في اليوم، ويصعب توزيع المساعدات الإنسانية بسبب القصف الإسرائيلي، الذي أودى بحياة 142 من العاملين في الأونروا، وتضررت بسببه 128 من مباني المنظمة.
وتعكس الأرقام سالفة الذكر، حجم الكارثة الإنسانية، التي يمر بها قطاع غزة، وتتزايد كل يوم، لعدم التوصل لقرار وقف إطلاق النار، ويدفع المدنيين العُزل ثمن الحرب الغاشمة، وهو الأمر الذي تسبب موجة غضب واسعة، على مستوى العالم، وتأجج الصراع السياسي في المنطقة، بعد قيام الحوثيين باستهداف السفن المتجهة لإسرائيل في البحر الأحمر، ولا أحد حتى الآن يستطيع أن يتنبأ بموعد إنهاء الحرب على غزة.
إن ما يحدث في قطاع غزة من جرائم ضد الإنسانية، يستوجب محاسبة دولة الاحتلال، التي دمرت الأخضر واليابس، وأزهقت أرواحًا بلا ذنب، برعاية وحماية الولايات المتحدة الأمريكية، التي تدعم الكيان الإسرائيلي، ويقف العالم عاجزًا عن وقف الأفعال الوحشية تجاه المدنيين دون التفرقة بين صغير وكبير، فمن يتواجدون على أرض غزة حاليًا بمثابة «موتى على قيد الحياة»، يفتقدون أبسط سُبل المعيشة، يواجهون مصير مجهول، بعد فقدانهم كل ما يملكونه، فأصبح قطاع غزة، أشبه بمدينة الأشباح، لا يمكن العيش فيه، ولكن أصحاب الأرض، يواصلون الصمود أملًا في معجزة إلهية، تنقذهم من من جحيم الاحتلال، واستعادة الأرض المنهوبة.