أمد/
حسن احمد عبدالله
أمد/ ثمة وجه اخر للدعوى المرفوعة من جونب افريقيا ضد اسرائيل، وهي انتهاء مسرحية “المحرقة” التي تاجرت فيها تل ابيب طوال سبعة عقود، وانكشاف الوجه الحقيقي لاسرائيل التي قامت اساسا على نفي وجود الاخر لتكتسب شرعية مزعومة من خلال المقولة التي اطلقها هرتزل: “فلسطين ارض بلا شعب لشعب بلا ارض”.
لا شك ان تمثيل دور الضحية طوال العقود الماضية، كان السبب بالاضطهاد الكبير للفلسطينيين والعرب، ومبررا لارتكاب المجازر، بدءا منذ العام 1948 حتى اليوم، لان الرؤية كانت “ان العرب سيقضون علينا، ويعملون على اباداتنا”، ولهذا كانت مرافعة الفريق الاسرائيلي في لاهاي مبنية على هذه النظرة غير المنطقية والمضادة لفلسفة القانون، وجعلت مسألة الهجوم على مستعمرات حدود غزة انها عملية من اجل الابادة الجماعية.
في هذا الشأن لا بد ان يتناسى المجرم الاسباب التي ادت الى رد الضحية ععل جرائمه، فهو لا يعترف اساسا بوجود الاخر، وبالتالي يعتبر اي رد فعل على جرائمه بمثابة عدوان عليه، واذا اخذنا بعين الاعتبار تصريحات رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، بشأن الابادة مستعينا بنص توراتي، لان في العقل الباطن الجمعي الاسرائيلي الاخر لا حقوق له، فان الابادة ضد الفلسطينيين هي سياسة راسخ في العقل الصهيوني.
هنا لا بد من التذكير ان التراكمات الجنائية لا تسقط مع الزمن، ولا تنفصل عن بعضها بعضا، فهي سلسلة مترابطة، اذ ان الفعل الاول يقابله رد وتتكرر ردود الفعل بين المجرم والضحية، لكن يتحمل مسؤوليتها مرتكب الجريمة الاولى.
ولما يكون المجرم يعمل على اساس نتائج مسبقة ليست مرتبطة بالضحية، انما هي صادرة عن مجرم اخر، عندها يتصور ان قتل الضحية هو قتل للمجرم التاريخي، اي باختصار، ان الممارسات الاوروبية ضد اليهود، قبل النازية، وخلال الحرب العالمية الثانية، منفصلة تماما عما يرتكبه الاسرائيلي منذ العام 1908 حتى اليوم ضد الشعب الفلسطيني، بل ان مجازره سابقة للممارسات العدوانية التي ارتكبها النازيون ضد اليهود، وبقية الاقليات العرقية الاخرى، ولا علاقة بين الفلسطيني والاوروبي في هذا الشأن، الا من خلال المزاعم الاوروبية بشأن الاستيطان اليهودي في فلسطين، والخطة التي وضعها نابليون في القرن الثامن عشر من اجل قطع الطريق بين المشرق العربي والمغرب لاضعاف الدولة العثمانية.
تاريخيا ارتكبت المنظمات الارهابية الصهيونية افعالا جرمية ضد دول وافراد من اجل تبرير عدوانه على هذا البلد او ذاك، واتهمت فيها جماعات في تلك الدول، او وشنت الحرب بذريعة “الدفاع من النفس الاستباقي”، كما فعلت في لبنان اعوام 1948و 1970 و1971 و1972، وايضا عام 1978 حين شنت حربا على لبنان بذريعة ابعاد المسلحين الفلسطينيين الى ما بعد الليطاني، وعملت على اقامة منطقة عازلة، واستعانت بالميليشيا العميلة لها للسيطرة عليها، واسمتها “دولة لبنان الحر”، اما العدوان الاكبر فكان في العام 1982 حين رتبت مسرحية اغتيال سفير اسرائيل في لندن كي تبرر غزوها للبنان، والذي فيها احتلت العاصمة بيروت، وفرضت رئيس جمهورية بالقوة.
اليوم وحين تمثل اسرائيل امام محكمة العدل الدولية فهي تستند الى ارث عدم المحاسبة على كل جرائمها، والدعم الاوروبي والاميركي، وهي ذهبت الى لاهاي على هذا الاساس، وعرضت حججها بنوع من الاستخفاف، معتبرة ان ما تسوقه من مزاعم سينطلي على المحكمة، وانها تجدد مزاعم الابادة الاوروبية – النازية لليهود كي تستدر العطف.
سقطت كل هذه الترهات، وبدلا من استدرار العطف وقعت في فخ شر اعمالها، وفي هذا الشأن كتب كبير المستشارين القانونيين في “هيومن رايتس ووتش” كليف بالدوين ان “لا يكفي ببساطة الاكتفاء بقول إنّ المدنيين ليسوا هدافا للهجمات؛ يفرض القانون الإنساني الدولي على أطراف النزاع اتخاذ كل الاحتياطات الممكنة لتقليص الضرر اللاحق بالمدنيين والأعيان المدنيّة، وتُحظر أيضا الهجمات التي لا تُفرّق بين المقاتلين والمدنيين أو التي يُتوقع أن تتسبّب في أضرار غير متناسبة للسكّان المدنيين مقارنة بالمكاسب العسكريّة”، وهذا لم تتلزمه اسرائيل طوال العقود الماضية.
لكل هذا مهما كان قرار محكمة العدل الدولية، الا ان هناك حقيقة واحدة تاريخية واخلاقية وقانونية جرى اثباتها بمجرد مثول اسرائيل امام المحكمة، وهي ان مزاعم “المحرقة” التي استثمارتها تل ابيب طول سبعة عقود، باتت ورقة خاسرة اليوم، واصبح من كان يزعم انه ضحية تاريخية هو المجرم، وهذا قد يفتح الملفات المغلقة بشأن دور الصهيونية في الممارسات الاوروبية، وكيف استفادت منها لخلق رأي عام يخدم هدفها هو اقامة اسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني.