عمر حلمي الغول
أمد/ قرأت اول امس الجمعة رواية بعنوان “ملابس تنجو باعجوبة” للروائي والقاص الفلسطيني، يسري الغول، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 2024، وتضم 216 صفحة من القطع المتوسط، التي يستشرف فيها حرب الإبادة الجارية منذ 107 أيام حتى الان على قطاع غزة. مع انه كان يعالج لعنة حرب يوليو / أغسطس 2014، وانعكاساتها وتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية والسيكولوجية والأمنية العسكرية والبيئية على أبناء الشعب الفلسطيني في محافظات غزة.
وتمتاز الرواية بنص مشوق، مشحون بالثراء الإبداعي واللغوي وبتضاريس احداثه ونماذج ابطاله، الذين مثلهم كل من الكاتب سعيد رافع وزوجته روان وطفلته ووزير الثقافة علام البكير وزوجته خديجة وابنته ميس وعشيقاته هيلين واخريات وحارس العمارة هادي المفعوص والضابط كاف والمازنجر الشاب الفقير الذي يجيد الغناء وغيرهم بلا أسماء من الجيران في العمارة المدمرة الى جيران مأى الحرب (المدرسة س). وجال في فصول على محطات وسياقات سياسية وثقافية وإنسانية عاطفية، ونبش كوامن العملية الاجتماعية بجمالياتها وتناقضاتها وارباكاتها وتعقيداتها، ما بين ويلات الحرب والدماء المسفوحة على قارعة الطريق وداخل المدارس مراكز إيواء النازحين اليها من المواطنين، والطرق على أبواب التضارب بين الحاجات الإنسانية وفقدان اللحظة والمكان الامن والمناسب.
مؤكد لا مجال للحديث مطولا عن محطات وتموجات الرواية البديعة للاديب الشاب الغول، ولكني من خلال قراءتي لمقدمتها ومتنها وخاتمتها، وجدت انها بمثابة شهادة براءة من مرحلة الانتماء لجماعة الاخوان المسلمين، التي سعت الى حرف بوصلة المجتمع وتطوره، واعادته لعصور الظلام، وتكميم الافواه، باعتبارهم “أولياء الله على الأرض”، وحرف بوصلة المجتمع عن مواجهة العدو الإسرائيلي المشترك، وتعميم سياسة التكفير والتخوين، وما سبق الانقلاب عام 2007 وما بعده من خطايا ضد العباد عموما والنساء خصوصا، واعتماد منهج الحرام والحلال، وتهجير الشباب نتاج البطالة والقمع والحصار والحروب وتجارها. وكيف لم تستجب قيادة الانقلاب للوساطة المصرية لوقف الحرب من الأسبوع الأول، جيث كانت الخسائر محدودة جدا، مما فاقم من ازدياد حجم وهو الخسائر البشرية وخاصة بين الأطفال والنساء والدمار للمباني والمنشآت والبنى التحتية .. الخ
بيد ان الاديب يسري من خلال محاكاة تجربتي الوزير الفنان التشكيلي، علام البكير والضابط كاف عرض حالة التناقض والصراع الداخلي بين الالتزام بقرار قيادة الجماعة وواقع الحال الاجتماعي والاقتصادي والثقافي المشوه. فالوزير ومن يماثله انقلبوا باكرا على الجماعة وشكلوا حزبا زمن السلطة الوطنية، وتواصلوا مع الرئيس الراحل أبو عمار، الذي تبناهم ودعمهم، ونصب علام وبعض اخوانه في مواقع المسؤولية في الحكومات الوطنية، وتمردوا على الواقع السابق. في حين واصل الضابط كاف الالتزام بالجماعة. لكنه عاش صراع داخل ذاته الخاصة والواقع المؤلم الذي يعيشه الشعب، وطرح على ذاته العديد من الأسئلة الجوهرية، التي تعتمل بين ممارساته السيئة وغير الإيجابية مع أبناء الشعب، مع انه مهندس ومثقف، وافترض الناس انه لا يعرف الابتسامة، ولم يعش حياته، حتى التقى بالمازنجر الشاب الفحل الفقير والمغني، بعد الحوار الذي دار بينهما، وسبقه الحوار مع الكاتب سعيد حول المجتمع، والاهتمام بالاسرة، والعلاقات السرية بين زوجات المسؤولين من الجماعة خارج دائرة العلاقات الزوجية الطبيعية، لاسباب تتعلق بالانغماس في العمل دون الاهتمام بنسائهم، مما أعاده نسبيا لصوابه والعودة لزوجته.
كانت المدرسة (س) مآوى المجموعة البشرية التي آوت اليها للاحتماء من طيران العدو الصهيوني نموذج مصغر للمجتمع الفلسطيني في قطاع غزة، حاكى من خلال الروائي الغول الواقع الاجتماعي بملامحه الإيجابية والسلبية، وإفرازات الحرب البشعة والدامية وواقعها المؤلم على أبناء الشعب، كشف فيها ما يدور بين سعيد وزوجته روان، كما سلط الضوء من خلال مذكرات الوزير علام لابنته ميس عن عشيقته على المشاكل الاجتماعية مع زوجته خديجة، التي لم تنجب والمتزمتة دينيا والملتزمة بالجماعة، واحضاره ابنته من عشيقته هيلين، ابنة الأيام الأربع بعد ان القتها قبل سفرها مع زوجها لباريس لتبنيها، مدعيا انه وجدها امام مسجد، ثم انكشف سره من خلال رسالة كانت بجيب بنطاله، وجدتها زوجته خديجة. ووفاء ميس التي تربت في أحضان الاسرة لزوجة ابيها، ورفضها الذهاب لوالدتها، التي ترك لها والدها قبل استشهاده من بداية الحرب عنوانها واسمها في باريس، مع انها كانت في ذات المدينة تدرس.
لكن يسري الغول في نهاية روايته حاول مسك العصا من المنتصف، فحمل السلطة الوطنية وقياداتها وجماعة الاخوان المسلمين المسؤولية عن حالة التشرذم والانقسام. وبدا كأنه يعيش حالة صراع داخلي لم تحسمها تجربته المريرة مع الجماعة، التي غلبت المصالح الفئوية على حساب المصالح الوطنية، وضرب على وتر المناطقية عندما تطرق لسفر هادي المفعوص عند عمه الى رام الله مع مجموعة من الشباب، الذين وضعتهم السلطة في مكان غير مناسب، ولم تهتم بهم، كما جاء في القسم الأخير من الرواية.
مع ذلك اعتقد ان الرواية عالجت بتشويق ابداعي متميز واقع المجتمع الفلسطيني، وقدمت رؤية للروائي الشاب، الذي مازال يبحث عن رؤية وطنية جامعة تعمق الروابط الوطنية تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد. ومن ملاحظاتي الأساسية على الرواية، انه كان على الاديب الغول ان يختار عنوانا أكثر قوة وتمثلا للحرب واهوالها المفجعة، كأن يكون عنوانها مثلا “القيامة”. الرواية تستحق القراءة والتعميم.