منجد صالح
أمد/ ستضع الحرب أوزارها في نهاية المطاف، ويتوقّف هدير الطائرات الاسرائيلية المُغيرة تُلقي بنار حممها على كل شيء وفي كل مكان في قطاع غزّة، ويختفي صرير جنازير دبابات المحتل، وسيستطيع الأطفال اخيرا من النوم بشيء من الهدوء، بلا خوف ولا قلق،
حينها وباذن الله سبحانه وتعالى، ستلملم غزّة نفسها وتُبلسم جراحها النازفة وتتنفّس الصعداء، لكنها ستصحو على كمٍّ هائلٍ من الدمار والرُكام في البيوت والبنايات والابراج والشوارع والطرقات، والبنية التحتية والمصانع والمحلات التجارية والافران والمدارس والمساجد والمراكز الصحية والطبية والمستشفيات والأراضي الزراعية، والشجر والحجر والبحر والماء ومسامات الهواء،
ستصحو العائلات أو بعضا من ما تبقّى منها على فقدان أحبّتهم وعلى صمت صراخ اطفالهم الذين اختطفتهم قنابل الغدر الصهيونية وهم نيام في فراشهم أو يلعبون “الغميضة” في فناء بيوتهم مع أولاد جيرانهم،
ستصحو غزّة على هذا الكمّ المهول الهائل من الدمار الذي خلّفته النار، نار المحتل الغاصب الذي لا يعرف لغة أخرى غيرها، فهي لغته التي تربّى عليها وطبّقها منذ أول يوم اغتصبت فيه اقدامه القبيحة أرض فلسطين،
أذاق عليها وفيها أبناء شعبنا مرّة ومرّتين وثلاث مرّات واربع مرّات من التهجير والإقتلاع القسري الطارئ أو الدائم، والقتل والدمار والاستلاب،
لكن غزّة ستصحو أيضا على هالة شامخة من النور تُظللها وتُظلل أرواح شهدائها وترعى جرحاها ومُهجّريها، وتنفث في جنباتها الامل،
هالة من العزة والفخار على هذا الصمود الأسطوري ، الذي سطّره شعبها وناسها ومقاومتها الصنديدة ببراعاتها ومنجنيقاتها وحجارتها من سجيل، “وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى”، صدق الله العظيم.
ستصحو غزّة مُثخنة بالجراح ولكن “مدبوزة” بالعزّ والفخار والانتصار للقدس وللمسجد الأقصى ولكنيسة القيامة ولحي الشيخ جرّاح ولباب العمود وحتّى “باب المندب”،
ولكل ذرّة من تراب فلسطين الغالية من رأس الناقورة إلى ام الرشراش ومن بيّارات البرتقال والليمون إلى واحات النخيل والموز،
ستصحو غزّة على شعب فلسطيني موحّد مترابط متراص في القدس والضفة الغربية وقطاع غزّة وأراضي فلسطين التاريخية في اللد وأم الفحم وعكّا ويافا وحيفا والناصرة، وعلى شعب فلسطيني وعربي يحتضن المُقدّسات والثورة، في لبنان وجنوبه وفي الأردن وغوره وفي مصر وفي سوريا والعراق وشمال أفريقيا، وحتى جنوب افريقيا مانديلا،
وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، والسودان، وحرائر السودان الشامخات اللواتي يجمعن حُليّهن لتقديمها دعما للشعب الفلسطيني المكافح،
ستصحو غزّة على صحوة عالمية حاشدة من أقاصي الأرض إلى أقاصي الأرض، من أستراليا وأندونيسيا إلى كاليفورنيا ولوس أنجيلوس وشيكاغو وواشنطن ونيويورك، من الأرجنتين إلى بوليفيا إلى التشيلي إلى أوروبا، فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا والدنمارك وبلجيكا والسويد واليونان، في دعم الشعب الفلسطيني وقضية نضاله العادل، تتزيّن بالأعلام الفلسطينية، ويتزيّن الشباب والصبايا بالكوفية الفلسطينية ، وتلهج الحناجر صارخة: “فري فري باليستاين” (فلسطين حُرّة).
ستصحو غزّة وفي يدها حجر فارس عودة وسكين مهنّد الحلبي ورشّاش عمر أبو ليلى، بهي الطلّة بهي الطلعة دائما،
ستصحو غزّة ممسكة بيديها نسمات بحر غزّة و”ضُمّة” من الزنبق والريحان، وأملا كبيرا بحتميّة النصر والانتصار، وأملا جديدا ينثر آمالا مضطردة على شعب فلسطين وشعوب الأمتين العربية والاسلامية وأحرار العالم، بأن “زمن الهزائم قد ولّى وجاء زمن الانتصارات”، زمن قطز والظاهر بيبرس وصلاح الدين وعمر المختار وعبد القادر الجزائري وعبد القادر الحسيني، زمن عين جالوت وحطّين.
ستصحو غزّة على إسرائيل “تشرّ” أنيابها ومخالبها بدم ضحاياها الاطفال، شهداءنا، لكنّها تجرّ ذيول الخيبة والخسّة والعار، مكشوفة عارية أمام العالم كقوة احتلال غاشمة لم تُحقّق شيئا من “أهدافها المزعومة” غير قتل المدنيين الآمنين وارتكاب جريمة الابادة الجماعية، وتدمير البيوت واحراق المصانع والمزارع والمستشفيات والمساجد والكنائس،
سيصحو الفلسطينيّون في كل مكان وهم أكثر وحدة وترابطا وانسجاما، كالجسد الواحد،
أما إسرائيل فستصحو أكثر انقساما وفرقة وتنابزا بالاتهامات بالتقصير وسوء الأداء والخلل والإنجاز التعيس في الحرب،
سيصحو الفلسطيني، رغم الجراح، رافعا رأسه عاليا شامخا كأشجار اللوز والزيتون والنخيل، وسيصحو الإسرائيلي، رغم البطش والعربدة، مُشوّشا مُضطربا مُنكمشا كشجيرة العوسج،
ستصحو غزّة وهي تُحلّق في فضاء فسيح من النور والعزّة والكرامة والاباء.