معتصم حمادة
أمد/ كثرت في الآونة الأخيرة محاولات التشويش على الدعوات للحوار الوطني لإنهاء الانقسام، واستعادة الوحدة الوطنية في إطار م. ت. ف، بما يعزز موقعها التمثيلي، ويعزز نفوذها السياسي، ويغلق الباب أمام تشتت المرجعيات وتشرذمها، وتشتت الرؤى، والاستراتيجيات والتكتيكات، كما تضع حداً للوصايات الإقليمية على الحالة الوطنية الفلسطينية، ويحد من دور هذه الوصايات على الضغط على القرار الوطني، وإضعاف استقلاليته.
من هذه الأصوات على سبيل المثال، الاشتراط للدخول في م. ت. ف. الموافقة على «المقاومة السلمية» خياراً، والالتزام بـ«اتفاق أوسلو»، بما هو اعتراف بدولة إسرائيل، والانخراط في التعاون الأمني معها، والانخراط في الاندماج الاقتصادي مع دولة الاحتلال، والتقيد بشروط الاتفاق، بما في ذلك الوصول إلى «الحل الدائم والنهائي» عبر المفاوضات، والالتزام بالتصدي للعنف والإرهاب في المناطق الفلسطينية المحتلة، أي بعبارة أخرى التزام ما يسمى «المقاومة السلمية».
لقد غاب عن بال أصحاب هذه الدعوات أكثر من مسألة وقضية، لا بد أن نعيد تذكرهم بها، علماً أن دعواتهم مكشوفة في أهدافها، ولا تضمر إلا زرع العراقيل في طريق الحوار الوطني، وبما يعزز انفرادهم بالمؤسسة ومغانمها، وبالقرار ومكاسبه الفئوية.
• القضية الأولى الواجب التأكيد عليها هي أنهم بمواقفهم هذه، هم يخالفون قرارات الشرعية الفلسطينية وينتهكونها، ويطلقون السهام ضدها، قرارات الشرعية الفلسطينية كما مثلتها دورات المجلسين الوطني والمركزي في م. ت. ف، التي أقرت تعليق الاعتراف بإسرائيل إلى أن تعترف بالدولة الفلسطينية على حدود 4 حزيران (يونيو) 67 وعاصمتها القدس الشرقية المحتلة، ووقف الاستيطان، وإطلاق سراح الأسرى، كذلك وقف التنسيق الأمني مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، وإعادة صياغة العقيدة الأمنية للأجهزة الأمنية في السلطة، باعتبارها الدرع الواقي للشعب الفلسطيني، وكذلك الانفكاك من استحقاقات «بروتوكول باريس» الاقتصادي، والتحرر من قيوده، بما في ذلك الخروج من الغلاف الجمركي الموحد، والشروع في بناء اقتصاد وطني.
وبالتالي، فإن أي اشتراط للموافقة على «اتفاق أوسلو» إنما هو اعتداء فظّ على الشرعية الفلسطينية، بل، ويتوجب التأكيد أن السلطة التنفيذية، ممثلة بالقيادة السياسية للسلطة الفلسطينية، تعتدي بمواقفها على الشرعية الفلسطينية، أي شرعية المجلسين الوطني والمركزي، حين تعطل قرارات المجلسين المذكورين بشأن إعادة بناء العلاقة مع دولة الاحتلال، وحين تعطل في الوقت نفسه، الدعوات لانعقاد المجلس المركزي في دوراتها العامة، أي مرة كل ثلاثة أشهر، وفقاً لما توافقت عليه القوى المؤتلفة في المجلس.
وبالتالي، يصبح من المعيب سياسياً، بل ووطنياً، الاشتراط لدخول م. ت. ف، الموافقة على انتهاك قرارات الشرعية الفلسطينية.
• مثل هذه الدعوات لانتهاك قرارات الشرعية الفلسطينية، يتوجب أن تحال إلى المحكمة الدستورية وعدم الصمت عليها قضائياً، وهو ما يمثل في واقع الحال ثغرة كبرى في بنية النظام السياسي الفلسطيني الحالي، الذي يحتاج بالضرورة إلى إعادة بناء.
• أما اشتراط الالتزام بما يسمى «المقاومة السلمية»، فهذا يشكل في حد ذاته اعتداء على خيارات الشعب الفلسطيني، بما في ذلك حقه المقدس في تقرير مصيره، وفي السياق حقه في اختيار ما يراه مناسباً من أساليب المقاومة، التي يقتنع أن من شأنها أن تصل به إلى الظفر بحقوقه الوطنية المشروعة.
من ناحية أخرى، لم يرد في أي من قرارات المؤسسة الوطنية الفلسطينية ما يلزم الشعب الفلسطيني بالخيار المسمى «المقاومة السلمية»، هذا هو خيار أوسلو، الذي أسقطته قرارات المجلسين الوطني والمركزي.
إذا كان البعض لا يقتنع بخيار المقاومة المفتوح على كل الأشكال، فهذه حقه، وإن كان لا يقتنع إلا بما يسمى «المقاومة السلمية» فهذا حقه، لكن ليس من حقه أن يفرض هذا الخيار على الشعب، مهما كان موقعه في الخارطة السياسية أو في المؤسسات الوطنية، خاصة وأن التجربة المرة لما يسمى «المقاومة السلمية»، ألحقت بالشعب الفلسطيني أضراراً وكوارث سياسية، وأضعفت الكثير من البنى السياسية والحزبية، وفي مقدمها حركة فتح نفسها، التي تفتقر، كحركة سياسية جماهيرية (وليس كسلطة) إلى استراتيجية كفاحية موحدة، فبعضها منخرط في الكفاح المسلح والعمل الفدائي في الضفة الغربية وفي قطاع غزة، وبعضها ملتزم مبادئ أوسلو، وخيار «المقاومة السلمية»، وهذا من الأسباب الكبرى التي أضعفت فتح، في منظار الرأي العام، وشلت قواعدها عن الفعل المنظم، خاصة في المرحلة الحالية، أي في ظل العدوان الهمجي والحرب الوحشية على قطاع غزة.
• يحاول بعض محترفي التشويش على الدعوات للحوار الوطني، واستعادة الوحدة الداخلية، وفي سياق تذللهم على أعتاب المؤسسة الوطنية، بمغانمها ومكاسبها، أن يشوهوا حقيقة مثل هذه الدعوات، ويطعنون في حسن نواياها، بالادعاء أن نقد أداء السلطة بمؤسساتها التنفيذية المختلفة، هو تطاول على الشرعية وطعن بها، خاصة وأنهم في هذه الادعاءات يحصرون الشرعية بمؤسسة الرئاسة وحدها.
نحن في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، لم نطعن يوماً في شرعية المؤسسة، بما في ذلك مؤسسة الرئاسة، حتى ولو عارضنا بعض مواقفها وقراراتها، فالمعارضة أمر مشروع تكفله القوانين الفلسطينية، بما في ذلك القانون الأساسي للسلطة، ومبادئ الائتلاف الوطني، التي تجمع فرقاء الحالة الفلسطينية في م. ت. ف، علماً أن الشرعية الفلسطينية لا تقتصر على مؤسسة دون غيرها، فالشرعية موزعة على السلطة التشريعية (أي المجلسين الوطني والمركزي) والتنفيذية، أي مؤسسة الرئاسة + اللجنة التنفيذية + السلطة الفلسطينية (باعتبار أن م. ت. ف. هي مرجعية السلطة)، وهناك (ثالثاً) السلطة القضائية بمؤسساتها المختلفة، إلى جانب سلطة أخرى رابعة، يتم التوافق على أهميتها المفترضة هي الصحافة والإعلام، باعتبارها تعبيراً عن الرأي العام، وتحظى هذه السلطة في دول العالم بالاحترام الشديد.
الادعاء بأننا نطعن بالشرعية الرئاسية هدفه التغطية على التطاول على الشرعية الدستورية، وتعطيل دورها، بما في ذلك تعطيل اجتماعات المجلس المركزي، الواجب أن يعقد دورة كاملة كل 3 أشهر، والمجلس الوطني المعطل منذ العام 2018، هذا التذلل لمؤسسة الرئاسة، ليس الهدف منه الدفاع عن المؤسسة، بل إن الهدف من هذه السلوكيات الانتهازية، التلطي خلف هذه المؤسسة، والتي يدركون أنه لولا ما توفره لهذه الفئة من أشكال الرعاية، لما أتيحت لهم الفرصة ليصلوا إلى ما وصلوا إليه من مناصب، يدعون أنها تمنحهم الشراكة في رسم القرار السياسي الرئاسي، لا لشيء سوى طمعاً بنيل حماية المؤسسة لهم، وإدامة مكاسبهم.
• آخرون، ممن يعتبرون أنفسهم أصحاب حظوة يذهبون أبعد من ذلك، حين يعتبرون الدعوة إلى وقف التنسيق الأمني تحريضاً على الأجهزة الأمنية في السلطة، وتشكيكاً في وطنيتها، يحرضون الأجهزة الأمنية على المعارضة، ولا يحرضونها على العدو الإسرائيلي، رغم ما يدور على أرض الضفة (والقطاع) من أعمال قتل فردي وجماعي، وصولاً إلى حد ارتكاب المجازر.
نعم، نحن نعتبر التنسيق الأمني مع الاحتلال حرام، وكان عزام الأحمد، عضو اللجنة المركزية في حركة فتح، جريئاً وفصيحاً، حين أكد في كلمة له، في مهرجان أقامته فتح بعيد انطلاقة الثورة الفلسطينية في صالة الجلاء في دمشق، «أن التنسيق الأمني في الضفة حرام، وفي قطاع غزة حرام»، هذا كلام ليس موجهاً إلى الأجهزة الأمنية، بل إلى القرار السياسي الذي ألزم هذه الأجهزة بالتنسيق الأمني.
وفي سياق دعواتنا للحوار، ندعو إلى تشكيل لجان حماية الأرض المهددة بالاستيطان، والمساكن والإنشاءات المهددة بالنسف على يد قوات الاحتلال، بالتعاون بين الأهالي وعناصر الأجهزة الأمنية، مع الدعوة الواضحة والصريحة إلى إلغاء قرار التنسيق الأمني (باعتباره قراراً سياسياً)، وإعادة صياغة العقيدة الأمنية للأجهزة الأمنية في السلطة، وفقاً لقرارات المجلس الوطني والمجلس المركزي، لتشكل هذه الأجهزة درعاً واقياً للشعب الفلسطيني، وأية ادعاءات أخرى، ما هي إلا ثرثرة انتهازية، أياً كان صاحبها.
خلاصة الكلام: نعتقد أن عملية «طوفان الأقصى» أثارت غضب البعض، لأنها قزمتهم أمام جمهورهم. بدأت العواصم تطلق سيناريوهات لمستقبل القطاع، وفي السياق لمستقبل القضية الوطنية، بينما الغائب الأكبر في هذا الميدان، هي المؤسسة الشرعية الفلسطينية أي م. ت. ف.
ترى، ألا يحتاج هذا، يا أصحاب المعالي الوزراء، والمستشارين، عقد مائدة حوار وطني مسؤول، لرسم مستقبل قضيتنا وشعبنا، وضمان حقوقه الوطنية ؟!
ترى … لماذا تخافون الحوار الوطني ؟! …