د.عقل صلاح
أمد/ تناقش هذه المقالة موضوعين متناقضين على الرغم من أن كلًا منهما نتاج للآخر، فالموضوع الأول اتفاقية أوسلو التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل سنة 1993، والموضوع الثاني النقيض لأوسلو وهو معركة طوفان الأقصى التي قامت بها حركة حماس في السابع من أكتوبر2023، والتي مازالت مستمرة والتي أدخلت القضية الفلسطينية بشكل خاص والشرق الأوسط بشكل عام في مرحلة “قديمة جديدة” من الصراع العربي -الإسرائيلي، فعلى الجانب الفلسطيني أعادته إلى ما قبل توقيع أوسلو وإنهاء الكفاح المسلح، وسجلت نقطة فاصلة في تاريخه وأعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة المشهد الإقليمي والدولي بعدما مسحتها أوسلو على مدار ثلاثة عقود من المفاوضات العبثية. وعلى الجانب العربي أعادت الذاكرة إلى مرحلة تاريخية مشرقة في التاريخ العربي وهي حرب أكتوبر عام ١٩٧٣، فاتفاق أوسلو للسلام سنة ١٩٩٣ أنهت الدرب الكفاحي الفلسطيني وبعد أقل من عقد على فشل هذه الاتفاقية عادت القضية الفلسطينية إلى تاريخ أمجادها الكفاحية والسياسية والدولية من خلال اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام٢٠٠٠، فكل من أوسلو وانتفاضة الأقصى وطوفان الأقصى مراحل متناقضة فمرحلة أوسلو جاءت لتلغي الثورة الفلسطينية ولتوضع حدًا للانتفاضة الأولى، واندلعت انتفاضة الأقصى نتاج فشل أوسلو وعدم الالتزام الإسرائيلي ببنودها، وعلى الرغم من ذلك الفشل الذريع والمتعمد من قبل إسرائيل إلا أن الولايات المتحدة عملت على إنعاشها من خلال إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل بقتل الرئيس ياسر عرفات في سنة 2004، مما أدى إلى وقف الانتفاضة. وبعد ثلاثة عقود على أوسلو وعقدين على الانتفاضة الأقصى جاءت طوفان الأقصى لتؤكد أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مازال قائمًا، وأن أوسلو ماتت ودفنت في رمال القطاع، فكانت غزة أولًا “الولادة” وأخيرًا “الوفاة” لاتفاق أوسلو؛ فأوسلو جاءت لتنهي انتفاضة الحجارة، وبنفس الطريقة جاءت كل من انتفاضة الأقصى وطوفان الأقصى لتنهي طريق السراب الطويل من أوسلو على قاعدة الجديد يجب القديم.
وحري بنا التطرق إلى اتفاق أوسلو حيث لعبت التغيرات التي حدثت على الساحات الدولية والإقليمية والمحلية من منتصف السبعينيات وحتى بداية التسعينيات من القرن الماضي دورًا مهمًا في تغير مسار الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ودفع منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة عرفات لتوقيع الاتفاق.
لقد استند اتفاق أوسلو على الاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير، واحتوى الاتفاق على سبعة عشر بندًا، ونص على إجراء مفاوضات للانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية وغزة على مرحلتين مرحلة إعدادية ومرحلة انتقالية، تبدأ المرحلة الإعدادية في تشرين أول/أكتوبر عام 1993 وتنتهي بعد ستة أشهر، والمرحلة الثانية (المرحلة الانتقالية)، تبدأ بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة وأريحا، وتستمر لمدة خمس سنوات تجرى خلالها انتخابات عامة حرة مباشرة لاختيار أعضاء المجلس الفلسطيني الذي سيشرف على السلطة الفلسطينية الانتقالية، وعندما يتم ذلك تكون الشرطة الفلسطينية قد استلمت مسؤولياتها في المناطق التي تخرج منها القوات الإسرائيلية خاصة تلك المأهولة بالسكان، وتحث الوثيقة على ضرورة التعاون الإقليمي في المجال الاقتصادي من خلال مجموعات العمل في المفاوضات متعددة الأطراف، أما بالنسبة لمفاوضات الوضع النهائي، فقد نصت الوثيقة على أن تبدأ بعد انقضاء ما لا يزيد عن ثلاث سنوات، وتهدف إلى بحث القضايا العالقة مثل: القدس، والمستوطنات، واللاجئين، والترتيبات الأمنية، والحدود.
وتجدر الإشارة أن حركة حماس وصفت اتفاق أوسلو بأنه انتكاسة تاريخية في الخط الوطني لمنظمة التحرير، واعتبرته انحرافًا خطيرًا في المسار السياسي للقضية الفلسطينية، لأنه تسبب في تراجع قضايا الشعب الفلسطيني بشكل خطير، ودعت الشعب الفلسطيني بكل مكوناته للعمل على إسقاط أوسلو.
ولا بد من التأكيد على أن منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة حركة فتح تخلت عن الكفاح المسلح لتحرير فلسطين من أجل أوسلو “السلام”، وعملت على تعديل بنود الميثاق الوطني الفلسطيني سنة 1996، وقد فعلت حركة حماس ما فعلته منظمة التحرير تجاه ميثاقها الصادر عام ١٩٨٨، إلا أن حركة حماس لم تقم بتعديل الميثاق ولا إلغائه، وإنما أصدرت وثيقة السياسات العامة سنة ٢٠١٧ والتي حلت محل الميثاق، ومن أهم التغييرات الجوهرية “القبول بدولة فلسطينية على حدود 1967”.
وتأسيسًا على ذلك، وبما لا يضع مجالًا للشك أن طوفان الأقصى أحدث العديد من التغيرات على العديد من المستويات وفي مقدمتها المستوى الدولي، فقد عادت القضية الفلسطينية كقضية شعب يريد الخلاص من الاحتلال، ولا يمكن أن يتم حل القضية الفلسطينية كما تريد إسرائيل من خلال البعد الاقتصادي “السلام الاقتصادي” بتحسين الحياة الاقتصادية للشعب الفلسطيني واعتبار أن هذا السلام سيرضي الشعب الفلسطيني وينهي تمسكهم في وطنهم والحرية والاستقلال.
أما على المستوى العربي، فقد أحرجت الزعماء العرب وكشفت زيف ادعائهم بأنهم يقفون إلى جانب الشعب الفلسطيني وحقوقه، فقد ذهب البعض العربي للتطبيع مع إسرائيل قبل تطبيق بنود قمة بيروت سنة 2002، التي نصت على أنه لا سلام مع إسرائيل قبل حل القضية الفلسطينية وإحلال السلام وإقامة الدولة الفلسطينية، على الرغم من كل ذلك مازال موقفهم مع نهاية الشهر الرابع للحرب على القطاع يوصف في التآمر والخذلان والخنوع للموقف الأمريكي الإسرائيلي وبكل وضوح وبلا خجل.
أما على المستوى الإسرائيلي، فالثقة في قدرة الجيش على حماية المجتمع الإسرائيلي أصبحت معدومة، وحتى الثقة في القيادة العسكرية والأمنية والسياسية والدولة ومؤسساتها أصبحت مهشمة، مما أدى إلى زيادة حدة التناقضات الداخلية والاتهامات المتصاعدة، فكل قائد وطرف يحاول تحميل الفشل للآخر، وهذا نتاج الفشل المتواصل منذ السابع من أكتوبر، بظل الخسائر البشرية والمادية في المعركة وعدم قدرة المستوى السياسي والعسكري من تحقيق أي هدف من أهداف الحرب على القطاع. كل ذلك زاد من حرب الإبادة والانتقام من المدنيين للضغط على المقاومة، فقد تم ارتكاب الآلاف من المجازر بحق الأطفال والنساء وأهالي القطاع التي راح ضحيتها أكثر من 32 ألف شهيد، بالإضافة إلى تدمير البنية التحية والمساكن والمؤسسات والمساجد والمستشفيات والجامعات والمدارس حتى وصل التدمير إلى ما نسبته 70% من القطاع، وكل ذلك من أجل الحفاظ على صورة إسرائيل القوية، إلا أن صورتها قد تهشمت مرة ثانية على المستوى الدولي، وفضحت ديمقراطيتها المزعومة، كما تم فضح صورة كل من يدعم إسرائيل من النظام الدولي وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية. ففي بداية السابع من أكتوبر خرجت العديد من مسيرات التأييد لإسرائيل في العالم؛ ولكن سرعان ما انقلب السحر على الساحر، وتبينت حقيقة أكاذيب القادة الإسرائيليين والأمريكيين مما أدى إلى تراجع التأييد لإسرائيل ليحل محله التأييد المنقطع النظير للقضية الفلسطينية على المستوى الشعبي العالمي الأوروبي الذي أصبح يشكل عامل ضغط على سياسات دولهم التي اضطرت للتغيير من مواقفها تجاه استمرار الحرب على القطاع.
واستنادًا لما سبق، من الضروري تناول المستوى القانوني الإنساني الدولي حيث أقدمت دولة جنوب إفريقيا في 11-12كانون الثاني/يناير2024، على محاكمة إسرائيل في لاهاي، للتحقيق في قضية “الإبادة الجماعية” بحق الشعب الفلسطيني في القطاع، والتي تعد الأولى من نوعها في تاريخ دولة الاحتلال، وقدمت جنوب إفريقيا مرافعة رائعة وموفقة ومنضبطة من 84 صفحة، عرضت من خلالها الدلائل على انتهاك إسرائيل لالتزاماتها بموجب ميثاق الأمم المتحدة، وتورطها بـ”ارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في القطاع”، وتعتبر قرارات محكمة العدل الدولية ذات أهمية كبيرة على المستوى القانوني والمستوى الأخلاقي وأيضًا السياسي؛ لأنه يؤثر على سياسات الدول تجاه المعايير الإنسانية وحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة ويمكن أن يعيد رسم سياتها تجاه الموقف من الحرب على القطاع، وتم رفض رد الدعوة المقدمة وتم اتخاذ قرار المحكمة في 26كانون الثاني/يناير2024، باتخاذ العديد من التدابير المؤقتة من قبل إسرائيل لوقف الإبادة الجماعية في القطاع؛ وهذا القرار حتى لو لم يكن واضحًا في وقف الحرب ولكن حجم التصويت الجماعي وطبيعة القرارات وإلزام إسرائيل بتقديم تقرير خلال شهر، قد ألحق الضرر الفادح بسمعة إسرائيل على المستوى العالمي، وكشف طبيعة إسرائيل وممارساتها الإجرامية بحق الشعب الفلسطيني في القطاع، وهذه سابقة في تاريخ الاحتلال الذي تملص على مدار سبعة عقود ونصف من مثل هذه المحاكمة، وقد يشرع التحرك لمحكمة الجنائية الدولية للنظر في اتخاذ خطوات وعقوبات ضد كبار القادة الإسرائيليين. وقد أقدمت دولة جنوب إفريقيا على طلبها إلى محكمة العدل الدولية بناء على اعتبارين:
الأول بناء على مواد وسوابق، ففي المادة 9 من اتفاقية الإبادة الجماعية تخول محكمة العدل الدولية حل النزاعات، كما حدث عام 2020 حين أصدرت المحكمة قرارا بوقف العدوان في قضية الإبادة الجماعية للروهينغا، وعام 2022 في قضية أوكرانيا، والمنطلق الثاني لخطوة جنوب إفريقيا يتمثل بكون إسرائيل موقعة على ميثاق منع إبادة شعب، وعلى هذا التوقيع يتم إجراء هذه المحاكمة.
واستخلاصًا لما سبق فقد عملت طوفان الأقصى على إعادة القضية الفلسطينية للطاولة الدولية وبكل قوة، وأثبتت قدرة الشعب الفلسطيني على التمسك في الثوابت وعدم قبوله للتعايش مع الاحتلال ومع الاتفاقيات التي تنتقص من حقه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، والصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني والمقاومة اللذان أجبرا الولايات المتحدة الأمريكية والأوروبيين على الحديث عن دولة فلسطينية أو كيان فلسطيني أي “حل الدولتين”، والمطالبة المستمرة في تبادل الرهائن من خلال إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية، وقيام أمريكا في قيادة مفاوضات إطلاق سراح الرهائن، وكان الرئيس جو بايدن هو من يتابع التفاوض من خلال الاتصال المستمر مع أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد، حيث قاد هذه المفاوضات رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “سي أي إيه” وليام بيرنز مع رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي دافيد برنياع.
ومما لاشك فيه أن طوفان الأقصى أثبتت أنه يمكن هزيمة الجيش الذي لا يقهر، وأن إسرائيل لا تمتلك القدرة على إنهاء القضية الفلسطينية، وأن اتفاق أوسلو وما لحقه من اتفاقيات لا تمثل الشعب الفلسطيني، فالشعب الفلسطيني يريد الخلاص من الاحتلال ومن الاتفاقيات التي لا تنص ولا تهدف للحرية والاستقلال، وهنا لابد من القول أن المقاومة الفلسطينية ولأول مرة في التاريخ المعاصر تثبت أن المشروع الصهيوني لا مستقبل له على أرض فلسطين، وأن التطبيع العربي الإسرائيلي لا يمكن له أن ينهي القضية الفلسطينية وأن الفلسطينيين قادرون لوحدهم على مواجهة دولة الاحتلال. وفي النهاية تبين أن القضية الفلسطينية حتى لو تخلى العرب عنها، وعن دعم نضال الشعب الفلسطيني فهناك العديد من أحرار ومناضلي العالم يقفون ضد الاحتلال وهذا ما تمثل في موقف بلد نيلسون مانديلا الذي يعد من أكثر البلاد التي عانت من سياسة نظام الفصل العنصري “أبارتهايد”، كما أن موقف المقاومة في كل من اليمن الشقيق والعراق وسوريا وحزب الله يؤكد أن الحق يقف مع الحق.
*كاتب وباحث فلسطيني مختص بالحركات الأيديولوجية.