محمد المحسن
أمد/ ها نحن فوق الصفائح،في مركزية الصدع،نرتجّ ونشعر بأنّنا منزلقون،وخارج السيطرة والتحكّم،مستسلمون-لأقدارنا-ومهدّدون في ذات الآن.(الكاتب)
-علمني وطني أن حروفَ التاريخ مزورة..حين تكون بدون دماء (مظفر النواب)
بعد مضي سبعة قرون على رحيل القائد الأعظم صلاح الدين الأيّوبي،صار عمر الولايات المتحدة الأمريكية قرنين من الزمان لا غير.
ها هي أمريكا اليوم تنتصب منفردة وكأنّها ’المنقذ’ العالمي،دون أن تنشد مغفرة من أحد..
وها هي قد أضحت قوّة،تُحتذى،تستثير نخوة الدول الكبرى كما كان الإغريق يستثيرون وسطاء الوحي من الكهنة..وها هي الرؤوس-هنا وهناك-تنحني لأوامرها مما يكسبها مكانة الأنبياء والمبشرين والحاملين وزر البشرية كلّها!
ونحن؟
ها نحن فوق الصفائح،في مركزية الصدع،نرتجّ ونشعر بأنّنا منزلقون،وخارج السيطرة والتحكّم،مستسلمون-لأقدارنا-ومهدّدون في ذات الآن.
ولكن..ما الذي يجبرنا على ترك الأمور تسير تائهة فوق بحر الظلمات،تسير هكذا،بالعمى الذي سارت به دائما!؟ أليس هذا ما سرنا إليه؟
من السؤال يتناسل السؤال والدّم يرث الدّم،وها هي الأشياء تنقلب رأسا على عقب..وها هي أمريكا ترفع الغطاء عن الجميع..وها نحن في قلب اللجّة..
إلا أنّني لست متشائما حين أقول انّ مجموعة حقائق كانت متوارية في زحمة القضايا والأحداث الساخنة بدأت تتعرّى كي تعلن : ‘إنّ العرب والمسلمين-مطالبون-أكثر من أيّ وقت مضى بأن يتعلّموا كلّ شيء من جديد (!)..ليس حسن السلوك،بل حسن القبول والطاعة،إنطلاقا من إعادة النظر بالبرامج السياسية،مرورا بالسكوت عن الصراخ من الألم،ووصولا إلى تقديم الإعتذار للولايات المتحدة عن “الإرهاب والعنف والنكوص الحضاري الخارج من الشرق.. شرقنا المتوحّش”(!)..
والأخطر..
أن يأتي يوم نطالَب فيه جميعا بالتعويض لضحايا-كارثة مانهاتن-بقصد تحويلنا إلى مسؤولين عما جرى! بل إنّ الأخطر من ذلك كلّه أن يُطالَب الفلسطينيون بدورهم، بدفع ثمن الرصاص الإسرائيلي الذي حصد رقاب أطفالهم بإعتبارهم حملوا أجسادهم وضربوا بها الرّصاص الصهيوني الهاجع في الرشاشات..كما أنّهم استفزوا الموت الغافي في الصواريخ والمدافع والقلوب الحاقدة.. !!
وماذا بعد؟
لقد أضحى الأمر جليا ولم يعد في حاجة لتوضيح وهو كما يبدو وحتى الآن،ليس إلا إعدادا لتغيير المنطقة وإعادتها إلى ما قبل مرحلة”سايكس-بيكو” فما تطلبه واشنطن كل يوم عبر التعليمات المتلفزة لا يختلف عن التعليمات والفرامنات السلطانية التي كانت تصدر عن الباب العالي.
والسؤال..
هل سنظلّ هكذا محاصرين بالدياجير والعمى والصّمت،نرنو بعيون الآسى إلى الدّم العراقي مراقا، وإلى الجنائز الفلسطينية وهي تسير خببا في إتجاه المدافن !؟
ألا نخجل من النحيب وحسب،بينما يخجل الفلسطيني وكذا العراقي من الإستسلام فيحوّلان مسيرة الحياة إلى نقمة لا يملكان فيها سوى الرّفض والصّبر والتحدي؟
وبسؤال مغاير أقول : ألسنا جميعا في قارب واحد قد يهوي إلى عمق اللجّة حيث لا شيء غير الموت وصرير الأسنان،لا سيما وأنّ ما نراه الآن..وهنا قد لا يكون إلا قمّة جبل الثلج..فما خفي أعظم!؟
وإذن؟
فلنصرخ، إذا،ليس الصراخ عيبا،وسوف لن يسمعنا أحد،إذ لا يجرؤ أحد على الإصغاء إلى صرختنا لئلا يُتَهَم بالخروج عن جدول أمريكا..
ولنصرخ ثانية،لا ليسمعنا أحد،بل لتوقظنا صرختنا مما نحن فيه.
ولنصرخ ثالثة كي ندرك بعد سبات عميق، أنّ مقارعة العدوّ دَيْن في أعناقنا وما علينا والحال هذه،إلا أن نقاوم الإحتلال بوسائل ملائمة لا تشوّه صورة حقّنا وحقيقتنا.
سأصارح :
إنّ أمريكا بإمكانها أن تحقّق ما تشاء طالما أنّها لا تتعامل إلا مع 22 ملكا ورئيسا..وسواء أكان المقصود من خلال هذه السياسة “الإمبراطورية” ايجاد شرق أوسط بالمفهوم الإسرائيلي،أو إنتاج شرق أوسط يتلاءم مع الرغبة الأمريكية،فإنّ كل المؤشرات توحي بأنّ الكمّاشة الأمريكية ستلتفّ حول رقبة الجميع،مما يعني أنّ مصير النظام العربي وما يرتبط به من منظمات كالجامعة العربية ستبقى فاقدة لقيمتها،كسيحة وعاجزة بالتالي عن ممارسة أي تأثير ايجابي في المشهد السياسي العربي، غير أنّ الأخطر من كل ذلك هو تعرّض المنطقة برمتها إلى نوع من البلقنة قد ينتهي بها إلى تقسيم الدّول العربية إلى دويلات طائفية وعشائرية وإثنية، وهو ما تؤسّس له الإدارة الأمريكية في كواليس البيت الأبيض،وما تخطّط له حكومة-آكلة الموتى-في تل أبيب تحت جنح الظلام.
أقول هذا في الوقت الذي تتعالى فيه صيحات متطرّفة تسعى لتحويل منطقتنا،إلى ميدان حرب طويلة،تارة تحت عنوان حرب الإرهاب والتطرّف،وتارة تحت عنوان صراع الحضارات، وتارة تحت عنوان تدمير أسلحة الدمار الشامل !،ويسعى منظرو هذه الحرب لحشد العالم بأسره في جبهة واحدة ضد العرب والمسلمين.
من المؤسف أن نتمنى استمرار عصر الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط ولكنه قدرنا الذي وضعنا فيه من قرر تدمير “الربيع”وأحلام الشعوب في 2011 ظناً منه أنه سيستطيع إيقاف حركة التاريخ فأدخل الدول العربية الرئيسية في صراعات أبعدتها عن القيام بدورها الحضاري في إيقاف تمدد دول الجوار العربي حتى طمعت فينا إيران وتركيا وأثيوبيا وانفجرت قنابل الأقليات الموقوتة التي استخدمت من قبل في تفكيك الدولة العثمانية لتفككنا من جديد.
لقد كشفت الحرب في غزة حقيقة الغرب الاستعمارية،ونظرته الدونية للعرب والاسلام،مثلما كشفت الحرب في أوكرينيا كذبة حقوق الانسان،وانتهت شعوب العالم الى أنَّ الديمقراطية،التي تبجحت بها أوربا وأمريكا تعني سلطة القوي،وأنَّ إمتلاك أيِّ دولة للسلاح النووي يجعلها بمأمن من الشرور والعدوان،وكل ما عدا ذلك فهو كذبٌ وضحك على الذقون.
وتكاد جملة الرئيس الامريكي بايدن في المؤتمر الصحفي الذي عقده بعد يومين من هجوم اسرائيل على غزة،والتي أعلن فيها موقف أمريكا الداعم لإسرائيل : “نحن نفعل ما نريد” خلاصة لكل العنجهية،وبرهان قاطع على أنَّ حقوق الشعوب في تقرير المصير إنما تتم عبر مفهوم أمريكا للحرية،لا بمفهوم الشعوب،وأنَّ مقاومة الاحتلال الاسرائيلي في فلسطين إرهابٌ، بموجب اللوائح الامريكية،وأنَّ العقوبات(الدولية)هي عقوبات أمريكية،لا علاقة لها بأيِّ دولة سواها،وأنَّ أيِّ استقلال عن إرادتها يعني خروج على الاجماع الدولي،وكل التظاهرات التي تجوب شوارع المدن في العالم مناصرة لغزة لن تغير من إرادتها بشيء.
واليوم..
تشهد الأمة العربية الآن جبروت القوة الأمريكية وطغيانها، وتفوقها العلمي والتكنولوجي، وقوتها العسكرية بأساطيلها وطيرانها وآلتها الحربية التي تزحف إلى المنطقة وتهدد باحتلالها تحت ذرائع واهية ومفبركة كذريعة نزع أسلحة الدمار الشامل كما حدث في العراق وسوريا أو ذريعة محاربة الإرهاب كما يحدث في اليمن،متجاهلة الرأي العام العالمي ومؤسسات النظام العالمي من مجلس الأمن إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى غيرهما،كما تشهد انهيار فاعلية القوى العالمية التي يمكن أن تقف بوجه الغطرسة الأمريكية،وضعف النظام الإقليمي العربي وتهافته نحو التطبيع مع العدو الإسرائيلي،وتنحية الجماهير العربية عن المشاركة في بناء حياتها ومستقبلها،وصمتاً مريباً من معظم الأنظمة السياسية العربية مما يوحي بتواطئؤٍ مباشر أو غير مباشر مع الغزاة الأمريكان..
لكن هل يعني ذلك أن الهزيمة محققة ونهائية ولا راد لها، وأن لا سبيل أمام الأمة إلا الاستسلام،وهل افتقدت الأمة شروط مقاومتها وصمودها وبقائها وحفاظها على وحدة مصيرها وأرضها ومصالحها وثقافتها وأهدافها في التحرر والتنمية والوحدة،ولعب دورها الذي تستحقه وتستطيعه في المشاركة في السياسة العالمية والمساهمة في بناء الحضارة الإنسانية ؟.
والأسئلة التي تنبت على حواشي الواقع:
هل نملك القيام بشيء إزاء كل هذه التحديات؟
وهل بإمكاننا والحال هذه حشد الطاقات العربية بشكل بنّاء لمواجهة الأخطار القادمة لا سيما في بعض “الإشراقات الخلابة” للمشهد العربي؟
إن هذا الصمت الذي يلزمه الكثير من أبناء أمتنا أمام ما جرى ويجري من ظلم وتعسف العدو وخيانة وفساد الأنظمة العربية ليس مرفوضاً فقط بل هو غير قابل للتصديق.كيف يمكن لمنطقة لها جدزورها التاريخية حضارتها الضاربة في القدم أن تنتظر بهذه السلبية انهيال الضربات عليها،دون أن تطلق صيحة جماعية للجهاد وللمقاومة والنهوض بالمسؤولية.
ألم يحن الوقت بعد كي نحاول مجتمعين إصلاح واقعنا وتصحيح نظرتنا وخلع بزة التبعية التي ألبسناها الاستكبار العالمي وصياغة واقع عربي حقيقي يطمح لرؤية مستقبلية صحيحة وسليمة من الخبث والمكر الصهيوني وأن نكون كما أراد الله سبحانه وتعالى لنا خير أمة أخرجت للناس نأمر بالمعروف ونلتزم به وننهى عن المنكر وننتهي عنه حتى لا يبقى لغير الله في أنفسنا ذرة من رهبة أو قيراط من خضوع.
الجواب هذه المرّة ساطع كعين الشمس ولا يحتاج إلى إستخارة : إما أن نكون عربا دون زيف أو خداع أو أن نسير حفاة إلى قبورنا كي نتوارى خلف التراب..
هل بقي لديَّ ما أضيف!؟.. قطعا.