رامز مصطفى
أمد/ على وقعِ ما يشهده قطاع غزة من مجازر ومحارق بالجملة وحرب إبادة يشنها الكيان الصهيوني على مدار 126 يوماً، تعالت الأصوات التي تطالب بضرورة الإسراع بإيجاد حل للقضية الفلسطينية إذا ما أُريد إنهاء الصراع المستمر منذ 75 عاماً من عمر تلك القضية. وهذه ليست المرة الأولى التي يعلو فيها الصوت بضرورة إقامة الدولة الفلسطينية، أو ما بات يُعرف ب “حل الدولتين” مع كل حرب أو مأزق. ولكن هذه المرة إذا ما صدقت النوايا المُطالبة وهي مشكوك بصدقيتها بالشكل والمضمون، خصوصاً عندما تصدر عن أحد المسؤولين في الإدارة الأمريكية سواء كانت ديمقراطية أم جمهورية. وجديد تلك المُطالبات ما أفصح عنه وزير الخارجية الأمريكية “أنتوني بلينكن” خلال اجتماعه إلى وزير الحرب الصهيوني “غالانت”، عن ضرورات قيام دولة فلسطينية، يقابلها ضمانات أمنية لكيان الاحتلال. وكان قد سبقه إليها أواخر كانون الثاني الناطق باسم الخارجية “مات ميلر”، بأن إدارته تواصل دعمها إقامة دولة فلسطينية.
الحديث الأمريكي حول إقامة الدولة الفلسطينية علينا التدقيق فيه كثيراً، خصوصاً لجهة الدوافع والأسباب. لأنه وببساطة متناهية لا يمكن الركون أو الاطمئنان لها لأن التجارب مليئة بالشواهد على عدم صدقية الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بكيان الاحتلال الصهيوني. – (لا يلدغ المؤمنُ من جُحرٍ مرتين، إلاّ إذا كان فاقد البصيرة) -. فعندما رعت الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس “كلينتون” التوقيع على اتفاقات “أوسلو” المُذلة والمُهينة عام 1993، تمّ تأجيل ملفات القدس واللاجئين والحدود والأسرى والمياه إلى مفاوضات الحل النهائي بعد خمس سنوات أي في العام 1998، كان المأمول عند من وقع على الاتفاقات، أن تفضي مفاوضات الحل النهائي إلى قيام دولة فلسطينية. ولكن وبعد مرور ثلاثين عاماً على تلك الاتفاقات وبدعمٍ لا محدود من الإدارات الأمريكية المتعاقبة لا مفاوضات قد جرت ولا دولة قد قامت.
ماذا وراء الدعوة الأمريكية حول ضرورة قيام الدولة الفلسطينية العتيدة وفي هذا التوقيت، خصوصاً وكما أسلفنا أن لا صدقية أو مصداقية للأصلاء اليوم في العدوان على الشعب الفلسطيني. وهنا يجب البحث عن الدوافع الحقيقية لتلك الدعوة. بتقديري وتقدير الكثيرين ممن خبروا وتابعوا الخط البياني للسياسات الأمريكية فهي تقدم مصالحها ومصالح ربيبتها الكيان الصهيوني على ما سواها. ما خارج ما سلف فإن الدوافع التي أملت على إدارة الرئيس بايدن في اتجاهين. داخلية تتعلق أولاً بالانتخابات الرئاسية والسباق إلى البيت الأول التي ستجري في الخامس من نوفمبر تشرين الثاني من هذا العام. والحزب الديمقراطي يريد أن يعزز من حظوظ مرشحه بايدن بعد التراجع في شعبيته بحسب استطلاعات الرأي، والتململ في بين قواعد الحزب، على خلفية حرب الإبادة التي يشنها كيان العدو الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وتحميل الرئيس بايدن وإدارته المسؤولية في تشجيع ومنح الرخصة لنتنياهو وحكومته وجنرالاته الاستمرار عدوانهم. وثانياً، إعطاء الانطباع لدى الجمهور الأمريكي الذي يتظاهر في المدن الأمريكية مؤيداً للحق الفلسطيني ورفضاً لحرب الإبادة الصهيونية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة. وبأنّ إدارة الرئيس بايدن تعمل جاهدة لوقف الحرب، وتمارس أقصى جهودها وحراكها السياسي في هذا السياق. وهي وفي إطار إيجاد حل شامل للصراع ترى ضرورة لإقامة دولة فلسطينية.
أما ثانياً، فهي تتعلق برؤيتها للحل الشامل في اليوم الثاني من وقف العدوان، باتجاه إعادة تنشيط التطبيع المستهدف منه المملكة السعودية التي اشترط بيان وزارة خارجيتها، موافقة الكيان على الالتزام بمسار ينتهي بدولة فلسطينية، أو بتعهده القبول ب “حل الدولتين”. وهنا يمكن اعتبار الخطوة الأمريكية تقع في سياق تكتيكي للإدارة الأمريكية لاستدراج سعودي نحو التوقيع على اتفاق التطبيع مع كيان الاحتلال الصهيوني. ومن خارج ذلك قد تكون الخطوة الأمريكية تندرج في سياق ممارسة الضغوط على الكيان لتليين موقفه مما تسببه حربه المجرمة على قطاع غزة. ووسائل الإعلام سربت مؤخراً أنّ الولايات المتحدة هي من طلبت من السعودية التشدد في مواقفها من التطبيع مع الكيان. حيث بُحث الأمر خلال زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي “جيك سوليفان” ولقاءه ولي العهد السعودي محمد بن نايف. وفي ذات السياق تريد طمأنة حلفائها من دول المنطقة بأنها جادة لخلق ظروف جديدة لمسار سياسي سلمي بعد توقف الحرب. تلك الدول التي بدأت تشعر بالحرج خصوصاً مع استمرار حرب الإبادة وسقوط حوالي المائة ألف فلسطيني بين شهيدٍ وجريحٍ ومفقود، والتي لا أفق لتوقف في ظل تعنت نتنياهو وإصراره على استمرار الحرب وتوسعها باتجاه رفح حيث الاكتظاظ السكاني الفلسطيني الغير مسبوق بسبب حرب الإبادة المستمرة منذ 127 يوماً.
في مطلق الأحوال وعودة على ذي بدء فإنّ الولايات المتحدة الأمريكية بإداراتها فهي لم تكن جادة ولو مرة واحدة فيما أعلنته عن نيتها إقامة دولة فلسطينية، أو تطبيق “حل الدولتين”، وطرحها يأتي على الدوام في لحظة الحرج والحشر السياسي، كما حاصل الآن على وقع الحرب الصهيو أمريكية عللا قطاع غزة. ولربما ما صرّح به الرئيس بايدن في تموز يوليو من العام 2022 خلال زيارته للأراضي الفلسطينية المحتلة في رده على مطالب رئيس السلطة السيد محمود عباس، بأنّ مطالبك تحتاج “المسيح” لتحقيقها. هذه هي الولايات المتحدة الأمريكية التي لن تتغير، ولن تكون راعية نزيهة فحذاري من فخاخها المنصوبة.