محمد المحسن
أمد/ ارتباط الفلسطينيين بكنعانية فلسطين لها صلات تاريخية،و”كنعانيتهم” ليست مجرد تسمية مجازية ألصقت بهم كمبرر لاهوتي لإبادتهم..(الكاتب)
“إلسعوا أول من ترونه،واستمدوا حياتكم من موته”
“أرسطو فان “الزنابير”422 ق.م
-“عندما تريدون الرحيل،إرحلوا..
لكنّ لا تعودوا أبدًا
كونوا للرحيل أوفياء..
لعلَّنا نكونُ أيضًا لنسيانكم مخلصين
(محمود درويش)
إننا نقرأ التاريخ لنتعلم من خبرات الذين سبقونا إلى المجاهل،ولنعتبر بتجاربهم وأخطائهم إذا كنّا فعلا نحبّ الحياة ونعتقد بأننا نستحق هذه الحياة.
ما الذي أعنيه..؟
أعني أن أمريكا ليست إلا الفهم الأنقليزي التطبيقي لفكرة اسرائيل التاريخية، وإن كل تفصيل من تفاصيل الإستعمار الأنقليزي لشمال أمريكا حاول أن يجد جذوره في أدبيات تلك اسرائيل، ويتقمص وقائعها وأبطالها وبعدها الديني والاجتماعي والسياسي، ويبني عقائدها في”الاختيار الإلهي”وعبادة الذات وحق تملك أرض وحياة الغير..
ولقد كان لدخول أمريكا الحربين الكونيتين هو المعبر الأوسع إلى قدر أمريكا المتجلي وراء البحار لدمغ ظهور البشرية بدمغة الأنكلوسكسوت الحضارية، أو ما صار يطلق عليه اليوم في القاموس الأمريكي بالنظام العالمي الجديد.
وكما جرت العادة في كل حرب فإن الرئيس الأمريكي (كان يومها وودرو ولسون) خرج على مواطنيه ليعلن عن ظهور مجاهل جديدة ووحوش جدد! وليقول إنه لم يورط أبناء الولايات المتحدة في الحرب، إلا للدفاع عن الحضارة ضد الهمجية وللدفاع عن “طريقة الحياة الأمريكية”..!
وفي الحرب العالمية الثانية أيضا أعلن الرئيس روزفلت لمواطنيه أن أمريكا تدخل الحرب من أجل انقاذ العالم، ودفاعا عن الحضارة وعن طريقة عيشها.
سأضيف: خلال الحربين الكونيتين كان السياسيون ونجوم السينما والإذاعات والصحف كلهم يمجدون الدور الأمريكي ”الخلاصي” ويركزون على الإختيار الإلهي ووحدة المصير الأنكلوسكسوني وارتهان مصير الانسانية كلها لمصير العرق الأنكلوسكسوني المختار، كما عبّر عن ذلك رينهولد نيبور Reind hold Niebur في مقالته”المصير والمسؤولية الأنكلوسكسونية”(1) قبل قصف هيروشيما وناغازاكي بالقنابل النووية.
سأضيف ثانية: في أربعينيات القرن المنصرم دخلت اليابان أطلس المجاهل وانضم اليابانيون إلى لائحة الشعوب المتوحشة.و”سرعان ما صنفت دائرة الأنتروبولوجيا في مؤسسة سميثسونيان الثقافية اليابانيين مع الأعراق المنحطة!”(2) وقد قال يومئذ العسكريون”إن اليابانيين ليس فيهم طيارون مؤهلون قادرون على التصويب في اتجاه الهدف،لأن عيونهم مشوهة منحرفة !”.
ما أريد أن أقول؟:
أردت القول أن التجربة الحيّة والمستمرة لفكرة أمريكا “فكرة استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة”قد بنى منها -هؤلاء الغزاة-لحم أكتافهم واقتصادهم القائم على “حق النهب”و”الفردية المتوحشة”وبها رفعوا صرح مدنهم على أنقاض المدن الهندية وسوروا حدائقهم بعظام الهنود الحمر.
لقد كانت هذه “الجبهة” المتقدمة دائما الوجه السحري لأسطورة أمريكا حيث كتب القضاء والقدر للحضارة أن تنتصر على الهمجية وللإنسانية على “الوحوش” وللنور على الظلام، وللخير على الشرّ..ولإسرائيل على كنعان.. وللولايات المتحدة على كافة الدول العربية دون إستثناء..
واليوم:
يعتقد الأمريكيون اليوم كما كان أجدادهم المستعمرون الأوائل يعتقدون قبلهم،بأن لهم الحق المطلق في أن يقتحموا أي أرض تفوح منها رائحة النفط أو يتلألأ على تخومها بريق الذهب أو يرفض أهلها الوصاية الأمريكية اليانكية.
والسؤال : الخليج العربي اليوم ينزّ نفطا، فهل ستنزل عليه اللعنة صباحا ويلتف من حوله الاخطبوط الأمريكي عند المساء !؟
إن مقتل مائة هندي أو حرق قرية هندية كاملة بمن فيها،قد تحيله هوليود إلى مناسبة للضحك والتسلية،فيما هي تنسج من تلويح الهندي بيده في وجه الرجل الأبيض دراما مخيفة تجعلها عنوانا للعنف والوحشية التي تؤهله للموت،مما يعني أنهم قبل أن يسلبوا الهنود جهودهم في الحضارة الإنسانية ويعرّوهم من انسانيتهم،أسقطوا عليهم فظاعاتهم كالعنف وسلخ فروة الرأس والتمثيل بالجثث وغير ذلك مما يعتبر لازما لإبادة 112 مليون إنسان من “الأضرار الهامشية”التي تواكب انتشار الحضارة.
الولايات المتحدة ذبحت مائة مليون هندي أحمر،أو أميركي أصلي،فلماذا ستقلق اليوم أمام استشهاد مليون عراقي في حروب العراق وحصاره،أو استشهاد عشرات آلاف الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية،مثلا،والكلام هنا لا يؤشر فقط على الطبيعة الاستعمارية القاتلة للانظمة السياسية،لكنه يؤشر من جهة ثانية على ان استدرار وتوسل عطف الدول المتنفذة في العالم لوقف الحرب في غزة،لن يؤدي إلى أي نتيجة،فأنت تناشد من تاريخه اسوأ بكثير من واقعه،وفي سجلاته التاريخية والسياسية أكبر انتهاكات لحقوق الإنسان في مواقع مختلفة أيضا.
السكان الأصليون أو الهنود الحمر كما النموذج الأميركي ربما خسروا أوطانهم لكنهم ما زالوا موجودين ولهم مطالبات حاضرة حتى هذه الأيام،وبرغم ذلك فإن قصة الشعب الفلسطيني قصته مختلفة،فهو ليس مجرد نموذج حديث للهنود الحمر أو السكان الأصليين في فلسطين وستتم ابادتهم،وتدمير مدنهم،ويكفي ان إسرائيل ما تزال منذ تأسيسها حتى اليوم غير قادرة على حل أكبر أزمة في بنية إسرائيل أي الوجود الديموغرافي الفلسطيني داخل فلسطين بما يعنيه ذلك من وقوف عملي في وجه المشروع الإسرائيلي بشأن فلسطين، وكل المنطقة العربية حتى نتذكر ان الفلسطينيين هنا يتلقون كل هذه الضربات الدموية أيضا نيابة عن العرب جميعا..
وإذن؟
ثمة اختلاف كبير إذا،بين تاريخ الفلسطيني وثقافته وإدراكه بواقعه السياسي والجغرافي،وبين الثقافة الغافلة للهندي الأحمر،الذي انتهت به طوباويته إلى مصير مأسوي لم يواجهه من قبله أي شعب في التاريخ.كما أن ارتباط الفلسطينيين بكنعانية فلسطين لها صلات تاريخية، و”كنعانيتهم” ليست مجرد تسمية مجازية ألصقت بهم كمبرر لاهوتي لإبادتهم.
فلسطين ليست أمريكا،فلسطين مقدسة بنصوص الكتب السماوية،والدفاع عنها طريق إلى الجنة في الآخرة،ودرب العزة في الدنيا،والفلسطينيون ليسوا هنودا حمرا يمكن أن يباعوا بأعراض الدنيا كلها، ولا تَقبلُ عقليتُهم،ولا يمكن تصور أن تقبل وطنا غيره،فهي تنتقل بالشيفرة الوراثية في جيناتهم التي لا تغيرها الحوادث ولا تنسخها الأزمنة.
ليسوا هنودا حمرا،فأبناؤهم وأبناء أبنائهم على أي شبر من الكرة الأرضية يغنون لفلسطين أنشودة العودة وترقب الوصول إلى ترابها،ما ذاك إلا لأن الدم الذي يجري في عروقهم هو دم فلسطيني،وأجسادهم مختومة بشعار الأقصى،وعيونهم كليلة عن رؤية أي مكان بعين الرضا إلا فلسطين.
لقد مرت على فلسطينَ الإنسان،وفلسطينَ التاريخ،وفلسطينَ الديانات،وفلسطينَ الشجر والحجر،محن و-تراجيديات-أليمة،وبقيت فلسطين شامخة والفلسطينيون يمرحون على صفحات عزة التاريخ..
وهنا أقول : إن اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم عنوةً،تكرر في سيناريوهات سابقة عدّة،وهي وليدة فكر استيطاني واحد،سواء في أميركا أو جنوب أفريقيا أو أستراليا،وتحمل هذه النماذج الاستعمارية ذكريات موروثة زرعت في الذاكرة الإنسانية عن التهجير القسري من الأراضي التي سلبت من شعبها.وهنا تحضر ثنائية المجزرة وبناء الدولة،حيث يمحي المستعمِر ذاكرة المستعمَر،لأن هذه الذاكرة تعيق بناء السلام.
لكن..
ليعلم العالم أن إسرائيل هي اجترار لنجاح النموذج الاستيطاني الأميركي الذي يرسخ وحشية وبدائية الشعوب المستعمَرة،فكثيراً ما نرى الجلاد الواحد يردد أنه أتى بمهمة ترويض الوحش الذي يعرقل قيام الحضارة.وليس من المستغرب أن يقول الرئيس الأميركي الأسبق،جورج واشنطن: “الهنود والذئاب كلاهما وحوش مفترسة،على الرغم من اختلافهما في الشكل”، أو أن يصف وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت الفلسطينيين بالوحوش البشرية.
ختاما،أقول : إذا طبقنا ما فعلته أمريكا مع الهنود نجد أن إسرائيل تحاول أن تكرره مع الفلسطينيين فى غزة،فهى تستخدم القنابل المحرمة دوليًا،وتهدم المستشفيات على رؤوس المرضى وتدك المدارس بالصواريخ غير عابئة بالأطفال الذين يدفنون تحت الأنقاض وتسوى المنازل بالأرض وتبيد أحياء ومخيمات كاملة مستهدفين قاطنيها وتحاصر أهلها مانعة عنهم الأدوية والأغذية والغاز والسولار ما يهدد بانتشار الأوبئة (الأوبئة انتشرت فعلا) وذلك بهدف قتل أكبر عدد وتهجير من يتبقى منهم إلى مصر وهو ما رفضته مصر تمامًا محبطة هذا السيناريو الحقير،ما أشبه ما تفعله إسرائيل بما فعلته أمريكا مع الهنود الحمر،الفارق أن الفلسطينيين يقاومون ويرفضون التخلى عن أرضهم،وسيظلون يقاومون،واذا مات منهم شهيد يولد بدلًا منه ألف،وهؤلاء الأطفال سيكبرون ويصبحون أيضا مقاتلين ولذا ستظل غزة فلسطينية وستظل القضية الفلسطينية باقية وسيظل الفلسطينيون يدافعون عن حقهم حتى تحقيق النصر المبين..
لست أحلم..لكنه الإيمان الأكثر دقة في لجظات التاريخ السوداء..من حسابات المتعجرف-بايدن-وأوهام..المنفلت من العقال نتنياهو..
الهوامش:
1-)عن منير العكش كاتب سوري يقيم في واشنطن. انظر دراسته المستفيضة المنشورة بمجلة الكرمل الفلسطينية العدد 71 72 شتاءربيع 02 ص 80
2-) نفس المرجع.