د. طلال الشريف
أمد/ الثقافة ارضية السياسة والسياسة تقدم السياسيين على مسرح المجتمع، والسياسيين إما أن يقودوا مجتمعهم للنهوض والتطور او التراجع والتدهور ولأن الثقافة العربية أنتجت الثقافة الدينية فقدمت الانبياء الذين جاؤوا برسائلهم، اليهودية والمسيحية والإسلام لمجتمع الشرق، ومنه سافرت تلك الأديان التي بشروا بها لكل بقاع الأرض وفرضت ثقافاتها لآلاف السنين أنتجت خلالها دورات ودورات من أجيال عدة وتذبذبت الثقافات فيما بين التزمت والتيسير وفيما بين الإنغلاق والانفتاح حتى أصبحت البشرية مقسمة إلى أمم وشعوب تستقي كل منها من خليط ثقافتها العرقية أو القومية والعقائدية، منها ما طور العقل ومنحه فرصة الحرية فقدم العقل على النقل ومنها من ظل يرزح تحت مداميك النقل ويقدمه على العقل.
بإختصار، من هذه الجموع من ضعف فقويت عليه الأمم الأخرى ومنها من قويَ فاستقوى على من ضعف من الأمم الأخرى، ومنها من مَجَدَ العقل والعلم والحرية وسعى إليها فتحضر وتطور وأصبح في وضع حياتي محترم يحترم الحقوق ويعلي كرامة المواطن ومنها من جمد العقل وأهمل العلم ورضي بالعبودية وطغيان القبيلة والعائلة والحاكم المتجبر فضعف وإنزوى ينشد السلامة خوفا من الكبير والقائد والرئيس وقمع السلطة فرضي بما هو موجود او مسموح حتى لو كان لا يشبع من جوع ولا يحمي من خوف ولا يشرف بكرامة ..
تجبر وإنغلاق القبيلة والعائلة والداعية والحاكم جعل الإنسان العربي والمسلم ينتج عقلا متداريا، وليس ثوريا، فكرس ذلك العقل المتداري الخوف من الريح أو موجات التغيير، وهتفوا جميعا عاش القائد مات القائد، وشوفولنا مين اللي بعده للإقتراب منه وتامين الحاجة وحماية النفس، حتى باتت تفاصيل حياتنا تبتعد عما يثور العقل ويعلي الكرامة وأصبحنا نواجه موجات من أجيال يستعمرها المستعمر الأجنبي بالقوة، ويستعمرها الشخص القائد، أو كبير القوم، أو المختار، أو حامل السلاح البلطجي، أو الأقوى نفوذا، أو الأغنى مالا، أو صاحب الوظيفة،او صاحب العمل، ليقولوا حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس، هكذا ثقافتنا، وهكذا نعيش، حتى القطيع منا عندما يخرج احدنا عن خط إستواء تفكيرهم البائس يقوم الجميع بقمعه ويرجعوه إلى الخط الذي إرتسم لمجتمعاتنا من ثقافة الخوف والتذيل والتبعية لدول او حتى للمستقوي من ابناء شعبنا او حارتنا، وشعارهم فلتصمت أو كاتم الصوت، أو تحريض من أشباه المهزومين وأتباع الجماعة المقهورة والمذلولة عند مصدر الماء ونتغنى كذبا كالفرزدق حين يهجو جرير وضعف قبيلته بورد العشي يحلو المنهل.
كثيرة هي شائنات جمودنا، جمودنا العقلي والفكري ورفض الثورة والثوران، فالثورة الحقيقية تبدأ بالفكرة بالفرد وليس بالقطيع فعندما يثور القطيع يصبح الراكبون كلهم ثوارا، ولا يدرون او هم يتناسون كم من قمع سابق مورس على صاحب التغيير والثائر المفكر، فهؤلاء الراكبون قبل عصر ثورة القطيع كانوا من القميعة ومن المتآمرين ومن المانعين لكل وسيلة لصاحب ثورة، ولتتذكروا كم ممن حاربوا النبي محمد حين جاء بالثورة ومن اصبحوا ركاب الثورة لاحقا.
نحن نعيش في زمان اصعب مما جاءت به ثورة محمد عليه الصلاة والسلام.. كيف؟
ثمانية عقود نحن الفلسطينيون ننسخ التجربة التي بدأت زمان زمان لمواجهة الهجمة الصهيونية على بلادنا، على الاقل انظروا من ركب الثورات المتتالية، وكيف فسدت واضمحلت، ولا أقصد هنا فقط الأشخاص بل أقصد الفكرة والأشخاص وكيف من آن لآخر تتعطل الفكرة بنفس منهجيات الشخوص والسلوكيات، ياتي زعيم نسير خلفه ونؤلهه ونوزع صوره ونغني له وياتي معه بطانته وقادته ومفكريه فيفشل، ويتبقى الفلول، من يواصلون غسل دماغنا ويعيدون امجاد ماض تعيس ليبنوا عليها من جديد ونصفق لهم وهكذا دورات نصبح فيها فقط نعيد الماضي الذي يقولون عنه مفكرينا الجدد ومثقفين “المنسوخ” ويدعون بانه تجديد وهو لا تجديد ولا ما يحزنون..
نتذكر كيف كان الرومان في العهد القديم حين يقتل او يموت البيطر المهزوم فلا يبقون عائلته ونسله المتورثون احياءا ، وذلك ليس قتلا للشخص فقط بل للفكر المهزوم ونحن مازلنا نستنسخ الفكر الذي هزمنا مرارا ونعيده فننهزم من جديد.
سعبون عاما ونيف من الصراع نعيد نفس الأخطاء ونفس التجربة وهكذا يبقى الجميع رهن الخوف من حامل البارودة الجاهل ان يستبيح دم المفكر او الثائر او القائد الجديد إذا تجرأ وخرج عما اسموه بالثوابت، وما هي الثوابت التي نجدها حقيقة بعد اي حقبة من هزيمة او انتكاسة، وتاريخنا كله هزائم وفشل وقمع لأي خارج عن القطيع المهزوم، وهم يريدون استنساخا ولا يريدون مغادرة التجارب السابقة لأن عقلهم مغلق على الثوابت، فاي ثوابت تلك التي نجدها حين التدقيق؟! إنها السلطة والحكم، والهيلمان، وقمع الآخر ، ومصدر المال، ولا ننتج تحررا ، ولا نحافظ على ما كان لدينا اصلا …
رايت ما رايت في العقود الأربعة او الخمسة الماضية من يخبرنا من المثقفين والسياسيين والقادة والمفكرين عن نسخ التجربة الاولى وتقليدها بشخوصها، ونعيد نفس الإخفاق والفشل والتراجع، وتفكروا كيف لم يتطور فكرنا الثوري لإيجاد حل لقضيتنا الفلسطينية لان الفكر جامد ومهزوم عربيا وإسلاميا، فنعيد نفس الفكر والفكرة لنفس الفكر والأفكار والأشخاص وعلى سبيل المثال وليس الحصر:
سيد قطب وحسن البنا وعلي الوردي وطه حسين وحسن حفني ومحمد عابد الحابري ومحمد أركون وزكي نجيب محمود ومحمد حسنين هيكل وإدوارد سعيد وميشيل عفلق وجورج حبش وياسر عرفات وابو إياد وابو جهاد ونايف حواتمة وتوفيق زياد وسميح القاسم ومحمود درويش ونوح ابراهيم وشاكر النابلسي ومظفر النواب ومحمد مهدي الجواهري وقاسم امين ومحمد عمارة ويوسف القرضاوي وصولا لمفكري وكتاب ومثقفي هذه الأيام وأربابهم وتابعيهم وجميعهم قد فشلوا في إنهاض هذه الأمة وتحرير فلسطين او جزء منها، والأنكى من ذلك أنهم حتى بفكرهم وأمتهم وجيوشهم وفلسفاتهم وتنظيرهم وأتباعهم ومريديهم لم يحموا شعبنا من الإبادة والقتل والتدمير والتهجير فأي مثقفين وسياسيين ومفكرين هؤلاء العرب والإسلاميين واليساريين والبعثيين والقوميين والإنجوزيين ؟!!
ترانا اليوم كما الامس واول أمس اصحاب فكر جامد في فلسطين وفي العالم العربي والإسلامي ومازالت التجربة خضراء أي تجربة اليوم ولم تجمد او تيبس تريد من يجمع حوله نفس المهزومين والمأزومين من شاكلته ليؤسس تجربة يسميها جديدة ولكن من يجمعهم هم من هزموا فكريا وثوريا بالأمس واليوم، ويبعد لجهله من لا يفهمه من نماذج ثورية لا يفهمها عقله المتجمد لانه يخشى مما يفكرون لأنه متحجر على فكره وبهذا كل جديد يحدث عندنا لا يقبل أي ثوري حقيقي فهو بمثابة غريب عن فكره أو ما يفهمه او ما تعود عليه.. تجد مثالا بسيطا حيا في صحافتنا الفلسطينية يعيدون تجديد الشلة والمجموعة بالمهزومين من مثقفينا وكتابنا ممن كانوا في المهجر او بيروت او تونس او من عصر الثورة الميتة، ونبقى ندور معصوبي العينين ولفي يا ساقية ..
من الثابت دائما في محطاتنا المهزومة على الدوام يتجمع المهزومين بعد الهزيمة بضعفهم وضعافهم خوفا من الانكشاف وغياب المحاسبة ليتبوؤا سدة الثقافة وسدة الحكم وسدة المال من جديد، وكلها فروع السلطة والحكم وكانها وظيفة يصرون على البقاء فيها لهزيمتنا من جديد ..
يا ناس الفكر والثقافة والثورة ليست وظيفة يا هوووو… إنها ثقافة الأحياء وليست ثقافة ميتة هزمت مرارا، إنها ثقافة مدركة للحال والمآل وليس جهلا يطرد العلم أو علما ينزوي خوفا من الجهل .. تلك هي ثقافة الثائر دائما.