د. عقل صلاح
أمد/ قادت حركة فتح برئاسة ياسر عرفات الثورة الفلسطينية، وغيرت مسار القضية من قضية لاجئين إلى قضية تحرر وطني، كما أنها حولت منظمة التحرير من كونها جزءًا من النظام العربي الرسمي إلى ممثل شرعي للشعب الفلسطيني، فكانت فتح أول من أشعل الكفاح المسلح في الأول من كانون ثاني/يناير 1965، كما أن العديد من قادة الحركة تم اغتيالهم على يد الموساد الإسرائيلي. وازدادت شعبية حركة فتح بعد الإنجازات التي حققها الفدائيون الفلسطينيون والجيش الأردني في معركة الكرامة عام 1968 ضد الجيش الإسرائيلي، والتي دفعت الجيش الإسرائيلي للتراجع دون تحقيق أهدافه المتمثلة في تدمير القواعد الفدائية في غور الأردن. فصعد نجم حركة فتح على الصعيد السياسي، وتدفق آلاف المتطوعين على قواعدها في الأردن، وعلى مكاتبها في العواصم العربية، بالإضافة إلى قيام بعض المجموعات الفدائية بحل تشكيلاتها والانضمام إلى فتح. فمثلت حركة فتح الإطار الواسع والمرن الذي يستقطب الجميع، إلى أن وقعت المنظمة اتفاق أوسلو الذي يعتبر أول حلقة في مسلسل التنازلات، والذي أدخل حركة فتح في مرحلة جديدة، ونقلها من مقاومة الاحتلال إلى الإيفاء بتعهداتها والتزاماتها مع إسرائيل عبر التنسيق الأمني.
لقد كان اتفاق أوسلو تمهيدًا لإقامة الدولة الفلسطينية، إلا أن نتائج مفاوضات كامب ديفيد سنة 2000، أكدت استحالة قيام الدولة عن طريق التفاوض والتسوية اللذين زعمت السلطة أنهما الطريق الوحيد لتحقيق المطالب الوطنية. فوصول نهج المفاوضات منذ أوسلو وما تلاها إلى أفق مسدود، جعل الشعب غير مقتنع بالخيار السلمي الذي لم ينتج عنه إلا ترد في الوضع الفلسطيني بكافة نواحيه، وحمل فتح نتائج الإخفاقات السياسية لاتفاقيات السلام كونها الحزب الحاكم.
وبعد فشل المفاوضات، اندلعت انتفاضة الأقصى عام 2000، وعمدت إسرائيل إلى استهداف الشعب الفلسطيني عبر القتل والاعتقال والهدم والحصار، واغتيال القادة من الصف الأول وتدمير مقرات السلطة. لقد أدت انتفاضة الأقصى والاستهداف الإسرائيلي للسلطة وبنيتها إلى إضعاف السلطة المتمثلة بحركة فتح، وتعزيز حالة الانقسام والتفكك التي كانت تعاني منها الحركة.
شكلت حركة فتح بقادتها وأعضائها المكون الرئيس للسلطة من رأس هرمها حتى قاعدتها، فالسلطة بعد استلامها مهامها بدأت بتثبيت أعضائها من حركة فتح في مؤسسات السلطة، فأصبحت فتح تشكل العمود الفقري للسلطة. لقد أدى اندماج حركة فتح بمؤسسة السلطة إلى تعطيل عمل مؤسسات الحركة، بالإضافة إلى أن النشاط الوظيفي المتمثل بوظائف السلطة حل بديلًا عن النشاط السياسي والتنظيمي للحركة. كما أصبحت المرجعيات الإدارية والأمنية في مؤسسات السلطة بديلًا للمرجعيات القيادية للحركة، وبناءً على المرجعيات الجديدة تكونت ولاءات من نوع جديد، فأصبحت الوظيفة العامة تستخدم لدعم مراكز القوة الجديدة. وقد عادت كل مساوئ السلطة على حركة فتح، فقد تحملت حركة فتح تبعات وممارسات السلطة، فلو فصلت الحركة بينها وبين السلطة منذ البداية لكان باستطاعتها تجاوز محنتها.
إن من الأسباب الجوهرية لهبوط شعبية حركة فتح هو التنسيق الأمني، فهذه النقطة هي مقتل السلطة، ولها ارتداد سلبي على حركة فتح. لقد كان اتفاق أوسلو أول خطوة في الهبوط التدريجي للحركة في صناديق الاقتراع، فعلى الرغم من أنه أقام سلطة إلا أنها لا تمتلك أية صلاحيات فعلية. ولم يتم بناء الدولة، والتخلص من نير الاحتلال، وتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وعودة القدس واللاجئين، وإيقاف الاستيطان، وإطلاق سراح الأسرى.
بعد تنازل منظمة التحرير بقيادة فتح عن الكفاح المسلح، وفشل المسار السلمي والتفاوضي الذي عارضته حركة حماس منذ بداية أوسلو، وراهنت على فشل هذه الاتفاقيات، طرحت حماس نفسها بديلًا سياسيًا للمنظمة ولم تعترف بها، وتبنت العمل المقاوم بعد تخلي فتح عنه في أواسط التسعينيات وزادت حماس من عملياتها العسكرية، ومع بداية أوسلو رفعت وتيرة عملياتها بعد اغتيال الشهيد يحي عياش في سنة 1996، مما جعلها عرضة للملاحقة والاعتقال من قبل إسرائيل وأجهزة السلطة حتى فشل مسار المفاوضات، واندلاع الانتفاضة الثانية التي فتحت نافذة الفرص العسكرية أمام حماس، حيث مارست حماس عملها العسكري بكل حرية ولم تعاقب من قبل السلطة حتى سنة 2005، وبعد انتخاب الرئيس محمود عباس تم الاتفاق الفلسطيني-الفلسطيني في القاهرة على عقد الانتخابات الثانية عام 2006، وتغير موقف حماس من رفض المشاركة في الانتخابات التشريعية الأولى إلى المشاركة في الانتخابات الثانية وفوزها، وتشكيلها الحكومة العاشرة، وقيام الحركة في السيطرة على القطاع عسكريًا سنة 2007، وعلى مدار فترة الانقسام تم عقد عشرات الجولات لإتمام المصالحة التي وصلت لطريق مسدود.
وفي المرحلة الزمنية الممتدة منذ 2007 وحتى 2023، تعرضت غزة للعديد من الحروب والحصار المطبق، وعلى الرغم من الحصار استطاعت حماس الاستمرار في الحكم وإدارة الصراع على جميع الصعد، وكانت نقيضًا لحركة فتح، فلم تقم بصهر حماس في السلطة، فكانت السلطة أداة بيد كتائب القسام وعملت على منح الغطاء الحكومي للكتائب وشكلت للكتائب ظهرًا تستند عليه، حيث سهلت عمل الكتائب في حفر الأنفاق وقواعد إطلاق الصواريخ، والأهم من كل ذلك محاربة ظاهرة العملاء وإعدامهم، مما جعل إسرائيل تفتقد للمعلومات، مما شكل حماية حقيقية للمقاومة في القطاع.
وهنا يمكن تسجيل أن حماس عملت بعكس فتح التي تخلت عن الكفاح المسلح مقابل المشاركة في الانتخابات، فحماس التي شاركت في النظام السياسي لم تتنازل عن المقاومة، وأبقت على ممارستها بالوقت الذي يكون متاح لها تحقيقه، ففي عام 2006 قامت بخطف الجندي جلعاد شاليط وهي ترأس الحكومة، وفي عام 2011 أجبرت إسرائيل على مبادلته مقابل أكثر من ألف أسير، وفي عام 2014 أسرت العديد من الجنود الذين مازالوا رهن الأسر. في المقابل رأت حركة فتح أن المقاومة تتعارض مع وجودها في السلطة ومع التزامها في الاتفاقيات، فالملاحظ أن حماس بنت سياساتها النظرية والعملية بخلاف سياسات حركة فتح وهذا منحها التأييد الشعبي والقدرة على المناورة وتحقيق أهدافها.
بناء على ذلك، قامت حماس بمفاجأة الجميع في السابع من أكتوبر 2023، واستطاعت بكل قوة تقديم ضربة شاملة لأسس العقيدة العسكرية الإسرائيلية التي أفقدت إسرائيل ثقتها بمواطن قوتها العسكرية والسياسية، وأدت إلى انعدام ثقة المجتمع الإسرائيلي في المستوى العسكري والسياسي بالإضافة إلى مقومات الحماية الداخلية، فمع بداية المعركة التي أثبتت معادلة النصر منذ الدقيقة الأولى للسيطرة على غلاف غزة من قبل الكتائب على جميع المستويات المترابطة والشاملة استخباراتيًا وعملياتيًا ومراوغة عسكرية.
ولا مناص من القول، أن إسرائيل اعتقدت أنه يمكن الاستمرار في حصار القطاع، واستمرار الوضع على ما هو عليه مع تحسين أوضاع القطاع اقتصاديًا ببضعة آلاف من تصاريح العمل في إسرائيل، وشنطة الأموال القطرية الشهرية، وصولًا للسلام الاقتصادي، ويمكن الاستمرار في حكم فلسطين بهذا الشكل ويمكن الاستمرار بالتحكم العسكري بغزة، مع الاستمرار في ضم الضفة واستهداف الأسرى وتهويد القدس، وبنفس الوقت التطبيع مع الدول العربية من أجل إنهاء القضية الفلسطينية وصد أي محاولة للحل السياسي إلى الأبد. ولكن ثبت بالوجه القاطع أن الأمر ليس كما تريد إسرائيل، فقد قامت كتائب القسام بغزو إسرائيل بطريقة لم يتخيلها أي إسرائيلي، ولقد أثبتت الكتائب أنه من المستحيل سجن أكثر من مليوني إنسان إلى الأبد، ومن غير المقبول بقاء الاحتلال للأبد، دون دفع الاحتلال الثمن الباهظ عبر إنهاء الغطرسة واللامبالاة الإسرائيلية. فعملت الكتائب على تلقين إسرائيل درسًا لم تتوقعه في حياتها -سيارات فلسطينية تقوم بدوريات في مدنها، وراكبوا دراجات هوائية من غزة يدخلون بواباتها- قررت حماس أنها على استعداد لدفع أي شيء مقابل فك الحصار عن القطاع وإطلاق سراح الأسرى؛ ولكن هنا يبرز السؤال الجوهري وهو هل ستتعلم إسرائيل الدرس؟. فإسرائيل لم تتعلم الدرس فطبيعتها الإجرامية أخذتها إلى مربع الإبادة ومحو أحياء بأكملها في غزة، ومعاقبة القطاع دون توقف على مدار أكثر من سبعة عقود من التنكيل، وكل ما حدث في القطاع من مجازر وإبادة وتدمير ممنهج للقطاع يؤكد أن إسرائيل لم تتعلم شيئاً.
فتم الدفع نحو الانتقام من المقاومة من خلال الاجتياح البري للقطاع الذي أثبت فشله في تحقيق أهدافه، وعدم قدرة الجيش الإسرائيلي على الحرب البرية التي دفع ومازال يدفع الثمن الكبير في هذه العملية، وتم فتح العديد من الجبهات وفي مقدمتها الجبهة الشمالية وقد تتطور هذه الجبهة لحرب كبيرة، وذلك حسب رد إسرائيل على عمليات حزب الله، وكان واضحًا في خطاب الشيخ نصر الله في 13شباط/فبراير أن الجبهة الشمالية مرتبطة في الحرب على غزة في حال توقفت الحرب على القطاع سنتوقف، وإذا وسعت ورفعت إسرائيل من سقف ردودها، سيوسع وسيرفع الحزب من عملياته، وبل ذهب إلى أكثر من ذلك في الرد على تصريحات القادة الإسرائيليين بأن عليهم التجهيز لنزوح وهجرة مليوني إسرائيلي. بالإضافة إلى جبهة اليمن التي استطاعت قطع خط الإمداد البحري لإسرائيل من خلال اعتراض أي سفينة متوجة إلى إسرائيل في البحر الأحمر، بالإضافة إلى استخدام الطائرات المسيرة والصواريخ البالستية لضرب أهداف وسفن أميركية وإسرائيلية، بالإضافة إلى جبهة العراق التي قامت بضرب أهداف إسرائيلية وأمريكية في الشرق الأوسط.
وفضلًا على ذلك، تقدم وتتطور الدعم الشعبي العالمي المنقطع النظير للقضية الفلسطينية، وفي المطالبة بوقف الحرب مما شكل ورقة ضغط على الحكومات الأوروبية وعلى الولايات المتحدة التي تحاول التذرع في الخلافات مع نتنياهو، وكل ذلك ينبع من اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية ولتبريد الاحتجاجات والضغط الممارس على الرئيس جو بايدن.
لقد حصل في معركة الطوفان أكثر مما حصل في حرب أكتوبر1973، فالطوفان ضربت المنظومة الإسرائيلية وفي مقدمتها مفهوم الجيش الذي لا يقهر، الذي فقد غالبية مركبات عقيدته العسكرية المتمثلة في احتكار قرار الحرب والبدء بها والمفاجأة، والقدرة على إدارة المعارك في أرض العدو، والقدرة على التحكم بمجريات القتال، وإضعاف الجبهة الداخلية التي أصبحت ورقة ضغط على إسرائيل، وفقدت احتكار الحرب السيبرانية بعد أن تجاوزتها الكتائب واستطاعت تعطيل هذه المنظومة، وجعلت المستوطنات الحدودية والقواعد العسكرية الحدودية والحدود الآمنة عبئًا على الأمن الإسرائيلي، وبات الأمن غير قادر على توفير الحماية لها، ولعل طلبات النجدة والاستغاثة من سكان المستوطنات في غلاف غزة والشمال الفلسطيني واعتبار ما حصل معهم عار على الدولة والجيش، يؤكد على انتهاء عقيدة جيش الشعب وضرب الجبهة الداخلية وفقدان تام للثقة بالمؤسستين الأمنية والعسكرية، وهذا سيكون له ارتدادات ستطيح بالعديد من القيادات السياسية والعسكرية والأمنية، فالمطالب والدعوات التي تطالب بتشكيل لجنة تحقيق في الفشل، خلقت حالة من الخلافات ما بين المستويات السياسية والعسكرية والأمنية، فسارع كل من رئيس شعبة الاستخبارات أهارون هاليفا، إقراره بالمسؤولية عن الإخفاق في التحذير من هجوم حركة حماس على غلاف غزة، ورئيس الشاباك رونين بار ورئيس هيئة الأركان هرتسي هاليفي، ووزير الحرب يوآف غالانت، في أنهم يتحملون المسؤولية ونيتهم تقديم استقالتهم بعد انتهاء الحرب وكل ذلك سيعمل على الإطاحة في نتنياهو.
فإسرائيل التي تمتلك ترسانة عسكرية هائلة، فقدت القدرة على الانتصار على حركة تحرر مسحت مكانة ووزن إسرائيل على المستوى الإقليمي، وشطبت رهان المطبعين العرب على قوة إسرائيل العسكرية التي أصبحت وهم، وأصبحت إسرائيل بحاجة إلى من يحميها ويوقفها على أرجلها وهذا ما فعلته أمريكا وبريطانيا.
ولابد من الإشارة، إلى ما تحدث عنه الراحل محمد حسنين هيكل في حوار دار بين ضابط مصري وضابط إسرائيلي تم أسره في أكتوبر ١٩٧٣، فقد قال له المصري: لقد تغيرتم عما كنتم عليه في حرب ١٩٦٧، فرد عليه الإسرائيلي: بل أنتم الذين تغيرتم. وما زال الكثيرون منا وبتأثير من عقدة النقص يقولون بعد ما شاهدوا ما فعلته المقاومة بالجيش الأسطوري: لقد تغير الجيش الإسرائيلي، والحقيقة أن الذين تغيروا هم أبطال المقاومة الذين أعدوا للمواجهة التي سحقت الجيش الإسرائيلي، وسحب جنود الاحتلال وضباطه من فخر صناعتهم دبابة الميركافا مثل الخراف، وبنفس الوقت تم شطب هذه الدبابة التي تتميز بمواصفات تجعلها من الدبابات الأكثر تحصينًا في العالم، فتم تحويلها إلى خردة باستخدام قذائف الياسين 105.