د. عقل صلاح
أمد/ سياسة التجويع هي سياسة قديمة جديدة يلجأ لها الاحتلال دائمًا، وذلك من خلال ربط الاقتصاد الوطني باقتصاد الاحتلال وتجريد الشعب من مقومات الكفاح والصمود والإرادة. ففي الجزائر استخدم الاستعمار الفرنسي سياسة التجويع بحق الجزائريين والتي أودت بحياة عدد كبير منهم، فهذه المجاعات التي تسبب بها الاستعمار كانت أكثر فتكًا بالسكان لأنها كانت مقصودة، وتندرج ضمن سياسة إبادة الشعب الجزائري، مثل ما حدث مع مجاعة 1866-1868، حيث ذكر أحد الكتاب أن الجزائريون كانوا ينزلون ليلًا من الجبال للسرقة والنهب، لتغذية أبناءهم وانتشر في المدن الشحاذة، حيث ذكر الدكتور بوديشو ” إننا نستطيع محاربة أعدائنا الأفارقة بالبارود والنار والمجاعة”.
وهذا ينطبق على قطاع غزة المحاصر منذ سنة 2006، فقد حصد الحصار جميع مقومات الحياة الإنسانية وأصبحت حياة السكان لا تطاق، تدفع الشباب للهجرة في عرض البحر للبحث عن مستقبلهم، الذي زاد قساوة في أكتوبر 2023، فقد فرضت إسرائيل سياسة تجويع غير مسبوقة، وهذا ما عبر عنه وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، حيث فرض حصارًا كاملًا وشاملًا على غزة، من خلال تطبيق قرار بالحصار التام-لا كهرباء، لا طعام، لا وقود، كل شيء مغلق- وتواصل في قراراته لمنع وصول المساعدات. وهذه القرارات تتعارض مع القانون الدولي، حيث تنص المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية على أن إخضاع الجماعة عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً، ينطبق عليه مفهوم الإبادة الجماعية، كما تنص المادتان 55 و59، على ضرورة تزويد السكان في المواد الغذائية وأن لا تمنع الدول وصول الإمدادات الغذائية، والسماح بإغاثة السكان.
وعلى نفس المنوال، نص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والقاعدة 156 من القانون الدولي الإنساني العرفي إلى أن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني تشكل جرائم حرب، ومن ضمنها سياسة التجويع للمدنيين، وإعاقة تزويدهم بمؤن الإغاثة، وعلى الرغم من هذه المواد القانونية الواضحة إلا أن المنظمات الدولية وقفت عاجزة عن القيام بواجبها في تقديم الإمدادات الإغاثية الغذائية للقطاع، وكل ذلك يعبر عن الدعم اللامحدود من قبل العالم المتوحش والذي يكيل بمكيالين ويدعم إسرائيل بكل الوسائل العسكرية والسياسية والمالية والدبلوماسية والقانونية وذلك من خلال استخدام أمريكا “النقد الفيتو” خمس مرات لتعطيل كل المشاريع الداعية لوقف الحرب، بما فيها حرب التجويع بالإضافة إلى حرب الإبادة التي تتمثل بقتل الأطفال والنساء والمدنيين من خلال المجازر اليومية التي تمارسها إسرائيل بغطاء أمريكي وعجز دولي وتواطئ عربي. وتسعى إسرائيل من خلال سلاح التجويع لتحقيق العديد من الأهداف منها:
أولًا: التهجير من خلال حرمان شمال القطاع من وصول المساعدات الإنسانية بكافة أشكالها من مناطق الشمال وهي جريمة مضاعفة بتجويع السكان ودعوتهم للتهجير القسري. حيث اعترف وزير الحرب الأمريكي لويد أوستن، نهاية شباط/فبراير 2024، أن إسرائيل قتلت أكثر من 25 ألف امرأة وطفلًا في غزة، وعندما سئل عن عدد الذخائر التي جرى إرسالها إلى تل أبيب، قال إنه “ليس لديه الرقم الدقيق لذلك”، ليردّ عليه النائب الديمقراطي، رو خان: “أمريكا أرسلت أكثر من 21 ألف قطعة سلاح موجَّه إلى إسرائيل”. وحول الهجوم الإسرائيلي المحتمل على مدينة رفح، وتجاوز إسرائيل التحذيرات الأمريكية، أوضح أوستن أن “أمريكا توفر الذخائر والعتاد العسكري لحلفائها، وتتوقع منهم أن يستخدموا هذه الأسلحة بمسؤولية”.
وعلاوة على ذلك، نددت منظمة العفو الدولية في الأول من آذار/مارس 2024، بالمجزرة التي ارتكبتها إسرائيلي بحق الفلسطينيين أثناء محاولتهم الحصول على المساعدات الغذائية شمالي غزة، وأكدت المنظمة أن إسرائيل باعتبارها القوة المحتلة ملزمة ضمانَ حصول الفلسطينيين على الاحتياجات الأساسية والمساعدات، مشددة على أن إسرائيل تنتهك القانون الدولي وقرارات محكمة العدل الدولية لمنع الإبادة. كما أطلقت الأمم المتحدة تحذيرات من المجاعة، حيث بينت في تصريح لها أن “القصف الوحشي الذي جاء بعد الحصار الإسرائيلي غير القانوني المستمر منذ 17سنة، هو المسؤول عن الأزمة الإنسانية الكارثية في غزة”.
وفي هذا الصدد، عاقت أمريكا في نهاية شباط/فبراير 2024، إصدار مجلس الأمن الدولي ردًا على “مجزرة الطحين” التي ارتكبتها إسرائيل، حيث رفضت ممثلة أمريكا في مجلس الأمن، التصديق على الرد الذي صاغه أعضاء المجلس بشأن المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل بحق المدنيين عند دوار النابلسي بمدينة غزة. كما دعا النص إلى “تجنب حرمان المدنيين من الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية التي لا غنى عنها من أجل البقاء على قيد الحياة”، بما يتناسب مع القانون الإنساني الدولي. كما دعا إسرائيل إلى إبقاء المعابر الحدودية مفتوحة للسماح بدخول المساعدات وتسهيل فتح معابر إضافية لتلبية الاحتياجات.
أما الثانية، فتتمثل في الضغط على المقاومة من خلال تجويع الناس كي تخفض المقاومة من سقف مطالبها في المفاوضات مع الأطراف الإقليمية والدولية. ولعل الاتصال المكثف من قبل الرئيس جو بايدن بكل من أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ليس فقط للشكر والامتنان، بل من أجل حثهم على الضغط المباشر على حماس، تجاه المفاوضات القائمة على مبدأ المماطلة الإسرائيلية التي تتم بغطاء أميركي وصمت عربي، حيث لخص وليام بيرنز مدير “سي آي إيه” الهدف من التجويع هو خلق وضع مأساوي، يحتّم على أهل غزة الضغط على حماس من أجل توقيع الاتفاق، وهذا يؤكد الموقف الأمريكي الداعي لمقايضة الأسرى بالمساعدات الغذائية. وهذا ما عبر عنه رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية، من خلال دعوته العالم، وخصوصاً دول الطوق كسر حصار التجويع على شمال غزة”، وأكّد هنية في 29شباط/فبراير 2024، أنّ “الاحتلال وشريكته الولايات المتحدة الأميركية، لن يستطيعا الحصول بمكائد السياسة، على ما لم يحصلا عليه في القتال”. وهنا لابد من طرح السؤال لماذا لا تفتح المعابر، ولماذا يتم إنزال فتات المساعدات جوًا التي لا تلبي حاجة السكان، فهل هذا للتسويق السياسي لهذه الدول أم إعفاء نفسها أمام شعوبها؟
ثالثها، إبادة الشعب من خلال التجويع وتسبب المجاعة بين السكان وعدم تمكنهم من الحصول على أبسط مقومات الحياة، مما يعرض حياة السكان للخطر والموت المحتم كما حصل مع الأطفال، فقد أعلن حسام أبو صفية، مدير مستشفى كمال عدوان في 29شباط/فبراير 2024، استشهاد 7 أطفال في المستشفى بسبب سوء التغذية، مما يرفع عدد الوفيات، منذ يومين إلى 13 طفلاً. وقال أشرف القدرة، المتحدث باسم وزارة الصحة، أن عدد الشهداء جراء حرب التجويع يزداد، خصوصاً بين الأطفال، وهناك أعداد منهم في العناية المركزة مهددون بالوفاة جراء الجوع.
رابعًا، الانتقام من المقاومة ومحاسبتها على قدرتها في الميدان من توقيع الخسائر الفادحة في صفوف الجيش الإسرائيلي ولكسر صمود المقاومة والشعب الفلسطيني، ومحاولة من إسرائيل لكسر إرادة الشعب ظنًا منها باستسلام المقاومة والتسليم لمطالبها، وهذا كان ومازال واضحًا من خلال تعمد إسرائيل الإضرار بالمرافق الأساسية التي تعين في البقاء على قيد الحياة، حيث لجأت منذ بدايات الحرب لاستهداف المخابز والمطاحن، فأصبح الحصول على رغيف الخبز أمراً بالغ الصعوبة نتيجة نفاذ الطحين، وحتى إن وجد الطحين، فلا يوجد ما يكفي من المال لشرائه فقد بلغ سعر كيس الطحين ألف دولار. ولم تفارق الطفلة جنى قديح الحياة بسبب القصف، إنما توفيت نتيجة الجوع، وقد أشار المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إلى أن حالات عدة من الأطفال فقدوا حياتهم جراء التجويع، فهذه الحرب الجديدة تعد سلاح تفاوضي وضغط سياسي ونفسي على المقاومة والشعب معًا.
خامسا، المحافظة على ائتلاف الحكومة اليمينية المتطرفة التي يقودها نتنياهو والذي يعمل على تنفيذ سياسة كل من إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش اللذان يعارضان إدخال المساعدات للقطاع، واستخدام سلاح التجويع من أجل التهجير والإبادة والضغط على المقاومة من أجل إطلاق سراح الرهائن.
استنادًا إلى ما سبق، خلقت سياسة التجويع في القطاع وضعًا صحيًا متدهورًا أدى إلى ظهور أمراض عديدة قاتلة ساعدت في الإبادة مثل سوء التغذية ونقص الفيتامينات التي سببت في انهيار البنية الجسدية للإنسان الغزاوي وإصابته في النحافة والهزال، والتهاب الأمعاء، والإسهال، وفقر الدم والتهاب الرئة، كل ذلك وأكثر يعرفه العالم بجميع منظماته ومؤسساته الدولية دون تحريك ساكن، حتى عندما كان الناس ينتظرون في نهاية شباط/فبراير2024، الحصول على كيس طحين قامت إسرائيل بقصفهم مما تسبب بقتل أكثر من مئة شهيد وإصابة أكثر من ألف جريح في منطقة دوار النابلسي، وقبلها بساعات تم استهداف المدنيين الذين ينتظرون المساعدات وتم قتل العشرات من طوابير الجوعى.
في النهاية، هناك حقيقة واضحة مفادها أن كل المنظمات الدولية سقطت في الحضيض أمام هذه المشاهد والمجازر المتواصلة التي أدت لقتل أكثر من 35 ألف فلسطيني، وكل من يدعي الديمقراطية وقف داعمًا لإسرائيل بكل الوسائل وعطل وقف إطلاق النار، ومنهم من وقف متفرجًا، والدول العربية وصلت إلى عمق الانحدار، في المقابل يعمل العالم ليلًا ونهارًا من أجل إطلاق سراح 136 رهينة إسرائيلية بيد المقاومة، هذه هي ازدواجية المعايير والتلاعب في حقوق البشر فكيف يمكن تفسير وجود عشرة آلاف أسيرًا فلسطينيًا ولم يذكرهم المجتمع الدولي الذي يشاهد إبادة الفلسطينيين في القطاع، بل يبذل جهودًا متواصلة من أجل الرهائن الإسرائيليين.
وخلاصة القول، أن الشعب الجزائري لم يتم إبادته وتعافى من الأمراض ومن المجاعة وتحرر من نير الاستعمار الفرنسي الذي اندحر عن الجزائر، وفي المقابل سيندحر الاحتلال الإسرائيلي وتتحرر فلسطين وستنتصر المقاومة وسيتعافى الشعب الفلسطيني، وسيتحرر الأسرى المؤبدات.