د. أحمد يوسف
أمد/ قبل عقدين من الزمن، لم يكن يخطر ببالي أنَّ قطعة الأرض المهجورة المجاورة لمنزلي ستتحول من مكبٍّ للنفايات إلى منتزه عائلي جميل، أسهم في إعادة تأهيله للاستخدام والاستجمام والترفيه ثُلة من شباب الجيران بحي “تل السلطان”، حيث عملوا على تجهيزه ليكون منتزهاً عاماً يطيب لساكني الجلوس اللعب والتسامر به، بعدما جرى تشجيره وتعشيبه وهندسته بالحجر القدسي ليكون معلماً مميزاً ضمن معالم الحي المحدودة.
وتمر السنون هادئة على هذا الصرح الجميل، لتقع الحرب العدوانية الواسعة على قطاع غزة بعد عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر الماضي، والتي اتخذها نتنياهو واليمين المتطرف في إسرائيل ذريعة لتسويق سياسة “الإبادة الجماعية” ضد سكان القطاع، الأمر الذي فرض على مئات الآلاف من سكان القطاع للنزوح جنوباً باتجاه مدينة رفح، حيث اكتظت كلُّ المساحات الزراعية المعروفة بـ(منطقة المواصي)، وإلى جانبها معظم الساحات المفتوحة باتجاه البحر بالخيام، بغرض إيواء كلّ هؤلاء القادمين من شمال القطاع ووسطه، ولتصبح مدينة رفح، وخاصة حي “تل السلطان”، محطَ رحالٍ للكثيرين منهم.
وللحقيقة القول، إننا لم نكن نظن أنَّ مدينة رفح، التي يقطنها حوالي 300 ألف نسمة على مساحة 60 كيلو متر مربع، ستصبح يوماً موطناً لخيام مليون وربع المليون نازحٍ، مطلوبٌ من أهلها -وأغلبهم أصلاً من اللاجئين- توفير إيواء كريم لكلِّ هؤلاء، مع تسهيلات من بينها الطعام والشراب والكساء والمرافق العمومية كالمراحيض وأماكن الاستحمام ونحو ذلك، فيما البُنية التحتية غير مؤهلة لمثل هذه الأعداد الهائلة من النازحين.
أخذت الخيام تتمدد بعشوائية في كافة أرجاء المنتزه يوماً بعد يوم، وإذ به بعد أقل من أسبوعين يتحول من مركز إيواء طارئ، إلى مخيمٍ يربو قاطنيه مع الجوار إلى أكثر من 400 عائلة، تحتاج إلى كلِّ شيءٍ من مقومات الحياة.
اجتهدنا بعلاقاتنا الشخصية أن نوفِّر للمخيم “تكيِّة” للطعام، تقدم وجبتي الإفطار والغداء، مع طرود تحتوي على مواد تموينية وأخرى على ملابس للكبار والصغار، إضافة لمجموعة من الخيم التي شكَّلت عمادة الإيواء داخل المركز.
لا شكَّ أنَّ للمساعدات الإماراتية المميزة التي أشرف على توزيعها تيار فتح الإصلاحي، الذي يقوده النائب محمد دحلان والأخ سمير المشهراوي ورجالات التيار بالمدينة، كان لنا منها حصةً ونصيباً مقدراً، أسهم في سدِّ حاجة الكثير من هؤلاء النازحين، القاطنين داخل مركز الإيواء المسمى بـ “مخيم منتزه النخيل”.
لقد تمكنا بما توفر من مساعدات جلدت بها جيوب الخيِّرين من الأصدقاء في قطر والأمارات والسعودية والأردن وأمريكا وتركيا توزيع مساعدات مالية وأخرى إغاثية لجبر خواطر الكثيرين من بين هؤلاء، الذين اضطرت غالبيتهم مغادرة بيوتهم على عجل، للنجاة بأنفسهم وأولادهم من مناطق شمال القطاع، دون أن يحملوا معهم شيئاً من أموالهم وممتلكاتهم، حيث داهمهم الغزاة المحتلين من كلِّ جانب، ومن كُتب لهم الحياة منهم نجوا بجلودهم “لا قُدَّامهم ولا وراهم” أو كما نقول في أمثالنا الشعبية “يا رب كما خلقتني”، وهو ما عاظم من حجم المسؤولية علينا، بعدما انهارت معظم المؤسسات الإغاثية الرسمية والشعيبة كذلك.
ونظراً لشدة العدوان على قطاع غزة، تحركنا بسرعة كمتطوعين لتقديم المساعدات الإنسانية عبر التواصل مع أصدقائنا في الداخل والخارج، ونجحنا في جلب العديد من المساعدات التي أخذت طريقها إلى خيم هؤلاء النازحين وجيوبهم، وخاصة في “مخيم منتزه النخيل”.
لقد تمكنت من خلال ما لدينا من شبكة صداقات وتواصل مع الجميع من الحصول على عدة شاحنات تحمل أغطية وطروداً غذائية من الهلال الأحمر الفلسطيني وكذلك من مؤسسة التنمية الاجتماعية ومؤسسة الإغاثة التركية (IHH)، ومن الإخوة في تيار فتح الإصلاحي، وقد كان لهذه المساهمات الإغاثية والمالية الفضل في تحقيق حالة من الاستقرار النسبي لهؤلاء النازحين، والذين لم يكن أحداً منهم يتوقع أن تطول حالة الحرب وسياسة الحصار والتجويع كلَّ هذه المدة من الزمن، حيث لا يظهر في الأفق -حتى اللحظة- أنَّ هناك حالة انفراجٍ قريبٍ لها.
وعليه؛ فقد عقدنا العزم مع عدد من الإخوة في الحي تشكيل لجنة للإشراف عن المخيم، والعمل على مواصلة الجهد لجلب الدعم والمساعدة لهؤلاء النازحين في المخيم، وألا نتخلى عن مسؤوليتنا الوطنية والأخلاقية إلى أن تضع الحرب أوزارها، ويتم مأسسة هذا العمل الإنساني بشكل رسمي عبر جهات دولية كوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) أو صناديق دعم عربية وإسلامية وأخرى مؤسسات فلسطينية محلية يقع على عاتقها عبء التحدي والاستجابة لهذه الكارثة الإنسانية، التي لم يكن هناك من يتوقعها أو يحسب حسابها.
إنَّ “مخيم منتزه النخيل” وغيره من عشرات المخيمات التي تأوي نازحين هو اليوم أشبه بعشوائيات الضرورة التي تحتاج إلى دعم أهل الخير من الميسورين، وإلى إسناد حقيقي من المؤسسات الإغاثية في عالمنا العربي والإسلامي، للحفاظ على صمود شعبنا الفلسطيني وثباته على أرضه، فيما تبدو سياسات إسرائيل التجويعية وأساليب القتل الوحشية للمدنيين، والتدمير الممنهج لكلِّ مرافق الحياة الصحية والتعليمية والمعيشية في القطاع، بهدف إجبار السكان على التهجير القسري أو الطوعي، ودفع الغالبية منهم إلى اخلاء مدنهم وقراهم طوعاً أو كرهاً باتجاه دول الجوار. وبالرغم من الظروف الصعبة التي يعيشها هؤلاء النازحين في مراكز الإيواء المؤقتة كمخيم منتزه النخيل في حي تل السلطان جنوب غرب مدينة رفح، إلا أن روح الصمود والثبات والقدرة على التحمل ما تزال عالية، وهذا ما تعكسه حيوية الأنشطة الحركية التي عليها أطفال المخيم، حيث يمارسون طقوس طفولتهم بكل براءة ورجولة.
ومع إطلالة شهر رمضان المبارك، قام هؤلاء الفتية بجمع بعض المال وتزين مداخل المخيم وساحاته بالأضواء وتعليق بعض الفوانيس، في رسالة واضحة لأولئك الغزاة المحتلين: موتوا بغيظكم.. فنحن باقون رغم النزوح.. لن نرحل، وسنظل في وطننا صامدين حتى النصر والتمكين.