محمد المحسن
أمد/ أعترف بأنّ المقاومة..جردتني من أدواتي اللغوية والبلاغية جميعها
الإهداء: إلى الشهيد.ة.دلال المغربي في رحيلها الشامخ..
كيف يمكن للغة أن تنجو من لغوها،وهي يحك بعضها بعضا،في محاولة -بائسة-للتعبير عما انطبع وينطبع في الذات من مشاعر وخواطر،يثيرها ويركض أمامها حدث الرّوح الفلسطيني الأعظم : المقاومة؟!
كان صمودها الشامخ زلزالا،خلخل حالة الإستنفاع السياسي والإجتماعي وحتى الثقافي في الوطن العربي،وبالرغم من الإنحسار الذي أصاب”الظهير” إلا أنّ المقاومة كدينامية كاشفة وفاضحة أسقطت جملة أوهام دفعة واحدة،وهْم الشقيق اللدود،والحليف غير المأمون والإركان إلى سلام أنكى من أية حرب.
وإذن..؟
أعترف إذا بأنّ المقاومة جردتني من أدواتي اللغوية والبلاغية جميعها،ومسحت بممحاة واقعيتها كل ما حفظته من كلمات وتعابير،وما خزنته من أسماء وتشبيهات،وأوقفتني هكذا مذهولا مبهوتا،أما حقائقها العارية!
ولكن..
النّاس ينتظرون من الشاعر مثلا،أن يقول ويكتب!وهو في داخله يحس أنّ مهمته هو،دون غيره! وكأنّه راسخ في وهمه أنّ حركة التاريخ،وسيرورة الواقع،ورياح التغيير مرهونة بما سيسيل به قلمه على لوح الأقدار المكشوف،هذه المرة،لا المحفوظ !
وكأننا ما نزال ننظر إلى صراع وجودنا نظرة شاعرية،تستبدل الحركة والفعل الناتجين عن الدرس والتحليل والرصد الموضوعي،بإنثيالات عاطفية،وتهويمات مدغدغة،وبلاغات لفظية،لا تعمل على تحويل الدّم إلى حبر فحسب،بل أيضا على تحويل الشهادة إلى رمز،والألم البشري إلى مجاز،والفجائع اليومية إلى استعارات وتوريات..!
والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع:
هل تعدّ قصائد الشعراء وكتابات الكتّاب وخطابات الخطباء مشاركة في المقاومة،أم أنّها ليست سوى تعويض مرض عن العجز عن المشاركة الحقيقية فيها ؟
وبسؤال مغاير أقول:
هل من شأن هذه الكتابات أن تسهم في تحرير الأرض وإنقاذ الإنسان،أم أنّ جدواها تقتصر على تحرير ضمير كاتبها من وطأة الإحساس باللانفع،وإراحة ضمائر متلقيه من الرهق الذين يرين عليها،بسبب ما تعانيه من شلل شامل..؟!
وحين يستعمل أحدهم لغته لتصوير انطلاقة صاروخ أو نظرة غضب أو مصرع طفل أو نواح أم…
هل يكون في روعه أنّ صوره أصدق وأبلغ وأبعد أثرا من صورة الحقيقة التي رآها عيانا،أو عبر ما تبثه أجهزة الإعلام صبح مساء ؟!
إنّ مقاومة”متلفزة” لهي محظوظة بمقياس ما بالنسبة إلى سابقاتها،منذ عشرينات القرن الماضي.
لكن”التلفزة” أيضا لها أعراضها وأخطارها الجانبية،فبدا الإعلان للحظة يقتسم الجنازة على شاشة واحدة. وبدت الندوة بديلا عن أية مشاركة،وهكذا تحوّلت فروض العين إلى سلسلة لا نهائية من الإنابات والترميز،والإراحة من شر القتال !
وكأنّ الترميز تحديدا في بعده الإقتصادي كالتبرّع وتوائمه قد اختزل التراجيديا كلّها إلى مجرّد حادث سير كبير،أو نكبة طبيعية،وكأنّ الفلسطيني قد اندلع من القمقم،وطفا على دمه من أجل الخبز أو إعادة بناء بيت منسوف. إنّها حرب استقلال،تعرضت إلى تحريف،وأصبحت الآن في حاجة إلى إعادة (تعريف) كي لا تغتسل الذاكرة الآثمة بحفنة دولارات،وتحقّق التوازن الوهمي في لحظة أصبح الدّم فيها يحدّد منسوب كل شيء !
ما أريد أن أقول ؟
أردت القول أنّ الوجدان الأدبي حوّل المقاومة الفلسطينية الباسلة،إلى (ممدوح) جديد،فتشابهت المدائح حتى الشحوب،ولم ترتق إلى مرتفعات هذه المقاومة الفذّة،وفي غياب الجدل الحيوي بين المكتوب عنه والكاتب،تكون الخسارة محتمة للمكتوب عنه،لأنّه يتعرّض إلى
تنميط،واختزال،وبالتالي لا يقرأ من البحر كلّه إلا سطحه الأزرق المتموّج.
فالمقاومة مبثوثة في الأنساغ كلّها،وعلى من يبحث عن موقع بجوارها،أو في مدى توهّجها أن يعثر على مقاومته،لغة ورؤى،وأن يستغيث بها للتحرّر من المديح الذي تورّطت به الثورات العربية كلّها خلال نصف قرن !
وسيبقى السؤال مفتوحا على آفاق لا آخر لها،تنبعث فيها المقاومة كالعنقاء وهو:
أيهما أنجز الآخر؟
أيهما سينجز الآخر،الوطن أم مقاومته.؟
أم كلا الإثنين،سينجزان عربيا حرّا خطوته الأولى على هذه الأرض..فلسطينية..وكذا لبناية؟!
لهذا ولذاك نتطلّع جميعا إلى ملحمة البطولة التي تمثّلت على الأرض بالمقاومة،والتي ستتجلّى في تصحيح التاريخ بأمثولة تكتب لكل الشعوب ملحمة خالدة تقاوم الموت المتعسّف وتكشف زيف قوّة الذراع والسلاح،لتمجد ألق الرّوح الشعبية التي تكتب الشعر بإيقاع الإنفتاح على الخلود. ..
على سبيل الخاتمة:
حين أوشك الشهيد ياسر عرفات أن يغادر بيروت المحاصرة،سأله أحد الصحافيّين من غير العرب:إلى أين أنت ذاهب ؟
أجابه الرجل:إلى أين؟
طبعا إلى فلسطين.
اليوم،وفي كل موضع من الأرض المقدّسة،من البحر إلى الغور،يذهب الفلسطينيّون،بطرائقهم الخاصة،وطرقهم هم،إلى فلسطين العجيبة..
سلام هي فلسطين.
الشهيدة الراحلة عبر الغيوم الماطرة/دلال المغربي..(عروس يافا)
لروحك الطاهرة..ألف سلام..