هاني المصري
أمد/ إن التراشق الإعلامي الذي شهدناه بعد تكليف الرئيس محمود عباس الدكتور محمد مصطفى متوقع، ويذكّر بالخلاف الكبير على البرنامج المرحلي الذي بدأ منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، حين تصارع كل من جبهة الرفض وجبهة القبول على الدولة، من يوافق عليها ومن يرفضها، وها نحن بعد خمسين عامًا لم نر الحرية ولا الاستقلال لهذه الدولة.
وينذر التراشق بعودة التحريض الإعلامي المتبادل، وإذا لم يُحتوى يمكن أن يصل إلى ما لا تحمد عقباه. وهو ناجم عن استمرار الانقسام وتوسعه أفقيًا وعموديًا، الذي إن بقي قائمًا كما هو مرجح حتى الآن سنشهد المزيد من الخطوات والمواقف التي تعمق الانقسام وتستنزف الطاقات الفلسطينية في معارك داخلية تساعد الاحتلال على تحقيق أهدافه الجذرية الموضوعة سلفًا لتصفية القضية الفلسطينية، ويعمل على تحقيقها قبل السابع من أكتوبر وبعده، فلا يوجد شريك إسرائيلي للسلام حتى بحدود ما تسمى “عملية السلام” التي ماتت منذ زمن بعيد.
كما أن الاتفاقات الموقعة قتلتها الحكومات الإسرائيلية، ولكن لم تقم بدفنها حتى لا تتحمل المسؤولية عن قتلها، وحتى تستطيع مطالبة القيادة الرسمية الفلسطينية بالاستمرار في الالتزامات المترتبة على اتفاق أوسلو من جانب واحد. أما الانطلاق في المفاوضات مما أقره القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، فهذا من المحرمات الإسرائيلية التي تأكدت بعد إقرار 99 عضوًا بالكنيست الإسرائيلي رفضهم لقيام دولة فلسطينية أحادية؛ أي إن الدولة لن تقوم وتحقق استقلالها عبر المفاوضات كما جرت ويمكن أن تستأنف لاحقًا. أما المفاوضات كما يجب أن تكون؛ أي لتطبيق القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة لا التفاوض عليها، فكما هو معروف مرفوضة من التيار الحاكم ومعظم المعارضة في دولة الاحتلال، وإذا استؤنفت في المستقبل القريب سيكون الهدف الإسرائيلي منها إضاعة الوقت وفحص إمكانية ترسيم الأمر الواقع الذي خلقه الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة، على طريق إقامة “إسرائيل الكبرى”، من خلال العدوان والمصادرة والضم والتهويد والتهجير والتمييز والتطهير والفصل العنصري.
ما سبق يؤكد المؤكد، وهو أنه لا معنى للتقاتل على جلد الدب قبل صيده، وأن ليس في جعبة حكومة بنيامين نتنياهو بصورة خاصة، وإسرائيل بصورة عامة، أي عرض يمكن أن تقبله حكومة تمثل الفلسطينيين أو يقبله أي شخص أو فصيل أو قيادة تمثل فعلًا الفلسطينيين، لا “فتح” ولا “حماس”، فأقصى ما يمكن أن تعرضه الحكومة الكهانية الحالية أو أي حكومة إسرائيلية قادمة على المدى المنظور، على الأقل، أقل من الحد الأدنى المقبول فلسطينيًا، وهو سيدور على شرعنة ما هو قائم؛ أي سلطة أو سلطات حكم ذاتي محدود من دون أفق سياسي تحت الاحتلال. طبعًا، يمكن أن تتكرم حكومة جديدة في إسرائيل وتقبل أن تسميه “دولة فلسطينية”، شريطة أن تشبه من حيث الجوهر على الأقل الدولة الفلسطينية المتضمنة في صفقة ترامب التي لا تملك من مقومات الدول سوى الاسم.
الخشية التي تحز في نفوسنا من أن الإصرار على استمرار الانقسام حتى بعد حرب الإبادة، وما أظهرته من عداء للشعب الفلسطيني وقواه على مختلف اتجاهاتها ورفض حقوقه، هل لا يزال يدل على استمرار الأوهام عن إحياء “عملية السلام” أو إطلاق عملية جديدة قادرة على تحقيق ما لم تحققه السابقة، وهذا مشكوك فيه؛ لأن الرئيس الفلسطيني والغالبية العظمى من النخبة السياسية الفلسطينية تعرف تمامًا، كما صرحت مرات عدة، أن لا دولة فلسطينية يمكن أن تخرج من المفاوضات، وأن الطريق إلى الدولة لمن يريد دولة حرة ذات سيادة وعاصمتها القدس يمر أولًا بالوحدة والقيادة الواحدة على أساس إستراتيجية كفاحية متعددة الأشكال والمستويات، وثانيًا بحاجة إلى ضغط عربي وإقليمي ودولي على إسرائيل يستند إلى موقف فلسطيني فاعل وموحد يصل إلى حد قيام واشنطن بالضغط اللازم على الحكومة الإسرائيلية لـ “إقناعها” بقبول دولة فلسطينية، وهذا أمر بحاجة إلى وقت ومقاومة تخلق فيه حقائق على الأرض وتغيير موازين القوى، ويتم فيه مواصلة انهيار النظام الإقليمي والدولي القديم وولادة نظام إقليمي ودولي جديد تتزايد إرهاصاته، حتى بوصفه أحد تداعيات معركة طوفان الأقصى وما أدت إليه في المنطقة.
الحصول على الممكن أو محاولة تحسينه أو على ما يمكن تحقيقه
ما دام الرهان على المفاوضات من دون مخالب مستبعدًا فعليًا حتى من معظم منظريها، فعلى ماذا الرهان إذًا.
يمكن أن ينقسم المراهنون على كل الأطراف إلا على أنفسهم وشعبهم إلى قسمين:
القسم الأول: يرى أن على الفلسطينيين أن يقبلوا بأي شيء يمكن أن يعرض عليهم، حتى لو كان شرعنة الوضع الراهن الذي عاد فيه الاحتلال المباشر إلى قطاع غزة بعد أن عاد منذ عشرين عامًا إلى الضفة الغربية. وبالتالي، لا غضاضة في تعميم الوضع القائم في الضفة إلى القطاع؛ أي سلطة سقف التعامل الإسرائيلي معها أمني اقتصادي من دون مضمون ولا أفق سياسي. سلطة يمكن أن تسمى لاحقًا أو لا تسمى “دولة”، أو سلطتان أو سلطات تحت الاحتلال؛ أي السيطرة الأمنية دائمًا يجب أن تكون لإسرائيل، وهذا ما يتفق عليه كل من بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت وبيني غانتس ويائير لابيد ومعهم الغالبية في إسرائيل.
على صاحب هذا الرأي أن يدرك أن المفاوضات وحدها لا تحقق سوى التنازلات، والتنازلات لم ولن ولا تحقق أي حق فلسطيني، وإنما تفتح شهية إسرائيل نحو المزيد من التنازلات، وتشجعها على المزيد من التطرف.
القسم الثاني: يرى أن العالم بعد ما جرى من حرب إبادة وجرائم ضد الفلسطينيين، وما يشكله استمرار الصراع من دون حل من تهديد للأمن والاستقرار والسلام في منطقة يتمحور الصراع عليها، وتسعى أطراف متصارعة إلى السيطرة عليها كل لإيجاد شرق أوسط جديد ملائم له؛ لذا يمكن الوصول إلى وضع، في حال توفر شروط معينة أولها إفشال أهداف العدوان الإسرائيلي، يتم فيه ممارسة الضغط الأميركي والدولي والإقليمي على إسرائيل لتقبل بحل الدولتين، ولكن هذا لن يحدث فورًا وليس من المضمون أن يحدث لاحقًا إذا استمر الانقسام والضعف والعجز الفلسطيني والعربي.
لن يحدث بسبب رفض إسرائيل وعدم استعداد البيت الأبيض للضغط عليها، خصوصًا لعدم وجود ضغوط فلسطينية وعربية ودولية كافية على الإدارة الأميركية، ومع بدء الحملة الانتخابية الرئاسية، ولكن بعد حين وإذا فاز جو بايدن بولاية رئاسية ثانية، ونجح في خلق قطاع غزة جديد منزوع السلاح، وتجديد السلطة لتكون جديرة بالحصول على دولة أي أكثر استجابة للشروط الأمريكية الإسرائيلية؛ يمكن إيجاد صيغة ما من صيغ قيام الدولة الفلسطينية، أقل بكثير مما يريده الشعب الفلسطيني، كما يستدل من حديث بايدن مع نتنياهو عن أنماط عدة للدولة، منها دولة منزوعة السلاح وبلا سيادة ولا تقوم على أراضي 67 ولا على جزء أساسي من القدس الشرقية المحتلة.
يمكن أن تندرج الحكومة القادمة ضمن هذا الرهان، ولكن عليها أن تثبت ذلك، وإذا كانت كذلك عليها أن تلاحظ إن موضوع الاعتراف بالدولة الفلسطينية أولًا قد سحب من التداول أميركيًا ومن معظم دول أوروبا أيضًا، وهذا كان يجب أن يتم الإصرار عليه منذ البداية على أن يكون ضمن رؤية رسمية معلنة وملتزم بها وليس أحاديث في الكواليس من إدارة لا تستطيع إقناع نتنياهو بإعادة الأموال الفلسطينية التي تعرضت للقرصنة، فكيف سيقنعها بإقامة دولة فلسطينية، وهذا يعني أن الأفق السياسي ليس قائمًا وبحاجة إلى وحدة وكفاح وواقعية للوصول إليه.
ستخطئ الحكومة قيد التشكيل إذا وافقت على العمل من دون مرجعية وطنية وتشاور وتكامل مع القوى القائمة على الأرض، وخصوصًا حركة حماس التي قد تكون قد ضعفت عسكريًا، لكنها إن لم تكن قد قويت سياسيًا وشعبيًا ستبقى لاعبًا مهمًا لا يمكن ولا يجب تجاوزه.
وستخطئ الحكومة إذا وافقت على العمل تحت سقف الواقع الحالي؛ أي الاحتلال، خصوصًا في قطاع غزة؛ إذ يجب أن تعمل أو تأتي في سياق خطة تتضمن وقف الحرب والعدوان وانسحاب القوات الإسرائيلية والشروع في الإعمار والبناء ووجود أفق سياسي حقيقي والعمل أساسًا من أجل إنهاء الاحتلال.
أما إعادة إنتاج الخطوات والسياسات السابقة للسلطة والمنظمة التي وصلت بها إلى وضع لا تحسد عليه، ومن دون رؤية شاملة ولا خطة عملية لتحقيقها، فيقود إلى تشريع الاحتلال وليس إلى إنهائه، وستدور في المتاهة نفسها التي دارت بها الحكومات السابقة، مع حمل أثقل بكثير تنوء به الجبال، ويمكن أن تواجه بمعارضة فصائلية فتحاوية وليست حمساوية فقط إذا لم تحقق التوافق الوطني المطلوب بوصفه خطوة على طريق الوحدة، لا سيما أن الاحتلال، وليس المقاومة ولا إيران، وما يقوم به الاحتلال هو العقبة الأساسية أمام الحكومة القادمة وأمام تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني. لذا، يجب أن يركز الجميع على إزالة هذه العقبة بغض النظر على الخلافات والمصالح المتباينة.
رهان على الشعب والوحدة والمقاومة
من المفترض أن يكون الرهان على الشعب وأشقائه وأصدقائه والأحرار في العالم كله، والسعي إلى جعل استمرار الاحتلال مكلفًا لإسرائيل ومن يدعمها، من خلال الرهان على الوحدة والمقاومة المثمرة الخاضعة لإستراتيجية متفق عليها ولقيادة واحدة. هذا صعب جدًا وربما مستحيل، ولكنه ضرورة لا بد من تلبيتها إذا أراد الشعب الفلسطيني أن يأخذ مكانه في خريطة المنطقة الجديدة.
من يروج لقبول ما يعرض على الفلسطينيين من حلول استسلامية ويدعو للتضحية بحركة حماس أو لانتحارها أو لمقايضتها بالانسحاب وكأن الاحتلال تحت تصرفه، عليه أن يعرف عواقب ذلك، وهي شرعنة الاحتلال وتأبيده، وإذا أصر على طريقه لن يخشى من العمل تحت الاحتلال إلى إشعار آخر؛ حيث أصبح بقاء السلطة هو الهدف، خصوصًا أن هناك فرصة لكي تعود سلطة واحدة ولكن بلا مضمون ولا أفق سياسي، ويصبح هذا السيناريو مطروحًا إذا سقطت حكومة نتنياهو وحلت محلها حكومة أقل تطرفًا.
نعم، من صلاحيات الرئيس، ولكن
نقطة أخرى مهمة سببت الجدال الفلسطيني من جديد، وهي التصرف كأن الوضع طبيعي، بينما هو غير طبيعي بالمرة، وذلك من خلال الحديث أن من صلاحيات الرئيس وفق القانون الأساسي تكليف رئيس الحكومة، وهكذا فعل في كل المرات، والصحيح أنه فعل ذلك أحيانًا عبر توافق وطني كما حصل في حكومة الوحدة الوطنية برئاسة إسماعيل هنية، وحكومة الوفاق الوطني برئاسة رامي الحمد الله، ولم يفعل ذلك ولم يلتزم بالتوافق الوطني في حكومتي سلام فياض ومحمد اشتية.
والآن بعد مرور 19 عامًا على الانتخابات الرئاسية، و18 عامًا على الانتخابات التشريعية و17 عامًا على الانقلاب/الحسم، وحل المجلس التشريعي، وتجويف مؤسسات المنظمة إلى حد تجميدها واستدعائها فقط لمنح الشرعية على قرارات متخذة سابقًا، وبعد تجاوز القانون الأساسي المعدل من قبل الرئيس؛ أصبحت كل السلطات مجمعة في يد الرئيس خلافًا لما طالب به؛ حيث تركزت السلطة بيده وليس موزعة ما بينه وبين الحكومة ورئيسها؛ ما جعل انفراد الرئيس بالتكليف محل انتقاد ليس من حركة حماس فقط، وإنما معظم الفصائل وعناصر كادرية وقيادية من حركة فتح ونسبة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات والشعب كما يظهر في وسائل الإعلام، خصوصًا وسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما أن شعبية الرئيس تراجعت بشكل هائل خلال السنوات الأخيرة، والهوة ما بين الشعب والقيادة اتسعت، لدرجة لا ينفع تكليف رئيس حكومة وتشكيلها من دون مرجعية وطنية وصلاحيات واسعة للحكومة.
المرجعية الوطنية ليست بديلًا من المنظمة
المرجعية الوطنية ليست بديلًا من المنظمة، بل تُشكّل في إطارها إلى حين تشكيل مجلس وطني جديد عبر الانتخابات أساسًا، والمرجعية ليست بديلًا من القانون الأساسي للسلطة، فلا بد من الاتفاق على المشروع الوطني السياسي للمرحلة، وعلى دور المنظمة والسلطة، عبر نقل المهمات السياسية من السلطة إلى المنظمة لكي تؤدي دورًا إداريًا خدميًا، وتصبح المنظمة قولًا وفعلًا شعبيًا وليس فقط قانونيًا الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
على أساس ذلك يكون التوافق الوطني والمرجعية الوطنية للحكومة القادمة، ليس مثلما كان الأمر سابقًا؛ أي كانت تشكل الحكومة على أساس نظام المحاصصة الفصائلي، وخصوصًا المحاصصة الثنائية، بل يجب وضع أسس ومعايير لتشكيل الحكومة أساسها توفر الخبرة والكفاءة والإخلاص والانتماء الوطني والتمثيل الجندري وإعطاء قطاع غزة حقه الكامل لكي ينهض بأسرع وقت ممكن، ولا يجب أن تعني المرجعية الوطنية لحكومة التكنوقراط استبدال ممثلي الفصائل بوزراء تختارهم الفصائل من المقربين لها والمحسوبين عليها، بل لا بد وحتمًا اختيار أصحاب الكفاءات الوطنيين الذين يعطون الأولوية لمصالح الشعب وحاجته، وليسوا بالضرورة من الموالين أو المحسوبين على الفصائل، وليس أيضًا لمطالب الداعمين والمانحين والمحاور المختلفة.
لا يمكن تجنب انهيار الكيان الوطني وعودة الوصاية من دون ترتيب البيت الفلسطيني، ولا يمكن أن يكون هناك إصلاح وتغيير حقيقي إذا استمر كل من السياسة وآلية صنع القرار على حالهما، وكذلك إذا بقي متخذ القرار شخص واحد.
أما بالنسبة إلى كلفة الحرب وحساب الربح والخسارة والتساؤل هل يستحق طوفان الأقصى كل هذا الثمن والتقييم والمراجعة والمحاسبة، فليس وقته الآن، ما دامت حرب الإبادة مستمرة والأخطار المتعددة بما فيها خطر التهجير قائمة. فمن العار التطاول على من لا يزال يقاوم حتى لو أصاب أو أخطأ، فهناك حاجة إلى مراجعة عميقة واستخلاص الدروس والعبر الذي لن يكون من ضمنها تبرئة الاحتلال عما جرى ولا يزال يجري.