محمد المحسن
أمد/ قد لا أجاتب الصواب إذا قلت أن الحرب انفجرت،وتوسعت،اشتد سعيرها، وضربت مدناً،ومرافئ،ومفاعل، وشردت ملايين،وعبأت دولاً،وأبكت ثكالي ومكلومين،وباتت بالتالي تقسّم الكتل الدولية،بشكل يعيد عالم القرن الـ 21 إلى انقسامات المحاور لما قبل الحربين العالميتين في القرن الـ 20.ولكن ما نراه على شاشات التلفزة ليس كل ما هو وراء الأحداث المتفجرة والمتلاحقة من روسيا إلى حدود الأطلسي.
والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع:
ما الذي يجرى مع المجرى قرب الضفاف..؟
المحللون ودوائر الاستخبارات في الغرب والشرق منقسمون بالرأي حول ما الذي أدى إلى الحرب،الموقف الأطلسي العام يتهم قيادة الرئيس فلاديمير بوتين بالتخطيط لاجتياح أوكرانيا منذ سنوات، على أساس “هدف تاريخي” وهو إما استرجاع حدود الاتحاد السوفياتي، وإما إعادة إحياء الامبراطورية القيصرية الروسية.ويضيف الإعلام الأميركي والأوروبي أن بروز بوتين بعد عقد من انتهاء الحرب الباردة كان بمثابة رد فعل “للدولة العميقة” في موسكو ضد توسيع “الناتو”،وخسارة الجهوريات السابقة، وحتى أوروبا الشرقية، ويتهم الغرب الرئيس بوتين بأنه وجه أجهزته لزعزعة الشق الشرقي للحلف الأطلسي منذ قدومه إلى السلطة، ويشيرون إلى حربه ضد جورجيا في 2004،واجتياحه القرم في 2014،ودعمه منطقة دونباس الانفصالية،ونشر عدم الاستقرار في الدول الأوروبية والتدخل في سوريا في 2015.
وفي المقابل:
ترد موسكو،وأصدقاؤها في العالم،أن بعض الدوائر الغربية وأجهزة “الناتو”، و”الدولة العميقة الأطلسية” هي التي عملت على ضرب روسيا لإخضاعها لمشيئة الغرب ومصالحه الاقتصادية،ويضيفون أن الأميركيين والأوروبيين دفعوا باتجاه توسيع “الناتو” شرقاً على الرغم من وعودهم أن الحرب الباردة قد انتهت، فنقلوا قواتهم تدريجياً إلى دول أوروبا الشرقية وبدأوا ينصبون الصواريخ فيها..
وكان السؤال في موسكو:
إذا فعلاً انتهت الحرب الباردة،لماذا هناك صواريخ وسلاح استراتيجي غربي ينصب من إستونيا إلى رومانيا؟
النقاش امتد إلى واشنطن بين معسكر داخل الحزبين، لا يزال متمسكاً “بمواجهة الروس” وتمديد حرب باردة ضد “أجندة سوفياتية لم تنته”، ومعسكر من الانعزاليين (Libertarians) يتهم “نخبة اقتصادية حاكمة” بأنها تحمل أجندة شمولية Globalist تهدف إلى ضرب القوميات واستبدالها بهوية مصطنعة مالية، ويتفاقم الصراع الفكري في الغرب بين المدرستين، فينظّر “الليبراليون الجدد” بأن زعماء مثل دونالد ترمب وبوتين هم يؤججون القوميات المتطرفة، بينما يرد أخصامهم بأن مؤسسات كالاتحاد الأوروبي، و”الناتو”، والبنك العالمي هي بتصرف “النخبة العالمية المدمرة للوطنيات المستقلة”، والمفارقة أن حرب أوكرانيا أصبحت ساحة مصارعة بين المدرستين المتناطحتين داخل الغرب:
معسكر يعتبر أوكرانيا ضحية لمخطط بوتين للهجوم على الغرب،ومعسكر يعتبر أوكرانيا رمحاً موجهاً إلى روسيا من قبل الغرب.
وإذن؟
بدأ يتضح إذا،من التطورات أن للمعسكرين حدوداً يصعب تخطيها مع الزمن. ولكل طرف نقاط ضعف وقوة.على الصعيد العسكري البحت سيكون الوضع صعباً، إن لم يكن مستحيلاً أن يكسر الجيش الأوكراني بمفرده، ومن دون دعم خارجي مباشر، القوات الروسية، ويدفعها خارج الحدود، إلا إذا حصلت تطورات داخل روسيا،وفي الوقت نفسه،يبدو صعباً على روسيا أن تحتل و”تهضم” كل أوكرانيا إلى الأبد،فالمقاومة الأوكرانية في مناطق غير ناطقة بالروسية،ستكون مستمرة بمساعدة غربية.لذا،فللطرفين حدود عسكرية معينة.
ولكن..(دوما في تقديري):
ليس السبب الرئيسي من وراء الأزمة وتوجه روسيا لغزو أوكرانيا هو سعي أوكرانيا للانضمام إلى الناتو فقط، انما هو التوجه الأوروبي لإنهاء احتكار روسيا لصادرات الغاز الى القارة الأوروبية، وزيادة فرص صادرات الغاز لدول أخرى شرق اوسطية فالهدف من الحرب يرتبط بإمدادات الغاز إلى أوروبا.
فأي مساعي لحل الازمة لمنع اشتعال الحرب بين الدولتين الجارتين- مع أن فرص نجاحها ضئيلة-بالطبع فإن الحلول ستحدد إلى حد كبير خريطة تجارة الغاز الطبيعي في العالم لعقود قادمة وضمان تأمين الدول ذات العلاقة بمشاريع امدادات انابيب الغاز لحصتها في السوق العالمية لتجارة الغاز الطبيعي.
فالموضوع كبير ومتشعب وقد يقود إلى حرب فعلاً لتداخله مع مصالح اطراف الصراع القائم في دول الشرق الأوسط وقد يرتبط بمساومات في الملف النووي وفي الأيام القادمة ستتضح الحقائق وتتكشف خفايا الصراع الذي يدور حول انابيب الغاز.
ويبقى التساؤل يبحث عن اجابة حول تأثير تطورات الأزمة الروسية الاوكرانية على أوضاع الدول الشرق اوسطية المرتبطة بمشاريع امدادات الغاز وتصديره إلى أوروبا، وأوضاع البلدان التي تشهد صراع وحروب ما بعد تفجر ما يسمى-تعسفا على الذكاء الإنساني-” بثورات الربيع العربي.”!!
سنة كونية:
إن سنة التدافع بين القوى العظمى هي سنة كونية، قال تعالى: “ولولا دفع الناس بعضهم لبعض لفسدت الأرض” (سورة البقرة: 251).
وهي سنة لإعادة الاتزان بين البشرية حتى لا يعم الفساد في الأرض ويخرب العمران وتفسد الحياة، لكن من المهم أن تستغل دول شعوب المنطقة العربية فرصة التدافع لاستثمارها في صيانة عمرانها ولتقليل مخاطر وآثار الحروب ودمارها على البشرية.
فهي فرصة لو أحسنت استغلالها النظم السياسية العربية والشعوب والنخب والمؤسسات في تفعيل تضامن لمعالجة حالة الكارثة الغذائية المتوقعة في مناطق الصراع في المنطقة العربية والمناطق الفقيرة، وتأسيس صندوق إغاثي خليجي لهذا الغرض وإعانة الدول الضعيفة واستثمار هذا المال في سلة استثمار غذائية في بلدان زراعية،كالسودان ومصر واليمن والصومال وغيرها،ولسد ثغرة انقطاع السلاسل الغذائية المتوقعة.سيما في ظل الأمعاء الخاوية.
والسؤال الذي أختم به:
من سيستولي على أكبر رقعة،وبخاصة الساحل؟
في تقديري سيكون المنتصر الاستراتيجي نسبياً، القوات الروسية ، إذ يبدو أنها حققت أهدافاً أساسية، وهي إقامة “جمهوريات الدونباس”،والامساك بـ “آزوف” وبمعظم الساحل والقرم، أضف إلى ذلك،جيوباً في الشمال، وتطويق العاصمة.بهذه المناطق،وصلت موسكو إلى مبتغاها..
خبراء روس يعتقدون أن لروسيا -بضعة-أشهر من القدرة اللوجستية والمالية،قبل أن يجبرها الضغط الاقتصادي أن تتوقف عن الزحف وتتفاوض،إذا اعتبرنا أن أميركا احتاجت إلى شهر كامل لتحتل العراق،هذا يعني أن لموسكو وقتاً عسكرياً كافياً، ولكن وقتاً اقتصادياً أقصر.فالخسائر المالية العميقة ستبقى حتى الحل النهائي للصراع،ولكن يمكن اعتبار أن الهدف الروسي الحد الأدنى “اللاعودة عنه” قد اكتمل تقريباً،إلا أن التحدي الاستراتيجي الكبير أمام موسكو هو تحدي الأرض.فروسيا قادرة على التقدم ميدانياً،ولكن عليها أن تتوقف في مكان ما،والتحدي هو أن ما يتبقى سيحدد قدرتها التفاوضية،وقد يحدد أيضاً قدرة باقي أوكرانيا أن تصمد وأن تشن هجوماً معاكساً في يوم آخر.
فهل..ما زلنا في بداية هذا الصراع..؟!