د. عزالدين عناية
أمد/ كشفت حالة الفوران التي تشهدها الظواهر الدينية عن تخبّط في الوعي بحقل المقدّس وقضاياه في البلاد العربية.
وهو تخبّط يعود في عمقه إلى عدم تطابق أدوات المعرفة مع حقل المعرفة. حيث يستحضر “العقل الخامل” أدوات معرفية لاغية أو محدودة الأثر، متوهّماً قدرتها على فهم “الكائن المتدين” وحلّ إشكالياته العصيّة. فما الذي فات الدارس العربي ليلج طور الحداثة في فهم الدين والتحكم بتشظيات المقدّس والإحاطة بتحولاته؟
المنهج اللاهوتي والمنهج العلمي
بدءاً يتلخّص الإسهام العلمي للمناهج الحديثة في دراسة الظواهر الدينية، وِفق ما أوضحه الفرنسي ميشال مسلان في كتاب “علم الأديان” (مشروع كلمة، 2009)، في التركيز على متابعة العلاقة الأفقية وتخطّي العلاقة العمودية في علاقة “الكائن المتدين” بالمقدّس. بوصف علم اللاّهوت هو علم معياري سياقاته مشروطة بمدى ما يتمتّع به الإيمان من صدق… ذلك أن المقاربات اللاهوتية تجيب عن سؤاليْ: ما الواجب علينا الإيمان به؟ ولماذا ينبغي علينا الإيمان بذلك؟ في حين يهتمّ علم الأديان بكلّ ما هو معتقَد من قِبل البشر. وبذلك يكون علم الأديان جملة القواعد والضوابط العامة -التي تحضع لها التجربة الدينية، تجربة الإنسان مع المقدّس- المستمدة من العلوم الاجتماعية والإنسانية.
ولتتّضح معالم النهجين، أعود إلى التطرق إلى خاصيات مجالات اللاهوت، أو لنقل “العلوم الشرعية” بصيغة إسلامية. فهي علوم على صلة بلحظة مفارقة غير تاريخية، تُعبّر عن وجهة نظر المؤمن “الداخلية”. حيث أن أصل كلمة “teo-logia” إغريقي، وفي مدلولها العربي تعني “خطابا حول الله”، هو في الواقع خطاب حول ما لا عيْنَ رأت. حيث ينصبّ اهتمام علم اللاهوت على دراسة القضايا الفقهية والمسائل التشريعية، وضبط قواعد الاستدلال بشأن الغيبيات، عبر تأصيل الأحكام وتقعيد الصلات بين العبد وخالقه، بغية تقديم نظام أخلاقي دنيوي، في وصال مع ما يتصوّر المؤمن أنه الحقيقة المطلقة. أي ضمن أي السُّبل يتحقق الفلاح الدنيوي والخلاص الأخروي.
المناهج الحديثة ضمن السياق العربي
لو عدنا إلى أوضاع التوتر التي احتضنت المناهج العصرية، لتبيّنَ لنا حدّة تأثير الصراعات على السياقات العلمية، لا سيما في فرنسا إبان الثورة. مع خفوت ذلك التوتر في أوساط أخرى ساهمت في منشأ تلك المناهج، مثل الأوساط البروتستانتية. وعلى العموم ثمة تقليدان في معالجة الظاهرة الدينية من منظور علمي، أحدهما فرنسي “Sciences religieuses”، والآخر ألماني “Religionswissenschaft”. ترافق منشأ الأول مع غلق كليات اللاهوت التابعة للدولة في فرنسا (1885) وتدشين قسم العلوم الدينية في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا. إذ جاء تدريس “تاريخ الأديان” في فرنسا، في 24 فبراير 1880، تعبيرا عن قطيعة مع تدريس اللاهوت في الجامعة الفرنسية.
ولو تمعنّا أوضاع الدراسات الدينية العربية نلحظ هزال الأدوات العلمية في فهم الظواهر الدينية. إذ نجد المقارَبة الإيمانية (المقاربة الشرعية)، هي المهيمنة على النظر. ولا تزال المعالجة للدين وللكائن المتديّن مطروحة، على الوجه الأغلب، ضمن رؤية داخلية، ولا يمكن الحديث حتى الراهن عن خطّ منهجيّ تاريخيّ أو سوسيولوجيّ أو أنثروبولوجيّ. فالمبادَرات فردية ومحدودة ولا ترد ضمن تراكم علمي وأكاديمي في دراسة الظواهر الدينية. وأبرز مظاهر هذا الوهن، ما يطفو من خلط في المصطلحات المتعلقة بدراسات الأديان والدراسات اللاهوتية في اللسان العربي لدى كثيرين، مثل عدم التفريق بين علم اللاهوت وعلم الأديان، وتاريخ الأديان ومقارنة الأديان، وعلم اجتماع الأديان وأنثروبولوجيا الأديان. حيث لم يطوِّر الدارس الانفصال المطلوب، فضلا عن حالة التقمّص الحاصلة مع المعتقد الذاتي. لكن رغم ما هو سائد، لا يعني أن تحقيق الانفصال متعذّر، فبلوغ النضج المعرفي في العقل الديني، هو رهين وعي الدارس بالبنى الاجتماعية التي احتضنت تلك العلوم بشتى تفرعاتها.
إذ ينظر علماء الاجتماع إلى الدين اليوم بمثابة مؤسسة، تطوّرت بموجب حاجة اجتماعية. والمسار الذي يتبعه هؤلاء العلماء يتمثّل في تتبّع التواشج بين البنى الاجتماعية والسلوكات الدينية، بقصد تسليط الضوء، من جانب، على الاعتقادات الدينية، إن كانت -بشكل ما- مشروطة بالنظام الاجتماعي، ومن جانب آخر، لرصد الآثار العمليّة للدين في النظام الاجتماعي. هذا وقد ظهر علم الاجتماع الديني كمحاولة لفهم دور الدين في هندسة المجتمع، وحافظ على ذلك الاهتمام ضمن دراسة آثار سياقات التديّن.
والأمر ذاته يتعلق بالأنثروبولوجيا الدينية. فمع الرواد الأوائل إدوارد تايلور وجيمس جورج فريزر تركّز الاهتمام في دراسة الأديان البدائية، وتمحور الانشغال حول أصول الدين وتطوراته. وهو ما جرى هجرانه لاحقا نحو أسئلة اجتماعية مع برونيسلاو مالينوفسكي وإيفانز بريتشارد، إبان فترة ما بين الحربين، هدفت إلى تتبّع الوظيفية السوسيولوجية الدوركهايمية، أي الوظائف التي يتخذها الدين في علاقته مع مختلف المؤسسات الدينية والممارسات الاجتماعية. والجلي في خضمّ هذه التحولات أنّ مناهج قراءة الظاهرة الدينية في الزمن المعاصر ما عاد يشغلها سؤال المنشأ، أعني منشأ الشعور الديني أو منشأ الاعتقاد، وأضحى الهاجس يحوم حول “الإنسان المتدين” وبالمثل “الإنسان غير المتدين” داخل تفاعلات التاريخ الراهن، إذ ثمة إعادة ترتيب للأولويات.
وفق هذا التمشّي يجرّنا الحديث عن الظاهرة الدينية إلى إدراج الموضوع ضمن إطار عامّ ألا وهو “الظواهرية الدينية”، بوصفهِ الإطار الأشمل والأوسع لاختبار الظواهر. إذ يعود مصطلح “ظواهرية الدين” إلى الهولندي بيار دانيال شانتبي دي لا سوساي، مدرِّس تاريخ الأديان في جامعة أمستردام مع أواخر القرن التاسع عشر، في كتابه: “مدخل إلى تاريخ الأديان”. فأمام إدراكه أنّ مقصدَ الظواهريّة لا يقتصر على متابعة العينيّ والمرئيّ، أي ما يظهر إلى العلن، جرى تفريعُ الانشغال إلى ضربين أساسيَيْن: “الظواهرية الدينية الوَصْفيّة” و”الظواهرية الدينية الفَهْميّة”، وهذه الأخيرة هي ما حاول فان دير لاو تأسيسها، معتبرًا أنّ المكوث عند التقرير الوصْفي، دون الولوج إلى غور الظواهر، يُبقي الدارس في حيز وصف الظاهرة الدينية دون فهمها. وبالتالي السؤال العميق المطروح أمام الظواهرية الدينية هو سؤال الفحوى والدلالة في شأن معنى الظاهرة. إذ لا يفي بالغرض رصدُ الحالة وتوصيفها، ما افتقر الحدث إلى تأويل ومعنى. وفي اللسان العربي كلمة الظاهرة هي ترجمة مستوحاة من الإغريقية (phainomenon)، التي تعني حرفيّا ظاهر الشيء، والمصطلح كما هو مخاتل في اللغات الغربية، هو بالمثل في العربية.
فحين نتطرّق إلى الظاهرة الدينية كمَلْمح من ملامح تجربة التديّن، نحن لا نتحدّث عن “المقدَّس” كجوهر مفارَق، ندرك طيْفه الجليل والساحر والمهيب ولا نعاين أثره، كما بيَّن رودولف أوتّو في كتاب “المقدّس”؛ ولكن نعمل جاهدين على حصر الرصدِ والبحثِ في عنصر محدّد. بيْدَ أنّ المسألةَ التي نعالجها لا تتعلّق بمنهج الظواهرية ومدى وُعوده وإمكانياته، وإنما يأتي توظيف الأمر لغرض التوضيحِ في سياق حديثنا عن سُبل فهم “الحدث الدينيّ”، “التجلّي الدينيّ”، “الظاهر الدينيّ”، “الواقع الدينيّ” المتعلق بالأديان. فـ “عالِم الدين” بمفهومه الحديث يعيد الظاهرة الدينية إلى جذور دُنْيوية، وبإيجاز يسعى إلى تناول الظاهرة الدينية بمثابة واقعة منزوعة القداسة؛ في حين عالم الدين بمفهومه الكلاسيكي فهو يعيد الظاهرة الدينية، في جانبها “الإيجابي”، إلى قوّة مفارِقة، وما خالَف منها النظرة الإيمانية إلى النفس الأمّارة بالسوء، وإلى الزيغ والهوى، وإلى وساوس الشيطان، وما شابه ذلك.