أمد/
ثمانية قرون مرَّت على وفاة العالم والفقيه والفيلسوف التنويري العربي المسلم، ابن رشد، والمولود في قرطبة عام 1126، وما زال السؤال يدور، حول حقيقة وأسباب «نكبته» أو محنته، وما قيل عن محاكمته وحرق كتبه، وهل هي لأسباب تتعلق بانفتاحه على الفلسفة وعلم المنطق، واجتهاداته الفقهية، التي قيل إنها استفزَّت «التطرف الديني»، أم إن محنته تعود إلى أسباب سياسية، وصراعات داخلية ذات صلة بأزمة الدولة العربية الأندلسية في تلك المرحلة، وربما إلى شيء آخر مرتبط بمضمون كتابه «الضروري في السياسة» الذي انتقد فيه «مدينة الغَلَبة» والتسلط والاستبداد.
يُروي المرحوم الدكتور محمد عابد الجابري، في كتاب له صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت بعنوان «ابن رشد.. سيرة وفكر»، قصة محنة ابن رشد، من خلال مراجعته لكتاب «الضروري في السياسة» الذي ألّفه ابن رشد في عام 588 هجرية، بناء على طلب من شقيق الخليفة يعقوب والملقب بالمنصور، والذي كان مريضاً وقتها، وقد انتقد فيه الدولة الاستبدادية التسلطية، كنقيض للمدينة الفاضلة، وأدان ما آلت إليه الدولة من فساد، كما انتقد «السفسطائيين» القائمين على أمور الدولة، والذين يعارضون كل ما هو جميل كالفلسفة وغيرها، ويستحسنون كل ما هو قبيح، وكل الشرور المدنية الواقعة في المدن الأندلسية، ويطفئون أنوارها، ويذمّون الحكمة، وفقاً لما ذكره الجابري، نقلاً عمَّا ورد في كتاب ابن رشد المذكور.
عاش ابن رشد، والقادم من أسرة فكرية واجتماعية وسياسية مرموقة في المجتمع الأندلسي، في حظوة وتكريم في عهد الخليفة عبدالمؤمن، وولده المتنور أبي يعقوب يوسف، وكمرجعية علمية، وكطبيب مستشار، وتولى القضاء في إشبيلية وقرطبة، وألّف العديد من الكتب في حقول التعليم والفقه والعقيدة والفلسفة والعلوم والأخلاق، كما لخص وشرح كتب أرسطو، وقدم رؤى نقدية لفلاسفة سبقوه من أمثال الفارابي وابن سينا والغزالي، وجمع بين استيعاب التراث العربي الإسلامي، وتمثُّل الفكر الإنساني، وعبّر بشجاعة وموضوعية وحكمة عن رأيه النقدي للأوضاع السياسية التي كانت سائدة في السنوات الأخيرة من عمره، وخاصة في زمن الخليفة الملقب بالمنصور الذي أمر بإحراق كتب المذهب المالكي، ولم يستجب لنداء صلاح الدين الأيوبي الذي طلب عونه لمقاومة الغزو الصليبي في فلسطين، ولكن أسوأ ما في سيرة هذا الخليفة أنه حاكم ابن رشد وحرق كتبه، وفرض عليه الإقامة في قرية قريبة من قرطبة، وفي ظل صراعات بين الموحدين والمرابطين وتدخلات الإسبان.
قبل نحو ربع قرن، قدَّم المخرج المصري يوسف شاهين للسينما العربية فيلماً أسماه «المصير» تدور أحداثه في الأندلس، خلال القرن الثاني عشر الميلادي، وتم تصوير الفيلم في مناطق أثرية في سوريا، ومنها المسجد الأموي، وقلعة حمص، وفي جبال لبنان. وتم تقديم ابن رشد في الفيلم كشخص مولع بالرقص واللهو والابتذال، أكثر مما هو مدافع عن الفلسفة والكلمة الحرة، كما قدَّم أصدقاء ابن رشد كأشخاص تتحكم فيهم شهواتهم، بما فيهم ابنته كصاحبة غراميات، وليست ناسخة لأعماله، وأظهر أسرته كأسرة منحلة من التقاليد، كما صوَّر فقهاء زمانه مجرد أناس دمويين.
أخطأ المخرج وكاتب سيناريو الفيلم في حق سيرة فقيه قرطبة وفيلسوفها، وصاحب فضيلة وعلم وأخلاق.. وحينما تحولت أجزاء من الأندلس إلى «مدينة غلبة عسكرية واستبدادية»، كما وصفها ابن رشد، شعر هذا الفيلسوف بأنه بات يعيش بين «وحوش ضارية»، وفقاً لما ذكره الجابري، فلا هو قادر على أن يشاركها فسادها، ولا هو يأمن على نفسه منها، ففضَّل عيش العزلة منصرفاً إلى العمل في مشروعه الفلسفي والعلمي والأخلاقي والتنويوي.
أتحسّسُ ريح ابن رشد كلما ارتحلت إلى قرطبة في زيارة أو مشاركاً في مؤتمر، أقف متأملاً عند بواباتها ومسجدها الذي تحول إلى «كاتدرائية» في القرن الثالث عشر الميلادي، هذه المدينة المدهشة والجميلة التي كانت الأولى في العالم التي قضت على الأمية يوم كانت لندن مجموعة من الأكواخ على جانبي نهر «التايمز»، وكان ملوك إنجلترا والشمال الاسكندنافي يبعثون ببناتهم الأميرات إلى مراكز العلم والصناعة والموسيقى «والإتيكيت» في إشبيلية وقرطبة وغرناطة. وكان رجل الشارع الأندلسي يعرف القراءة والكتابة، ويتردد على المكتبات العامرة بالكتب والترجمات والمخطوطات، في الوقت الذي كان فيه كثير من ملوك أوروبا أميين.
نعم، كانت قرطبة عاصمة الدنيا رقياً وتعايشاً دينياً فريداً، ومن أسف، فقد أوهنت عزائم قادة قرطبة ملذات الدنيا وترفها، ولم يتعلم بنو أمية مما حدث لهم في الشرق.
…
في كل مرة أزور قرطبة، أحرص على عبور القنطرة الحجرية الموصلة إلى ضفة النهر الأخرى، أتطلع إلى أسوار قرطبة وبواباتها، وأتوقف أمام تمثال الفيلسوف اليهودي موسى ابن ميمون، ابن الحضارة العربية الإسلامية المنفتحة على الحضارات الإنسانية والذي لم يكتب مؤلفاته إلا باللغة العربية، ثم أنتقل إلى شارع مجاور لإحدى بوابات قرطبة، وأقف مطولاً ومتأملاً أمام تمثال ابن رشد، صاحب الفلسفة الرشدية، التي هيمنت على الفكر الأوروبي حتى القرن السادس عشر، وعلّمت أوروبا كيف تقرأ أرسطو في بناء هويتها الفلسفية.
سمَّوه في أوروبا «أفيروس» لعلهم يريدون تحويله إلى شخصية فلسفية بلا ملامح ثقافية وتجريده من هويته التاريخية العربية الإسلامية.
سألت مرة صديقاً أكاديمياً إسبانياً عن تاريخ بناء تمثال ابن رشد، فعلمت قصة طريفة مفادها أن مفكراً مصرياً هو المرحوم عبدالرحمن بدوي كان يزور قرطبة في أواسط الستينات من القرن الماضي، وكتب رسالة إِلى رئيس بلدية قرطبة، معرباً عن دهشته لعدم وجود تمثال لفيلسوف قرطبة الأشهر في التاريخ، في حين أن هناك تمثالاً لموسى بن ميمون، وهو أحد تلاميذ ابن رشد، وقد استجاب رئيس البلدية لهذا الطلب وتم بناء التمثال في العام التالي.
……
مع العلماء والحكماء والمفكرين، تنبت لنا أجنحة، فنروِّض الريح، ونفتح الأفق، ونغادر جداول الحياة لنمضي مع نهر المعرفة. هناك دوماً رؤية أخرى.