بكر أبو بكر
أمد/ أن تجد تجمعًا يضم سادة العرب فهذا لعمري مما يثلج الصدر. وسادة العرب في هذا الدهر هم المفكرون والمثقفون والكتاب والمختصون والعلماء، بل وكل إنسان يجعل من عقله ركوبته، ولا يجعل من هواه مركبًه كما لا يدع انفعالاته وهيجان روحه هي الحاكم لأفعاله.
مفهوم العروبة والقومية العربية الرحبة هذه الأيام تختلف عما كانت في أواخر القرن العشرين تأثرًا بمفهوم القوميات الثوري الذي ساد منذ القرن 19 خاصة في أوربا التي نفضت عن كتفيها آثار دهور من التخلف والاقتتال.
أوربا المظلمة والاستخراب
جمعت أمم أوربا في شخصيتها لمئات السنين بين العنف الداخلي المرير وانحدار التفكير العلمي، وساد الاقتتال لزمن طويل بين قومياتها، والانصياع لظلامية كنيستها المرعبة آنذاك. ثم سارت في مركب الاستعمار (الاستخراب) ونغمة تسيّد أوربا العنصر الأبيض البغيضة والتي أودت بحياة الملايين من الذين استخربت بلادهم.
فكرة القوميات في أوربا الثائرة فصلت بين الفكر الامبراطوري التوسعي داخل أوربا العنيفة والمتحاربة، والخاضعة لأطماع سادتها، وكهنتها عبر مسار طويل لم تكن بدايته بالثورة الفرنسية فقط، وإنما بالثورة على نهج كنيسة غربية قتلت العلم والعلماء، وحرمت التفكير.
الثورة في أوربًا (لأجل أمم أوربا ) بداية من الفرنسية صدّرت شعارات الحرية والإخاء والمساواة ما انعكس بالداخل الأوربي وقومياته، ولكنه للأسف امتنع عن تصدير شعاراته الى المستعمرات، بل تحقق الفصل الأعمى اوالنظرة ذات الوجهين بين ما يمثلونه كعلوّ وتفوق أبيض عنصري بغيض وبين أمم احتلوها واقتسموها حين اعتبروها متوحشة أو أقل من البشر.
تطور الفكر الاوربي بعد أن أزال قيود الكنيسة والاحتراب الداخلي ضمن شهوة الاستخراب (الاستعمار) لتصبح فكرة “الهيمنة الاوربية” العنصرية ثم مع دخول أمريكا “الهيمنة الغربية” هي الغاية العظمى، وهذا الأمر مازال قائمًا رغم الادعاءات بغير ذلك، ورغم لافتات حقوق الانسان التي لا تجدي نفعا بالحقيقة مع بقاء بل وشرعنة الهيمنة الغربية وتسييد اقتصادها، وثقافتها على دول العالم.
فكرة القوميات أتاحت للمواطن الأوربي أن يكسر المحرمات الكنسية للعلم والتفكير والمحرمّات البرجوازية بالطبقات، وأخرجت مباديء سامية حقًا رغم العرج في تطبيقها خارج أوربا، أي أنها بقيت خاصة بشعوب وقوميات القارة العجوز.
القوميون العرب والجوامع
إلا أن فكرة القوميات بسياقها الإيجابي عكست نفسها على الوطن العربي-الذي احتلته واقتسمته أمم أوربا الاستخرابية بعد الحرب العالمية الاولى- وأعادت للأمة العربية بهاء كان ممثلًا لحقيقة الإزدهار الفكري والثقافي والعلمي والعمراني..الذي عاشتته الأمة لأكثر من ألف سنة.
الفكر العربي والذي لطالما حمل الرسالة الخالدة الممثلة بالإسلام العظيم وكما ذكر ميشيل عفلق، وباحترام كافة معتقدات أمة اللسان العربي كان فكرًا منفتحًا ومرنًا ومرحابًا لذلك ضم كل الجنسيات والقوميات الأخرى في بطنه دون صعوبة أو تحيز أو تمييز. والتمييز ضد الآخر هو ما كان سِمَة الغرب الهمجي خاصة في عصور أوربا الوسطى المظلمة ثم في مراحل استخراب (استعمار) العالم.
نهل القوميون العرب من نبع الفكرة الجامعة، ولم يأنفوا الاستفادة من تجارب الآخرين، وجعلوا من فكرة الوحدة وليس الالتقاء على المضمون الوراثي/العنصري/القومي هدفهم. فلم تكن قومية العرب منفصلة عن غيرها من القوميات (الكردية وأشورية والأمازيغية…) التي عاشت في ذات المحيط الجغرافي التاريخي التواصلي التثاقفي الحضاري الواحد بل كانت تفاعلية دهورًا بكل محبة وتفاعل وأريحية. إلا أن بعض التطبيقات تداخل فيها السلطان والهوى ونوازع السياسة وشوفينية الحاكم فجعل من الفكرة السامية ملفوظة تبعًا لممارسات فاسدة كان من المفترض أن تلقى تبعاتها على أصحابها وإبعاد المضمون والمفكرين بتطور فكرهم عن الوصمة السيئة.
اليوم تقوم دول الغرب الأورو-أمريكي ولغرض استمرار هيمنتها (السياسية والعسكرية والاقتصادية والاخطر الفكرية الثقافية..) بالعمل بكل قوة لإبقاء الأمة العربية ، وأمم المشرق الأخرى، وأمم إفريقيا أو ما يسمونه العالم الثالث متفتتة متصارعة لأنهم بذلك يفترضون استمرار رفعة وهيمنة وقوة وسلطة الغرب على العالم.
برزت قبل عدة أعوام نقاشات عميقة لفكرة إنشاء “منتدى القوميين العرب” وكان نقاشًا مثمرًا كان له وليده.
الفكرة جاءت نتيجة صراع وحوارات أخذت بعين الاعتبار نتائج وخلاصات عدد من التجارب الفكرية والسياسية السابقة الفاشلة المرتبطة بالقومية العربية، وبدلًا من النظر في أسباب الاخفاق والفشل لتلك التجارب ونسبها لأصحابها تم تعميم فكرة الفشل لتطال الكل العربي.
تم استغلال انهيار التطبيق للفكرة القومية العربية بالمضامين القديمة، لتصبح الاستخرابية الغربية أداة حفر ونخر للعقل العربي ما أوقعه في أسْر لغات وثقافات الغرب، وارتباطًا بالفهم الاستهلاكي الغربي الذي يصدّر لكل الأمم الأخرى والتي منها العربية حتى في طرائق نظرها وجداول أعمالها (أجنداتها) بل وتفضيلاتها وما تحب وما تكره!.
في نظريات صدام الحضارات يظن الغرب بأفضليته ومركزيته مقابل هوامش الأمم الأخرى كافة! ولتضعف هذه النظريات من قيمة الدين أوالحضارات العربية أو الصينية أو الروسية …الخ لدى الانسان،
في النخر الغربي والاستخراب للعقل يتم تصوير أوربا أو أمريكا أو الغرب عامة أنه القِبلة والأمل والمنى والدنيا والأحلام كما يقول مقطع مغنّى للشاعر عبدالوهاب محمد! فينتحر العربي وغيره بالإتباع الأعمى للغرب بدءًا بتفضيل اللغة الاجنبية وتفضيل كل ثقافته وفنونه المجنونة، وقيمُه المنحدرة ومنتجاته بل والدعاية لها وصولًا الى اعوجاج اللسان من الصغر، ونظرة الاحتقار للحضارة العربية ولغتنا العربية العظيمة، وللحضارة العربية الاسلامية بالمسيحية المشرقية التي أنارت العالم كله ومازالت.
منتدى العرب
إن إنشاء منتدى القوميين العرب أو أي تجمع يعيد للأمة وقيمها الرحبة ولغتها وعوامل التقائها البهاء والتألق والإشعاع والرحابة والوسطية الجامعة التي ميزتها مهمة صعبة في هذا الزمان وهي أصعب حين يكون قادة عدد من دول أمة العرب وأمة المسلمين من المنسحقين تحت ضغط إغراء مظاهر الحضارة الغربية، وهم أيضًا الواقعين في مرض متلازمة الانبهار المرضي بالغرب وتقليده القذة بالقذة! (القذة بالقذة من حديث لسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم).
ولكم فيما ترونه بهذه الدول من الإضعاف المتعمد أو الإهمال للغة العربية وثقافة الأمة وأحترام وتقديم منتجات الأمة الفكرية والثقافية والعلمية والعسكرية والصناعية والتقانية (تكنولوجية) والصحية والزراعية وغيرها ما يجعل من هؤلاء القادة ثم الشعب أسرى بإرادتهم لإملاءات الغرب المهيمن بخنوع المنكسرين داخل الأمة.
لا أعتقد أن منتدى القوميين العرب اليوم يتعامل بخيالية (طوباوية) الفكرة أوبمعنى أفضلية جنس بشري (قومية) على أخرى مطلقًا، وماكان مثل هذا بالقديم ما لم يقل به لا ساطع الحصري ولا ميشيل عفلق (أبومحمد) ولا زكي الأرسوزي ولا صلاح الدين البيطار كما لم يقل به لا جمال عبدالناصر ولا خالد الحسن ولا فاروق قدومي ولا جورج حبش ولا نايف حواتمة أوغيرهم من مفكري الأمة ضمن المسار العروبي المرحاب الذي أريد له في فترة معينة أن يتصارع مع الفكر الإسلامي لتظهر الامة منشقة على بعضها بشكل مشين.
إن منتدى القوميين العرب وفي ذكرى تأسيسه كمنارة فكرية ثقافية تعمل ولربما بالتعاون مع أطر أخرى ليس بمنطق البكاء على عتبة التاريخ، أواسترجاعًا خياليًا فاضيًا لماضي تليد-ولكن يجب إحيائه بحب وتعظيم ونقد وتأسي- وإنما تحاول أن تجعل من عوامل التقارب والتجميع والوحدة لكل الدول الوطنية العربية القائمة اليوم، أهم من عوامل الاختلاف لأنه بتكامل المجموع وليس بتفرّقه يتحقق التقدم والنهضة الشاملة وتصبح الأمة قادرة على أن تأخذ مقعدها في مصاف الدول الكبرى والمؤثرة.
باعتقادي أن لسان حال منتدى القوميين العرب يقول أيَضا أنه يجب أن ينتقل الوضع العربي التكاملي من المفعول به الى الفاعل وعليه يهتم المنتدى بإبراز مآثر وثقافة ولغة الأمة ومنتجاتها وإبداعاتها ونضالاتها في المجالات المختلفة، ولربما يكون العطاء الثقافي الفكري هو الملمح البارز حتى يأتي العرب والأمة العربية أو الامة الإسلامية والأمم الأخرى يوم تجعل فيه من تقاربها وعوامل وحدتها جدارًا ضد هيمنة الآخر، ولتجعل من اختلاف الحضارات وثقافاتها حقيقة الحياة الانسانية العادلة.
نبارك للاخوة في منتدى القوميين العرب ذكرى تأسيسهم كما نبارك لهم مسيرتهم، ونحن معهم ومع أي جهد وحدوي ليس له من هدف الا رفعة الامة وتقدمها ونهضتها.