محمد المحسن
أمد/ تصدير : ثمة تأثير استثنائي يمارسه شهر رمضان من كل سنة على الكتاب العرب،ينسجون معه دوما علاقة روحية قوية قوامها الإبداع وأساسها الابتكار،لأن الجسد في لحظات التشظي، يكون مفعما بالطاقة والصفاء،ما يجعله أكثر تحررا من ماديات الحياة اليومية الرتيبة وعلى استعداد دائم للإبداع والتأمل.(الكاتب)
تمتلئ الحياة في شهر رمضان بتفاصيل نوعية ترتبط بطبيعة الشهر روحيا واجتماعيا،وقد يجد الناس على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم نمطا ونهجا يحدد فيه طقوسه وتقاليده،الا أن رابطا واحدا يجمع كل هؤلاء التاجر والمدرس والطالب والمصرفي والعامل والموظف هو الانصراف الى العبادة الخالصة،فيما المبدع يستلهم من هذه التفاصيل ذاتها مادة لإبداعه،لكنه في كل الحالات يتأثر بهذه التفاصيل والمفردات،حيث يصل الابداع الى ذروته و تكتمل فيه الاعمال الابداعية.
وفي الكثير من المناسبات تتغير الحالة السيكولوجية للفرد تبعاً لنوع المناسبة سواء كانت مفرحة او حزينة..وطنيَّة أم دينيَّة اجتماعيَّة أم اقتصاديَّة..ولهذا فإن المناسبة في الكثير من الأحيان تعد فرصة لتغيير الوضع العام للكثير من الأدباء.ولذا فإن شهر رمضان يعد واحدا من أهم المناسبات التي يتغير فيها (الطبع) النفسي للمبدع.وقد يكون بالنسبة له فرصة لزيادة زخم الكتابة او القراءة او الصمت نهائياً.
وهنا أقول : إنَّ الكتابة الأدبيّة تختلف عن غيرها من الكتابات الاخرى،إذ إن هذا النوع من الكتابة يتطلّب حضور الفكر والعاطفة،إلى جانب الأمور الأخرى من طقوس الكتابة،هذا بالنسبة للكتاب الذين يمارسون طقوسا محددة خاصة بكتاباتهم.ومن المؤكد أن الكتابة تتأثر أحيانا بالإيجاب أو السلب-من حيث نوع وكمية الانتاج الادبي-بتغير الأمكنة والأزمنة،لا سيما اذا كان لبعض الامكنة والأزمنة طقوس خاصة تتسم بأنّها ذات تأثير كبير على الانسان،مثلما يحدث مع شهر رمضان..
إن لهذا الشهر خصوصيته عند المسلمين،وإنّه يحفز على التفكير والتأمل في الكون كله وأحوال الإنسان واحلامه.
وهنا أتساءل : هل بالإمكان أن يتأثر الكاتب بحضور هذا الشهر الكريم من حيث زيادة أو نقص نتاجاته من الكتابة والقراءة؟
وكمحاولة للإجابة أقول : من البديهي أن تكون هذه المسألة نسبية بين الكتاب،فمنهم من يتأثر ايجابيا ويرتب وقته لأعماله وكتاباته،بل يستثمر الطاقة الإيجابية المنبعثة من روحانيَّة هذا الشهر بالكتابة والقراءة،ومنهم من لا يستطيع أن يتفاعل بشكل جيد مع أجواء هذا الشهر، بسبب تأثره بطقوس يلتزم بها أثناء الكتابة،وبما لا يتوافق مع طقوس رمضان فلا يتمكن من تقديم شيء سواء على مستوى القراءة والكتابة.وعلى المستوى الشخصي وفي شهر رمضان بالتحديد بدأت استثمر ساعات الليل في القراءة وكتابة بعض المقالات،وفي الاخرى كاتب ومنجز لمقالات أو دراسات نقدية،فشهر رمضان يمثل لي شهر عطاء وبركة ومنه استمد الطاقة والقدرة على الانتاج،أما ساعات النهار فلا اتمكن فيها من انجاز شيء جدير بالذكر من القراءة أو الكتابة بسبب حالتي الصحية المتدهرة أصلا،لكنني على الرغم من ذلك أبقى منشغل الذهن بالفكرة التي سأضعها على ورقة الكتابة،وكيفية ترتيب المحاور،ومدى قناعتي بما سأقدمه للمتلقي الكريم.
إنّ شهر رمضان من المناسبات التي تتعامل مع المبدع كمنبهات لبعث (الحدس الراقي) الذي يعبر عنه ديبلي بأنّه نوع من الاستدلال يمضي في مستوى اللاشعور.والحدس هنا هو الاستبصار بكمون الفكرة يصاحبه انفعال حتمي يدفع بالفكرة نحو التحقق وفق طبيعة المادة موضوع الاستعمال،وهنا تتوزع المناسبة وفق نوع الانفعال لدى المبدع لا وفق هويتها ورمزيتها،فهناك انفعال سطحي تتمثل فيه الفكرة بكونها نتاجا عقليا وهناك انفعال عميق يكون هو بذاته منبع عدة تصورات لا انه ناتج عن تصور ما،وهذا يعني ان المناسبات تأتي بتصورات جاهزة وبرامج جاهزة والانفعالات الصادة عنها هي انفعالات خاسرة ابداعيا لكونها تمثل تسجيلا لثقل المناسبة..
وعلى هذا الأساس أرى أن الابداع المناسباتي يتشكل من قطبين أحدهما قطب المبدع المتمثل بأربعة مراحل كما حددها والاس وهي الإعداد والتحفيز والبزوغ والاستبصار والتحقيق،وهذا القطب يكون مسؤولا عن جودة وامتياز تحويل المناسبة من تجربة حياتية الى تجربة شعورية وبطبيعة الحال تتفاوت من مبدع الى آخر،والقطب الآخر هو قطب المناسبة ذاته الذي يتنازعه رمزية المناسبة وفهم المناسبة فالرمزية هي حجم التدليل الشعوري الذاتي بينما الفهم هو تمظهرات هذا التدليل كسلوك بين جماعة وأخرى..وأعتقد ان أدب المناسبات هو استجابات لمنبهات تعتمد أساسا على التيقظ الانفعالي وتنظيم هذا الانفعال.انه يخضع المبدع الى عوامل تشكيل الذات والتي هي بنية تأويلية لمرجعياته وموجهات فهمه وفي مناسبة مثل رمضان فإن القضية الإبداعية لا تنفرد وذاتها بل هناك مهيمنات تعمل في أديب ولا تعمل في آخر وفق تدرجات الفهم،فقد يكون منتجا في رمضان ومبدعا لكنه يحجم عن هذا لعلة تتعلق بفهمه.
ختاما أقول،ثمة تأثير استثنائي يمارسه شهر رمضان من كل سنة على الكتاب العرب،ينسجون معه دوما علاقة روحية قوية قوامها الإبداع وأساسها الابتكار،لأن الجسد في لحظات التشظي، يكون مفعما بالطاقة والصفاء،ما يجعله أكثر تحررا من ماديات الحياة اليومية الرتيبة وعلى استعداد دائم للإبداع والتأمل.
وفي الوقت الذي يعتبر فيه بعض الكتاب العرب أن شهر رمضان يمثل بالنسبة لهم شهر راحة وقراءة وسفر في المتون التراثية للفكر الإسلامي في الحقب التاريخية المتعددة،تكون بعض التجارب من جهة أخرى على استعداد للكتابة الجادة،من خلال تأليف كتب في الفكر والتاريخ والأدب والفن،بحكم ما يمنحه هذا الشهر من طقوس التأمل والسكينة والتفرغ،ما يجعل المرء ينسج مع ذاته تواصلا روحيا،ينأى بنفسه عن زعيق الفضاءات العامة وينغمس في روحه، باحثا عن ذاته المفقودة والمنفلتة من قبضة الحياة اليومية في رتابتها.
ويظل نهر الإبداع يتدفّق عبر كل الأزمنة والأمكنة،لأنه-في تقديري-(الإبداع) فرصة للتأمل والتوقف،وفرصة لتعريف مدة من الزمن بطقس واسم وتدريب جسدي.متمنيا أن تتواصل ثقافة التعامل مع الجسد لفترة ما بعد الإفطار،للفترات خارج رمضان،أقصد شهر رمضان وفكرة الصيام هي نمط حياة ربما يجب التعامل معه بروحانية أكثر مما هو عليه حاليا،حتى يصير مثل حبة تمر تتذكر صفاء طعمها داخل روحك فتشعر بالإيمان،من مكان ما خفي..
وما على المبدع إلا أن يتحلى بالصبر والأَناة وعدم الاستعجال،لأنّ تحقيق الإبداع لا يأتي من فراغ ذهني،بل يأتي من مخزون فكري مستنير،وتمر بالإنسان لحظات من الإلهام في الكتابة وإبداع الأفكار،عليه اقتناصها لأنّه قد يفوته تسجيلها وتدوينها ووضع خطّة عملية متكاملة لتنفيذها،هذا في حالة المشاريع البحثيّة الكبيرة،وأمّا العناوين والموضوعات المحددة فتتطلّب جهداً في الكتابة وسلاسة في طرح الأفكار.
ويبقى شهر رمضان-دوما في تقديري-شهر الإلهام والإبداع..وشهر التأمل،الخلق والإبتكار..