أمد/ يحبس أحرار العالم أنفاسهم يضعون أياديهم على قلوبهم: هل يجتاح الهمج الوحوش مدينة رفح آخر قلاع الصمود أمام الهجوم الصهيوأمريكي.. وتزداد التهديدات حدة فيما تقوم أمريكا بتزويد الكيان الصهيوني ب 25 طائرة F35 و 1800 قنبلة زنة كل واحدة 1000 كيلوجرام وسوى ذلك من معدات عسكرية.. ويوميا قصف واغتيالات وصفير الطائرات وأزيز الصواريخ وهدير القنابل يتناوش المدينة المكتظة بمليون ونصف مليون نسمة موقعة ضحايا.. منذ عدة أسابيع يتهدد نتنياهو باجتياح رفح على اعتبار ان هذا هو الذي سيمنح الحرب بالفعل نهايتها المرجوة.
نظرة قياسية:
عندما سقطت غرناطة اتجه منحنانا الحضاري الى الاسفل كما أفاض المفكر الجزائري مالك بن نبي في قراءته لسقوط غرناطة، المسألة لا تقف عند حجم المآسي التي حلت بأهل الاندلس التي تفوق أي وصف فيما سمي بمحاكم التفتيش فذلك عرض للأزمة وليس هو بدايتها، فلقد كان سقوط الاندلس وغرناطة خاتمته عبارة عن وصول القطار الحضاري العربي الاسلامي هناك الى المحطة الاخيرة وذلك لأسباب بارزة وعلى رأسها عدم قدرة النظام السياسي في الاندلس على التطور والتماسك وبغياب الاحساس بالمسؤولية التاريخية تجاه الحضارة وتجاه المجتمع فدبت عناصر الخراب من قبل قيادات المجتمع الاندلسي متمثلة بالعبث واللهو والفساد والانانية وفكانت تلك بذرة الانهيار ولم تغن الالوف المؤلفة لجيوش المسلمين في مواجهة ماهو أقل بكثير من جيوش الصليبيين.. بمعنى واضح ان جيوش الصليبيين لم تكن أكبر من جيوش المسلمين ولم يكن لديها تكنلوجيا اكثر تطورا ولم يكن لهم امكانات مادية اوسع بل على العكس تماما كان لدى الممالك الاندلسية كل الاساب المادية ولكنها فقدت فاعلية المحرك الحضاري واستبدلت قيمها التي كان لها الدور في وجودها الى قيم الانهيار فلم تغن عن الاندلس حدائقها ولا جسورها ولا قناديلها ولا حماماتها ومنشآتها العملاقة بل أصبح كل ذلك غنيمة للصليبيين الذين أمعنوا في الفتك تطهيرا عرقيا وثقافيا بترحيل المسلمين او اجبارهم على تغيير ديانتهم ولغتهم.. كان الانهيار رهيبا والاسوأ ان الأمة مشرقا ومغربا تركت الاندلس لانها في الوقت نفسه كانت قد استسلمت للتشتت والضعف الروحي.. وهنا لن نظلم اهل الاندلس فنتجاوز عن قيامهم بحركات مقاومة من حين الى اخر واستمرار مقاومتهم في محاولات عديدة ولكن كان الامر قد تجاوز محله.. ولولا لطف الله بالمغرب العربي لكان الان قد الحق بالاندلس فكان اللطف الالهي بان تدخل رياس البحر العثمانيون لانقاذ الجزائر وتونس وليبيا من الغزة الصليبي.
لقد كان درسا اليما قاتلا اقتطع من الجسد الاسلامي خلاصة انتاجه الانساني الفذ.. لم تكن الجزيرة تابعة لأي اقليم بل انهمكت هناك خلف البحر تبني للانسانية اجمل حقبها التاريخية مما جعلها تسهم بشكل أساسي في النهضة الغربية الحديثة فكريا وعلميا ولم تتجاوز النهضة الغربية الاسس الفلسفية العربية حيث كان ابن رشد والبيروني هما العماد الاساس لعملية البعث المدني في الغرب .. سقطت ممالكنا وتدهورت حضارتنا ولغتنا وتشتتت اواصرنا وكانت القرون التالية من انهيار الى اخر ومن تشتت الى اسوأ ومن اضمحلال على كل المستويات ولم يستطع الاتراك العثمانيون ان يحملوا راية الحضارة الاسلامية سياسيا او قيميا وان كانوا قد تمكنوا بالسلاح حماية اجزاء كثيرة من ديار الاسلام ولكن قد تم ذلك على حساب عروبة الرسالة التي همشت تماما واستمر التفريط بعناصر حضارتنا جزئا فجزءا..وصولا إلى الانهيار العام مع تكريس دولة التجزئة والتبعية وقيام الكيان الصهيوني..
رفح اخر قلاع الصمود:
بعد 172 يوم من الملحمة ينبغي ان نقترب من تفسير اللحظة ونقترب من التماس قوانين الصمود والقياس .. ولعلنا نجمع على أن هذه الايام الطويلة لم تتكرر عبر المسيرة البشرية من حيث العنف والجرائم والقتل وحجم التدمير لكل شيء فنحن هنا ازاء رؤية عنصرية مزودة بنصوص تصوغ لهم الجريمة كسبيل للعبادة بل هم لايرون في الاخر الا كيانات حيوانية يجوز فعل ما يليق بها من قتل او ابادة لاسيما ان كان هناك هدف استيطاني وهذه الرؤية جاءت انبعثتت في لحظة طور المشروع الاستعماري نفسه الى مايعرف بالنظام الدولي الجديد منذ قرن ونصف تقريبا.. هنا اصبح حملة هذه الرؤية العنصرية في حقيقتهم معبرين عن ارادة دولية عالمية.. وكما كان ابادة سكان الاندلس هدفا للاقليم الاوربي كله ولم تكن الولايات المتحدة قد رأت النور بعد.. لكن الاندلس كانت نتاجنا الحضاري الفذ اما القدس فهي معيننا الروحي الفذ وهكذا تكون عملية السقوط قد تمت سقوطنا الحضاري وسقوطنا الروحي ولكن يجب الانتباه انه رغم هول مأساتنا في الاندلس الا اننا كأمة اغلقنا ملفها منذ قرون رغم ان معظم الاندلسيين استقروا في الاندلس مع تغيير شكل اسمائهم وظاهريا تغيير دينهم.. لم تنصر الامة اهل الاندلس فكانت صفحة تطبع الامة في تلك المرحلة بالهوان وفقدان الاحساس بالرسالة الحضارية الامر الذي تركهم يسلمون الاندلس الرائعة لجهلة مجرمين قتلة ففقدت المسيرة الانسانية بذلك اعظم روافدها الحضارية.. ولكننا هنا في فلسطين ولاسباب روحية صرفة ظلت فلسطين تبعث في الناس العرب والمسلمين بواعث الانطلاق والصمود والمواجهة وهذه نقطة افتراق جوهرية لا يدركها الغزاة المجرمون او انهم في حقيقة الامر عملوا على طمسها وانشاء اوضاع تلغي مفاعيلها الروحية وكان أخطر ما انشأه النظام الدولي الجديد تكريس التجزئة والدولة القطرية من خلال طبقات متغربة مرتبطة به وكانت هذه الدولة أسوأ ما ابتليت به الامة بفرضها الحدود بين العرب والقطيعة بل والحروب الجوارية في معظم الاحيان، ففقدنا اول عناصر قوتنا- الوحدة- لنعود نتشابه بالاندلس في شيخوخته.. ولكن لابد من الانتباه ان الاندلس الرائع كان في أطراف الأمة النائية وظل البحر رغم ضيقه بين الجزيرة والمغرب العربي الا انه يحمل دلالات كثيرة كان الفارق يعبر عنه بزمن طويل فعلى ضفتي البحر وضع حضاري غير متشابه ولا متقارب، فكان ذلك امعانا في عزلة الاندلس وظهر ذلك بجلاء في تفاعل ابن تشفين بالازمة الاندلسية حيث تلاشى حماس جنده ابناء البادية عندما اختلطوا بنعيم الاندلس فكان ان انهارت حماستهم وانخرطوا في لهو الاندلس ومتعه، اما فلسطين والقدس فهي في قلب العرب وعلى واحد من أهم منبعثاتهم الروحية، وكان سقوطها تعبير عن سقوط الامة كلها، ومع تطور المشروع الاستعماري الى صيفته الجديدة ربط النظام الدولي بين فلسطين ماديا بالمنطقة العربية حيث اصبحت قاعدة النظام الدولي-الكيان الصهيوني- مرتبطة موضوعيا وماديا وسياسيا بالدولة القطرية، وصار النظام الدولي بقيادة الحكومات الامريكية يحرك كل ادواته في المنطقة بتوافق وان كانت تلك القاعدة هي الاداة الاكثر حضورا وخطورة بارتباطها بكل المصالح الرأسمالية والاستراتيجية للنظام الدولي المعبر عنه بالاحلاف.
كانت الخديعة تلو الخديعة عبر العمل السياسي المتوالي من قبل وزارات الخارجية الغربية المدعوم بحاملات الطائرات والصواريخ والقنابل العظيمة هي الوسائل المتوالية لتعديل المزاج السياسي في المنطقة وارجاع الاوضاع كلما فلتت من قبضتهم الى حيث يريد النظام الدولي ومصالحه، وكانت خديعة الربيع العربي هي النسخة الاخيرة التي اودت بعواصم عربية استراتيجية عديدة. ومع تحقيق الربيع العربي أهدافه الاساسية في تفكيك الدولة الوطنية القطرية التي لم نكن راضين عنها الى اثنيات عرقية او مذهبية او جهوية.. هذا في الوقت الذي انتهت اليه اتفاقيات اوسلو في صورتها الحقيقية الفخ الاستراتيجي الذي كان عبارة عن المزلاج الذي ينهي القضية الفلسطينية ويوجه لها ضربات عنيفة روحيا وسياسيا وفي ظل وجود رسمي فلسطيني فاقد القدرة على الخروج من الوهم القاتل..
تقدمت القيادة الصهيونية مدعومة من صناع القرار الدولي الى العملية الاخيرة لانهاء فلسطين ارضا وقضية وكانت قد تقدمت خطوات كبيرة على طريق التطبيع والتحالف مع دول الاقليم العربي من الامارات الى المغرب الاقصى.
اننا في خاتمة مرحلة دمروا فيها اخر ما تبقى من قيمة للدولة القطرية فيما الغوا وجود بعضها.. هذا صحيح لكن الذي لم يكن في حسبان النظام الدولي ان التكسير الذي قام به حرر طاقات شعبية سيكون لها الدور الكبير في تحريك الأمة.. وها نحن نراقب تطورات الفعل الجاد في أكثر من مكان من اليمن ولبنان والعراق حيث تم التحام بالفعل الفلسطيني الذي انجز أكبر تحدي للمؤسسة الصهيونية أي الضرب على احبل السري والسحري للنظام الدولي..
ما يتم الان في محيط فلسطين يعني بوضوح أن القضية خرجت عن اطارها القطري وان هناك بوادر مهمة لتشكيل قوى بمستوى شعور الوحدة والنهضة والصمود.. في عمان ولبنان وسورية واليمن وسيأتي الخبر الأكبر عما قريب من عواصم عربية واسلامية عديدة.. وهذا في ظل اسناد انساني واسع أخذ في التمدد والفاعلية في كل عواصم العالم ولاول مرة تنهض النخب السياسية والثقافية وقطاعات واسعة من الطلبة والشبيبة في العالم منحازة بقوة لفلسطين.. وهنا لابد ان نزيح الستار عما يجري داخل الكيان الصهيوني من تفسخ وانهيار معنوي بالغ الاثر وتبعثر ايديولوجي ومصلحي يدفع بالكيان الصهيوني الى الفوضى والتخبط.
لم تسقط غزة لكي نقول ان رفح هي القلعة الاخيرة.. لم تسقط خانيونس رغم كل ما جرى .. نعم ان الدماء والجراح بالغة وان القتل بطريقة صهيونية وحشية وصلت الى حد لايمكن تخيله.. لكن غزة لازالت تقوام وخانيونس توقع في العدو الضربات التي تفقده صوابه وكذلك فان المقاومة تمتد الى كل شبر في فلسطين لاسيما الضفة والقدس.. من هنا نقول ماذا سيكون لرفح من شأن..؟هل ستكون بداية انسحابنا من التاريخ ام انها ستكون عتبة الصعود الحضاري لأمة منهكة لكنها تواقة لمستقبل يخرجها من المأساة؟
هنا سيرتد الهجوم الهمجي .. هنا انتفض الانسان لان المعركة تمسه وجوديا وثقافيا وروحيا.. انتفض الانسان وانتفض بقية الحياء والخجل في النظام الرسمي العربي وينتفض قليل من اللياقة في النظام الدولي الذي يشعر بخسارة فادحة على اكثر من جبهة ليتصدى هذا جميعه لمذبحة يصر نتنياهو وعصابته على القيام بها.. وعند رجوعه عن هذه الجريمة ستكون نهايته ونهاية عصاباته.. ليبدأ الكيان في حصاد ما قام به من جرائم وضعته في خانة المجرمين الكبار..
غرناطة بداية السقوط.. لكن رفح تنبيء عن طريق اخر لعله الصعود والنهوض والانبعاث نحو كل فلسطين، ورغم صعوبة اللحظة وقسوتها الا ان التاريخ انبانا ان هذه هي لحظات التحول الكبير كما اننا موعودون بقران كريم يخبرنا خبر اليقين ان القدس لنا وان النصر لنا واننا منتصرون والله غالب على امره