| د. ماهر الشريف
أمد/ بينما تتواصل حرب الإبادة الجماعية التي تشنها حكومة بنيامين نتنياهو على قطاع غزة، ويطلب هذا الأخير من هيئة أركان جيشه إعداد خطة لإجلاء نحو 1.4 مليون فلسطيني وفلسطينية لجأوا إلى مدينة رفح استعداداً لغزوها، من دون أن يقدم ديوانه أي تفاصيل تتعلق بتاريخ إجلاء هؤلاء الفلسطينيين، ولا بالمكان الذي يعتزم ترحيلهم إليه[1].
يبرز خيار تهجير الغزيين خارج القطاع من جديد بصفته خياراً وارداً، وخصوصاً في ظل رفض القوات الإسرائيلية الحازم السماح بعودة النازحين إلى منازلهم في المناطق الشمالية من القطاع، ولجوئها، منذ شهر آذار/مارس الفائت، إلى أسلوب جديد لإجبار من بقي من السكان في شمال القطاع على مغادرة منازلهم ومراكز إيوائهم، هو أسلوب التجويع وتدمير البنية التحتية الصحية، كما حصل مؤخراً لدى تدمير مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة بصورة وحشية.
من “التهجير القسري” إلى “الهجرة الطوعية”
يشكّل جريمة حرب”[2]، صار الوزراء الإسرائيليون يتحايلون على الأمر ويتحدثون، في الآونة الأخيرة، عن “الهجرة الطوعية” للفلسطينيين في قطاع غزة، وأصبح هذا التمييز سياسة رسمية، إذ تسعى الحكومة الإسرائيلية جاهدة إلى الادعاء بأن الفلسطينيين لا يتعرضون لتطهير عرقي من غزة، بل إنها “سياسة هجرة طوعية”، وذلك في حين يتحدث العديد من وزرائها صراحة “عن نيتهم جعل غزة غير صالحة للعيش بالنسبة لسكانها واستبدال هؤلاء السكان بالمستوطنين الإسرائيليين
أمام ردود الفعل الدولية المحذرة من عواقب خطط تهجير الفلسطينيين قسراً، كما حدث في سنة 1948 على أيدي العصابات الصهيونية، وآخرها ما أعلنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال المكالمة الهاتفية التي أجراها مع بنيامين نتنياهو في 24 آذار/مارس الفائت، مشيراً إلى “معارضته الصارمة” للهجوم الإسرائيلي على رفح، ومحذراً من أن “الترحيل القسري للسكان “.
وبحسب ما ورد، في وسائل إعلام إسرائيلية، قال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو خلال اجتماع لنواب حزب “الليكود” في الكنيست “إنه يعمل على تسهيل الهجرة الطوعية لسكان غزة إلى دول أخرى، لكنه يواجه صعوبة في العثور على دول مستعدة للترحيب بهم”، بينما أعلن وزير الزراعة آفي ديختر: “نحن ننظّم نكبة غزة” بمعنى تهجير سكانها، وقالت وزيرة الاستخبارات جيلا غامليل للصحافيين إن “الهجرة الطوعية هي البرنامج الأفضل والأكثر واقعية الذي سيتم تنفيذه بمجرد انتهاء القتال”، ثم أعلنت، في مؤتمر تم تنظيمه في الكنيست لبحث مستقبل قطاع غزة في فترة ما بعد الحرب، أنه “في نهاية الحرب، ستنهار حكومة حماس، ولن توجد سلطات بلدية، وسيعتمد السكان المدنيون بصورة كاملة على المساعدات الإنسانية، ولن يكون هناك عمل و60 % من الأراضي الزراعية في غزة ستصبح مناطق عازلة بسبب الضرورة الأمنية”. ثم عرضت خريطة للقطاع بعد القتال “تظهر أن السكان الذين سيبقون فيه سيكونون محاصرين، إذ ستقوم إسرائيل بقطع جميع علاقاتها مع غزة وتوسيع المنطقة العازلة لضمان أمنها، كما ستسيطر على ممر فيلادلفيا الذي يمتد على الحدود بين مصر وغزة لمسافة 14 كيلومتراً”، لتخلص إلى أن “مشكلة غزة ليست مشكلتنا فقط، ويتوجب على العالم أن يدعم الهجرة الإنسانية لأنها الحل الوحيد الذي أعرفه”. وكان وزير المالية والوزير في وزارة الحرب بتسلئيل سموتريتش قد صرّح، قبل ذلك، بأن “أكثر من 70 بالمئة من الإسرائيليين يشجعون الهجرة الطوعية” من القطاع، حيث “يستيقظ مليونا شخص كل صباح يريدون تدمير دولة إسرائيل”[3].
خيار التهجير إلى بعض دول القارة السمراء
منذ شهر كانون الثاني/يناير 2024، وردت أنباء تشير إلى قيام الحكومة الإسرائيلية بإجراء مفاوضات مع دول أفريقية لإقناعها باستقبال الفلسطينيين المهجّرين من قطاع غزة، وذلك بعد أن كان وزيرا حزبَي تيار الصهيونية الدينية، بتسلئيل سموتريش وإيتمار بن غفير، قد اقترحا “نقل آلاف السكان الفلسطينيين من غزة إلى الكونغو”. وبحسب مصدر رفيع المستوى في مجلس الوزراء الأمني، فإن ائتلاف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو “يستكشف بهدوء إمكانية إرسال آلاف المهاجرين من غزة إلى رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية”، مضيفاً أن الكونغو”ستكون مستعدة لاستقبال المهاجرين ونحن نجري محادثات مع دول أخرى”.
ويبدو أن الحكومة الإسرائيلية بحثت بالفعل هذا الموضوع مع حكومات الكونغو الديمقراطية، ورواندا وتشاد، ووعدتها بمساعدات مالية وعسكرية مقابل الترحيب بالفلسطينيين في أراضيها، علماً بأن حكومة رواندا كانت قد وافقت، في سنة 2022، على مبادرة حكومتي بوريس جونسون ثم ريشي سوناك، القاضية بنقل المهاجرين غير الشرعيين في المملكة المتحدة إلى أراضيها، وهي مبادرة تعرضت لانتقادات واسعة النطاق ورفضها بالإجماع قضاة المحكمة العليا البريطانية الخمسة. ومن جهة أخرى، كانت إسرائيل قد وضعت سراً، بين سنتَي 2014 و 2017، خطة طرد المهاجرين الأفارقة من أراضيها، وتفاوضت في هذا الشأن مع حكومتَي رواندا وأوغندا لاستقبال طالبي اللجوء الذين قبلوا النقل “الطوعي”، وأظهرت التقارير أن آلاف الأفارقة حصلوا “على وعود بوثائق سفر وأموال وتأشيرات إذا وافقوا على مغادرة إسرائيل إلى دول ثالثة”.
وكان “معهد دراسات الأمن” الأفريقي قد حذر الدول الأفريقية من “أن تفكر في الترحيب بالفلسطينيين المهجرين قسراً”، مقدّراً أنه “إذا كانت إسرائيل تدرس بالفعل هذا الخيار، فلا يمكن للدول الأفريقية أن تتجاهل الآثار القانونية والإنسانية والسياسية المترتبة عليه”، وأضاف: “إن الخطط الرامية إلى إعادة توطين أعداد كبيرة من الفلسطينيين في بلدان بعيدة تفي بمعايير “الطوعية”، في سياق الاحتلال العسكري وبعد أشهر من القصف، غير واقعية بقدر ما هي غير محتملة، ولكن من المثير للقلق أن تواصل إسرائيل هذه المحادثات في محاولة لقياس الرأي العام والاستجابة السياسية”. وعبّر المعهد المذكور عن أمله في “أن تكون محاولة نقل الفلسطينيين قسراً إلى أفريقيا قد قوبلت بردود فعل قوية وتم التراجع عنها”. وفيما بعد نفت حكومات الدول الأفريقية الثلاث إجراء أي مفاوضات مع إسرائيل بشأن استقبال لاجئبن فلسطينيين، ووصفت وزارة الخارجية الرواندية هذه الأنباء بأنها تنطوي على “معلومات مضللة”، كما نفت حكومتا الكونغو وتشاد إجراء محادثات مع إسرائيل بشأن نقل الفلسطينيين من غزة، وقال المتحدث باسم الحكومة الكونغولية باتريك مويايا في بيان “إنه خلافا لما ورد في بعض وسائل الإعلام، لم يكن هناك أي تفاوض أو نقاش أو مبادرة بين كينشاسا ودولة إسرائيل بشأن الاستقبال المزعوم للمهاجرين الفلسطينيين على الأراضي الكونغولية”[4].
شبح التهجير الفلسطيني إلى سيناء يلوح في الأفق من جديد
تعليقاً على الخطة الإسرائيلية باجتياح مدينة رفح، بعد إجلاء النازحين الفلسطينيين منها، صرّح رياض منصور المراقب الفلسطيني الدائم لدى الأمم المتحدة، في مطلع آذار/مارس الفائت، بما يلي: “يقولون إنهم (سكان غزة) لا يسمحون لهم بالذهاب شمالاً، ولا يريدون لهم البقاء في رفح؛ وعليه، ليس من الضروري أن تكون عالماً في الفيزياء النووية لتتوصل إلى استنتاج مفاده أن هناك مكاناً واحداً فقط يمكنهم الذهاب إليه، وهو شبه جزيرة سيناء، فإذا نظرنا عن كثب، سنجد أن إسرائيل تنشر استراتيجية طرد الفلسطينيين من غزة إلى صحراء سيناء المصرية”[5].
والواقع، أن شبح تهجير فلسطينيي القطاع إلى صحراء سيناء ظل يلوح في الأفق، حتى بعد أن تصاعدت التوترات بين القاهرة وتل أبيب منذ الإعلان عن العملية العسكرية الوشيكة في رفح. إذ حذرت مصر “من العواقب الوخيمة للتدخل العسكري الإسرائيلي في رفح”، كما جاء في بيان صحفي صدر عن وزارة الخارجية المصرية في 11 فبراير/شباط 2024، واعتبر أن مهاجمة
رفح “سيكون وسيلة لتطبيق السياسة التي تتمثل في دفع الشعب الفلسطيني إلى النزوح نحو سيناء المصرية”. بيد أن صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية قدّرت أن مساحة المناورة المتاحة للمصريين تظل محدودة: “فلا يمكنهم إلا الاحتجاج وطلب الدعم من واشنطن لمنع هجوم مدمر، قد يدفع مئات الآلاف من سكان غزة إلى محاولة الفرار إلى سيناء”، متوقعة أنه “إذا عبرت موجة من الفلسطينيين الحدود، في أعقاب الهجوم الإسرائيلي، فإن اتفاقيات كامب ديفيد الموقعة في سنة 1979 قد يتم تعليقها”. كما أشارت إلى أن الخبراء لاحظوا تحركات القوات المصرية على الأرض في الآونة الأخيرة، بما في ذلك “إرسال 40 دبابة وعربة مدرعة بالإضافة إلى جنود إلى الحدود مع غزة، مع العلم أن مصر قد أقامت بالفعل جداراً خرسانياً على الحدود، يصل عمقه إلى ستة أمتار تحت الأرض، ويعلوه سياج من الأسلاك”[6].
وفي 16 فبراير الماضي، ذكرت الصحيفة نفسها، نقلاً عن مصادر مصرية لم تحددها، أن الحكومة المصرية “تقوم بتجهيز قطعة أرض مساحتها 20 كيلومتراً مربعاً بالقرب من غزة لإيواء أكثر من 100 ألف شخص تحسباً لهجوم إسرائيلي على مدينة رفح”، وأن هذا المجمع الذي ينبغي أن يستقبل سكان غزة الفارين من الحرب “سيكون محاطاً بجدار كبير”. وقد نفت السلطات المصرية بناء مخيم للاجئين الفلسطينيين في سيناء، وجرى التأكيد على أن موقف القاهرة ثابت بشأن “رفض أي تهجير قسري لسكان غزة”، لأن هذا سيكون بمثابة “نكبة جديدة”. وهو الموقف الذي كرره الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 14 شباط/فبراير الفائت خلال زيارة نظيره التركي رجب طيب أردوغان لمصر، وحذر الرئيسان أيضاً “من أي هجوم إسرائيلي يستهدف رفح”، الملجأ الأخير للفلسطينيين في جنوب قطاع غزة. أما فيليبو غراندي، المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فقد حذر، في مؤتمر ميونيخ للأمن في 16 من الشهر نفسه، من عواقب عبور النازحين الفلسطينيين في رفح الحدود، وقال: “سيكون الأمر كارثياً بالنسبة للفلسطينيين، وخصوصاً أولئك الذين سيضطرون إلى الانتقال مرة أخرى”، مشدّداً على أن “الأمر سيكون كارثياً بالنسبة لمصر من جميع الطرق، والأهم من أي شيء آخر، أن أزمة اللاجئين الجديدة ستعني نهاية عملية السلام المستقبلية”[7].
خاتمة
في المناقشات التي جرت بين بعض وزراء الحكومة الإسرائيلية، وردت أيضاً فكرة التفاوض مع المملكة العربية السعودية حول قبول مئات الآلاف من الغزيين للعمل على أراضيها، ولا سيما أن المملكة تشهد حالياً طفرة هائلة في قطاع البناء وتوظف ما يقرب من نصف مليون عامل يأتون بصورة رئيسية، في الوقت الحالي، من الهند وبنغلاديش ودول أخرى. بيد أن من غير المرجح أن يرغب المسؤولون السعوديون في أن يظهروا وكأنهم يساعدون إسرائيل على تنفيذ التطهير العرقي في قطاع غزة[8].
وهكذا، يظهر أن حكومة الحرب الإسرائيلية مصممة على تهجير سكان قطاع غزة، وذلك بعد أن تجعل القطاع منطقة غير صالحة للحياة، وهو ما فعله، ويفعله، جيشها خلال الحرب التدميرية التي يشنها. إذ هي ترى أن إسرائيل لن تنعم بالأمن والاستقرار على حدودها الجنوبية سوى بإيجاد “حل نهائي” لمعضلة قطاع غزة، وهذا الحل يكمن تحديداً في تهجير سكانه. وتجنباً من ردة فعل دولية على تهجير قسري لهؤلاء السكان، تحايلت الحكومة الإسرائيلية على الأمر بالحديث عن “هجرة طوعية”، وراحت تبحث عن دول مستعدة لاستقبالهم. فهل ستنجح في ذلك، أم أن الغزيين سيصرون على البقاء في أرضهم مهما كلفهم ذلك من تضحيات، وسينجحون في إحباط هذا المخطط الصهيوني الجديد-القديم؟
* باحث ومؤرخ – مؤسسة الدراسات الفلسطينية – بيروت.
التاريخ: 2/4/2024
——————-
شبح التهجير ما زال يخيم على قطاع غزة
| د. ماهر الشريف *
بينما تتواصل حرب الإبادة الجماعية التي تشنها حكومة بنيامين نتنياهو على قطاع غزة، ويطلب هذا الأخير من هيئة أركان جيشه إعداد خطة لإجلاء نحو 1.4 مليون فلسطيني وفلسطينية لجأوا إلى مدينة رفح استعداداً لغزوها، من دون أن يقدم ديوانه أي تفاصيل تتعلق بتاريخ إجلاء هؤلاء الفلسطينيين، ولا بالمكان الذي يعتزم ترحيلهم إليه[1].
يبرز خيار تهجير الغزيين خارج القطاع من جديد بصفته خياراً وارداً، وخصوصاً في ظل رفض القوات الإسرائيلية الحازم السماح بعودة النازحين إلى منازلهم في المناطق الشمالية من القطاع، ولجوئها، منذ شهر آذار/مارس الفائت، إلى أسلوب جديد لإجبار من بقي من السكان في شمال القطاع على مغادرة منازلهم ومراكز إيوائهم، هو أسلوب التجويع وتدمير البنية التحتية الصحية، كما حصل مؤخراً لدى تدمير مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة بصورة وحشية.
من “التهجير القسري” إلى “الهجرة الطوعية”
يشكّل جريمة حرب”[2]، صار الوزراء الإسرائيليون يتحايلون على الأمر ويتحدثون، في الآونة الأخيرة، عن “الهجرة الطوعية” للفلسطينيين في قطاع غزة، وأصبح هذا التمييز سياسة رسمية، إذ تسعى الحكومة الإسرائيلية جاهدة إلى الادعاء بأن الفلسطينيين لا يتعرضون لتطهير عرقي من غزة، بل إنها “سياسة هجرة طوعية”، وذلك في حين يتحدث العديد من وزرائها صراحة “عن نيتهم جعل غزة غير صالحة للعيش بالنسبة لسكانها واستبدال هؤلاء السكان بالمستوطنين الإسرائيليين
أمام ردود الفعل الدولية المحذرة من عواقب خطط تهجير الفلسطينيين قسراً، كما حدث في سنة 1948 على أيدي العصابات الصهيونية، وآخرها ما أعلنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال المكالمة الهاتفية التي أجراها مع بنيامين نتنياهو في 24 آذار/مارس الفائت، مشيراً إلى “معارضته الصارمة” للهجوم الإسرائيلي على رفح، ومحذراً من أن “الترحيل القسري للسكان “.
وبحسب ما ورد، في وسائل إعلام إسرائيلية، قال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو خلال اجتماع لنواب حزب “الليكود” في الكنيست “إنه يعمل على تسهيل الهجرة الطوعية لسكان غزة إلى دول أخرى، لكنه يواجه صعوبة في العثور على دول مستعدة للترحيب بهم”، بينما أعلن وزير الزراعة آفي ديختر: “نحن ننظّم نكبة غزة” بمعنى تهجير سكانها، وقالت وزيرة الاستخبارات جيلا غامليل للصحافيين إن “الهجرة الطوعية هي البرنامج الأفضل والأكثر واقعية الذي سيتم تنفيذه بمجرد انتهاء القتال”، ثم أعلنت، في مؤتمر تم تنظيمه في الكنيست لبحث مستقبل قطاع غزة في فترة ما بعد الحرب، أنه “في نهاية الحرب، ستنهار حكومة حماس، ولن توجد سلطات بلدية، وسيعتمد السكان المدنيون بصورة كاملة على المساعدات الإنسانية، ولن يكون هناك عمل و60 % من الأراضي الزراعية في غزة ستصبح مناطق عازلة بسبب الضرورة الأمنية”. ثم عرضت خريطة للقطاع بعد القتال “تظهر أن السكان الذين سيبقون فيه سيكونون محاصرين، إذ ستقوم إسرائيل بقطع جميع علاقاتها مع غزة وتوسيع المنطقة العازلة لضمان أمنها، كما ستسيطر على ممر فيلادلفيا الذي يمتد على الحدود بين مصر وغزة لمسافة 14 كيلومتراً”، لتخلص إلى أن “مشكلة غزة ليست مشكلتنا فقط، ويتوجب على العالم أن يدعم الهجرة الإنسانية لأنها الحل الوحيد الذي أعرفه”. وكان وزير المالية والوزير في وزارة الحرب بتسلئيل سموتريتش قد صرّح، قبل ذلك، بأن “أكثر من 70 بالمئة من الإسرائيليين يشجعون الهجرة الطوعية” من القطاع، حيث “يستيقظ مليونا شخص كل صباح يريدون تدمير دولة إسرائيل”[3].
خيار التهجير إلى بعض دول القارة السمراء
منذ شهر كانون الثاني/يناير 2024، وردت أنباء تشير إلى قيام الحكومة الإسرائيلية بإجراء مفاوضات مع دول أفريقية لإقناعها باستقبال الفلسطينيين المهجّرين من قطاع غزة، وذلك بعد أن كان وزيرا حزبَي تيار الصهيونية الدينية، بتسلئيل سموتريش وإيتمار بن غفير، قد اقترحا “نقل آلاف السكان الفلسطينيين من غزة إلى الكونغو”. وبحسب مصدر رفيع المستوى في مجلس الوزراء الأمني، فإن ائتلاف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو “يستكشف بهدوء إمكانية إرسال آلاف المهاجرين من غزة إلى رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية”، مضيفاً أن الكونغو”ستكون مستعدة لاستقبال المهاجرين ونحن نجري محادثات مع دول أخرى”.
ويبدو أن الحكومة الإسرائيلية بحثت بالفعل هذا الموضوع مع حكومات الكونغو الديمقراطية، ورواندا وتشاد، ووعدتها بمساعدات مالية وعسكرية مقابل الترحيب بالفلسطينيين في أراضيها، علماً بأن حكومة رواندا كانت قد وافقت، في سنة 2022، على مبادرة حكومتي بوريس جونسون ثم ريشي سوناك، القاضية بنقل المهاجرين غير الشرعيين في المملكة المتحدة إلى أراضيها، وهي مبادرة تعرضت لانتقادات واسعة النطاق ورفضها بالإجماع قضاة المحكمة العليا البريطانية الخمسة. ومن جهة أخرى، كانت إسرائيل قد وضعت سراً، بين سنتَي 2014 و 2017، خطة طرد المهاجرين الأفارقة من أراضيها، وتفاوضت في هذا الشأن مع حكومتَي رواندا وأوغندا لاستقبال طالبي اللجوء الذين قبلوا النقل “الطوعي”، وأظهرت التقارير أن آلاف الأفارقة حصلوا “على وعود بوثائق سفر وأموال وتأشيرات إذا وافقوا على مغادرة إسرائيل إلى دول ثالثة”.
وكان “معهد دراسات الأمن” الأفريقي قد حذر الدول الأفريقية من “أن تفكر في الترحيب بالفلسطينيين المهجرين قسراً”، مقدّراً أنه “إذا كانت إسرائيل تدرس بالفعل هذا الخيار، فلا يمكن للدول الأفريقية أن تتجاهل الآثار القانونية والإنسانية والسياسية المترتبة عليه”، وأضاف: “إن الخطط الرامية إلى إعادة توطين أعداد كبيرة من الفلسطينيين في بلدان بعيدة تفي بمعايير “الطوعية”، في سياق الاحتلال العسكري وبعد أشهر من القصف، غير واقعية بقدر ما هي غير محتملة، ولكن من المثير للقلق أن تواصل إسرائيل هذه المحادثات في محاولة لقياس الرأي العام والاستجابة السياسية”. وعبّر المعهد المذكور عن أمله في “أن تكون محاولة نقل الفلسطينيين قسراً إلى أفريقيا قد قوبلت بردود فعل قوية وتم التراجع عنها”. وفيما بعد نفت حكومات الدول الأفريقية الثلاث إجراء أي مفاوضات مع إسرائيل بشأن استقبال لاجئبن فلسطينيين، ووصفت وزارة الخارجية الرواندية هذه الأنباء بأنها تنطوي على “معلومات مضللة”، كما نفت حكومتا الكونغو وتشاد إجراء محادثات مع إسرائيل بشأن نقل الفلسطينيين من غزة، وقال المتحدث باسم الحكومة الكونغولية باتريك مويايا في بيان “إنه خلافا لما ورد في بعض وسائل الإعلام، لم يكن هناك أي تفاوض أو نقاش أو مبادرة بين كينشاسا ودولة إسرائيل بشأن الاستقبال المزعوم للمهاجرين الفلسطينيين على الأراضي الكونغولية”[4].
شبح التهجير الفلسطيني إلى سيناء يلوح في الأفق من جديد
تعليقاً على الخطة الإسرائيلية باجتياح مدينة رفح، بعد إجلاء النازحين الفلسطينيين منها، صرّح رياض منصور المراقب الفلسطيني الدائم لدى الأمم المتحدة، في مطلع آذار/مارس الفائت، بما يلي: “يقولون إنهم (سكان غزة) لا يسمحون لهم بالذهاب شمالاً، ولا يريدون لهم البقاء في رفح؛ وعليه، ليس من الضروري أن تكون عالماً في الفيزياء النووية لتتوصل إلى استنتاج مفاده أن هناك مكاناً واحداً فقط يمكنهم الذهاب إليه، وهو شبه جزيرة سيناء، فإذا نظرنا عن كثب، سنجد أن إسرائيل تنشر استراتيجية طرد الفلسطينيين من غزة إلى صحراء سيناء المصرية”[5].
والواقع، أن شبح تهجير فلسطينيي القطاع إلى صحراء سيناء ظل يلوح في الأفق، حتى بعد أن تصاعدت التوترات بين القاهرة وتل أبيب منذ الإعلان عن العملية العسكرية الوشيكة في رفح. إذ حذرت مصر “من العواقب الوخيمة للتدخل العسكري الإسرائيلي في رفح”، كما جاء في بيان صحفي صدر عن وزارة الخارجية المصرية في 11 فبراير/شباط 2024، واعتبر أن مهاجمة
رفح “سيكون وسيلة لتطبيق السياسة التي تتمثل في دفع الشعب الفلسطيني إلى النزوح نحو سيناء المصرية”. بيد أن صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية قدّرت أن مساحة المناورة المتاحة للمصريين تظل محدودة: “فلا يمكنهم إلا الاحتجاج وطلب الدعم من واشنطن لمنع هجوم مدمر، قد يدفع مئات الآلاف من سكان غزة إلى محاولة الفرار إلى سيناء”، متوقعة أنه “إذا عبرت موجة من الفلسطينيين الحدود، في أعقاب الهجوم الإسرائيلي، فإن اتفاقيات كامب ديفيد الموقعة في سنة 1979 قد يتم تعليقها”. كما أشارت إلى أن الخبراء لاحظوا تحركات القوات المصرية على الأرض في الآونة الأخيرة، بما في ذلك “إرسال 40 دبابة وعربة مدرعة بالإضافة إلى جنود إلى الحدود مع غزة، مع العلم أن مصر قد أقامت بالفعل جداراً خرسانياً على الحدود، يصل عمقه إلى ستة أمتار تحت الأرض، ويعلوه سياج من الأسلاك”[6].
وفي 16 شباط/فبراير الماضي، ذكرت الصحيفة نفسها، نقلاً عن مصادر مصرية لم تحددها، أن الحكومة المصرية “تقوم بتجهيز قطعة أرض مساحتها 20 كيلومتراً مربعاً بالقرب من غزة لإيواء أكثر من 100 ألف شخص تحسباً لهجوم إسرائيلي على مدينة رفح”، وأن هذا المجمع الذي ينبغي أن يستقبل سكان غزة الفارين من الحرب “سيكون محاطاً بجدار كبير”. وقد نفت السلطات المصرية بناء مخيم للاجئين الفلسطينيين في سيناء، وجرى التأكيد على أن موقف القاهرة ثابت بشأن “رفض أي تهجير قسري لسكان غزة”، لأن هذا سيكون بمثابة “نكبة جديدة”. وهو الموقف الذي كرره الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 14 شباط/فبراير الفائت خلال زيارة نظيره التركي رجب طيب أردوغان لمصر، وحذر الرئيسان أيضاً “من أي هجوم إسرائيلي يستهدف رفح”، الملجأ الأخير للفلسطينيين في جنوب قطاع غزة. أما فيليبو غراندي، المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فقد حذر، في مؤتمر ميونيخ للأمن في 16 من الشهر نفسه، من عواقب عبور النازحين الفلسطينيين في رفح الحدود، وقال: “سيكون الأمر كارثياً بالنسبة للفلسطينيين، وخصوصاً أولئك الذين سيضطرون إلى الانتقال مرة أخرى”، مشدّداً على أن “الأمر سيكون كارثياً بالنسبة لمصر من جميع الطرق، والأهم من أي شيء آخر، أن أزمة اللاجئين الجديدة ستعني نهاية عملية السلام المستقبلية”[7].
خاتمة
في المناقشات التي جرت بين بعض وزراء الحكومة الإسرائيلية، وردت أيضاً فكرة التفاوض مع المملكة العربية السعودية حول قبول مئات الآلاف من الغزيين للعمل على أراضيها، ولا سيما أن المملكة تشهد حالياً طفرة هائلة في قطاع البناء وتوظف ما يقرب من نصف مليون عامل يأتون بصورة رئيسية، في الوقت الحالي، من الهند وبنغلاديش ودول أخرى. بيد أن من غير المرجح أن يرغب المسؤولون السعوديون في أن يظهروا وكأنهم يساعدون إسرائيل على تنفيذ التطهير العرقي في قطاع غزة[8].
وهكذا، يظهر أن حكومة الحرب الإسرائيلية مصممة على تهجير سكان قطاع غزة، وذلك بعد أن تجعل القطاع منطقة غير صالحة للحياة، وهو ما فعله، ويفعله، جيشها خلال الحرب التدميرية التي يشنها. إذ هي ترى أن إسرائيل لن تنعم بالأمن والاستقرار على حدودها الجنوبية سوى بإيجاد “حل نهائي” لمعضلة قطاع غزة، وهذا الحل يكمن تحديداً في تهجير سكانه. وتجنباً من ردة فعل دولية على تهجير قسري لهؤلاء السكان، تحايلت الحكومة الإسرائيلية على الأمر بالحديث عن “هجرة طوعية”، وراحت تبحث عن دول مستعدة لاستقبالهم. فهل ستنجح في ذلك، أم أن الغزيين سيصرون على البقاء في أرضهم مهما كلفهم ذلك من تضحيات، وسينجحون في إحباط هذا المخطط الصهيوني الجديد-القديم؟
* باحث ومؤرخ – مؤسسة الدراسات الفلسطينية – بيروت.