د. أحمد يوسف
أمد/ رغم التاريخ العريق للجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) كوسيط محايد، والممتد لأكثر من قرن من الزمان، إلا أنَّ الاتهامات والشكوك -دائماً- ما تطارد عملها.. ففي عالم سمته الأولى الاستقطاب، فإنَّ “مبدأ الحياد” يبدو غريباً أو ينتمي لزمن آخر، إذ غالباً ما تجد طرفاً من طرفي النزاع لا يرى أنَّ هناك مصلحةً له من تدخلاتها كجهة دولية، محصنةً بالقوانين والتشريعات ذات الصبغة الإنسانية العالمية، وأنَّ طابع تحركاتها ميداني يعتمد على المقابلات والزيارات، وكشف حقائق ما يجري داخل السجون والمعتقلات من تجاوزات وانتهاكات خارج اعتبارات المنظومة القيمية والسلوك الإنساني. لذلك، تتسع دائرة التشكيك والتطير بعمل اللجنة الدولية واتهامها -ولو بغمزٍ خفيِّ- بأنَّ أفرادها يعملون (كمتعاونين) لصالح الطرف الآخر أو في إطار حساباتٍ لجهاتٍ أمنية عالمية أو شيء قريب من مثل هذه الهرطقات.
لقد عرفت الكثير من شخصيات هذه اللجنة الدولية في العديد من الدول التي زُرتها، والتي شهدت نزاعات دولية كأفغانستان، وهنا على أرض فلسطين، وكانت تربطني بالعديد من رجالاتها كمستشار سياسي لرئيس الوزراء علاقات صداقة وجلسات عمل في قضايا تخص جوهر ما تقوم به هذه اللجنة، وكنت أجد ارتياحاً عاماً لنُبل الرسالة التي يحملونها، وطبيعة المهمات التي يقومون بها، وكذلك لحجم المخاطر التي يتعرضون لها، ولمستوى التفاني والإخلاص لهذه المهمة الإنسانية العالمية.
في الحقيقة، تمثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) واحدةً من شواهد الحضور الإنساني الذي يستحق الإشادة والتقدير، وخاصة حين تغيب مظاهر التعامل الإنساني وتختفي في معمعة النزاعات والحروب التي لا تُبقي ولا تذر، حيث تكثر أعداد المحتجزين والأسرى والمفقودين، وتتعاظم مساحات الجراح والألم وأشكال النزوح والتشريد في سياقات ضروس نتيجةً لتلك الصراعات.
لا شكَّ أنَّ طابع اللجنة كواجهة دولية، في عالم ديدنه “الاستقطاب” وسياسة المحاور، هو ما يدعو للشكّ ويبعث على التوجس، وخصوصاً هنا في منطقة الشرق الأوسط، رغم الجهود الإنسانية الكبيرة والانتشار الواسع لعمل اللجنة
ففي المشهد المعاصر لعمل اللجنة في المنطقة العربية، عاد خلال العام في العديد من البلدان العربية والإسلامية.2020 أكثر من 1000 محتجز على صلة بالنزاع اليمني إلى وطنهم على متن إحدى عشرة رحلة جوية، أقلعت من خمس مطارات في اليمن والمملكة العربية السعودية وإليها، بعد أشهر من المفاوضات اضطلعت خلالها اللجنة الدولية بدورها وسيطًا محايدًا، ونظَّمت عمليات إعادة هؤلاء المحتجزين إلى أوطانهم.
ومن الجدير ذكره، أن تحرير الكثير من الأسرى والجرحى والمفقودين في العديد من الدول الأسيوية وفي أمريكا اللاتينية، كان هو أيضاً ثمرة لهذا التواجد الفاعل للجنة الدولية في تلك البلدان، التي تورطت في نزاعات أو حروب ذات طبيعية حدودية أو عرقية.
ويمكن رصد الكثير مما تقوم به اللجنة الدولية بين إسرائيل ودول عربية، مثل: سوريا ولبنان وهنا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث تأخذ أشكال النزاع أبعاداً عنفية وتحدياتٍ عدة.
لقد عملت اللجنة الدولية وسيطًا محايدًا في جميع أنحاء العالم، وكانت طواقمها متواجدة في نحو 160 نزاعًا كانت نشطة في أنحاء العالم ولا تزال.
ورغم أن اللجنة الدولية تأسست في عام 1863 كرد فعل للمعاناة على أرض المعركة، إلا أنها اهتمت في وقت مبكر بوضع الأشخاص المحرومين من حريتهم والمحتجزين لدى طرفيِّ النزاع ونحو ذلك. إنَّ دور اللجنة الدولية للصليب الأحمر كوسيط محايد هي- باختصار- لُب العمل الإنساني.
لجنة الصليب والحرب على غزة
بالرغم من دخول الحرب على قطاع غزة شهرها السابع، إلا أنَّ إسرائيل لم تحترم ما وقَّعت عليه من قوانين وتشريعات تخص عمل اللجنة الدولية، والمتعلقة بحماية المدنيين والبنية التحتية المدنية، وحظر أخذ الرهائن، وحماية البعثة الطبية، وحصول المدنيين على الخدمات الأساسية، وكيفية معاملة الأشخاص قيد الاعتقال والاحتجاز وحقوقهم العائلية، والإدارة الكريمة للجثامين.
نعم؛ نجحت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في القيام ببعض مهماتها الإنسانية، كتزويد المستشفيات أو ما تبقى منها بالأدوية والمعدات الطبية والمياه النقية والكهرباء بألواح الطاقة الشمسية، وكذلك في تسهيل عودة مئات المحتجزين إلى قطاع غزة، ومتابعة البحث مع السلطات الإسرائيلية عن الكثير من المفقودين، إضافة لتقديم العديد من أشكال الدعم المالي والإغاثي والإنساني لألاف النازحين، كما قدَّمت اللجنة الدولية عشرات الأطنان من الإمدادات الطبية للمرافق الصحية المحلية ووزارة الصحة، إضافة لما حظيت به ألاف النساء الحوامل والمرضعات خارج مراكز الإيواء أو المدارس التابعة لوكالة الأونروا بالاهتمام والعناية الصحية الخاصة.
وفي سياق لا يمكن غمطه من الجهود للحفاظ على الكرامة الإنسانية، قامت اللجنة الدولية كذلك بتوزيع ألاف الوحدات من موادّ الطب الشرعي، لتسهيل إدارة كريمة للرفات البشري وتحديد هويته، وإعادته في نهاية المطاف إلى أهله وذويه لإلقاء نظرة الوداع ومواراة جثمانه الثرى.
ومع ذلك، فإنَّ كلُّ ما سبق هو -حقيقة- أقل بكثير مما يتوجب القيام به، نظراً لفظاعة الكارثة وحجم المجزرة، وإن كان السبب في ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى التضييقيات والعراقيل التي تضعها إسرائيل في وجه عمل اللجنة، والتي أشار إليها العديد من ممثلي المؤسسات الأممية العاملة في قطاع غزة.
وفي ظل ما نشاهده من سياسة الإبادة الجماعية والتدمير الممنهج لكلِّ المرافق الحياتية والطبية والخدمية في قطاع غزة، فإنَّ حضور اللجنة الدولية الفاعل يبدو ملحوظاً، إذ قامت اللجنة بالتعاقد مع شركات وجهات محلية لتوفير الكثير من المستلزمات المعيشية، ومنها المياه الصالحة للشرب وتقديم الطعام والبطانيات للألاف من هؤلاء النازحين، كما أنَّ جهودهم في مجال الدعم النفسي للأطفال والنساء لا يمكن تجاهله، وقد تحصَّل مركز الإيواء بـ”مخيم منتزه النخيل” في حي تل السلطان جنوب غرب مدينة رفح ببعضٍ من هذه المساعدات الإغاثية والإنسانية.
وخلال زيارتي للمستشفى الأوروبي، التقيت عدداً من الأطباء الأجانب العاملين فيه، واستمعت منهم -مع ما شاهدته- الكثير حول صعوبة الظروف التي يعملون بها، جراء اكتظاظ المستشفى بالنازحين والمرضى، وما يصل من حالات المصابين بالمئات إلى غرف العمليات يومياً. وقد تمكنت هذه الفرق الطبية التابعة للجنة الدولية -على قلتها- من إجراء أكثر من ألفٍ وخمسمائة عمليةً جراحيةً، كانت حوالي 94% منها تدخلات جراحية عامة، و5% منها جراحة ترميمية، و1% منها جراحة عظام. ومن المعلوم أنَّ أعداد المصابين جرَّاء هذه الحرب قد تجاوزت الـ 73 ألفاً مرشحة للزيادة مع رفض إسرائيل لوقف إطلاق النار.
ختاماً.. نشرت اللجنة الدولية بالصور والحقائق والأرقام ما قامت بعمله خلال شهور الحرب الماضية، في سياق ما يسمح به التكليف الخاص بحقول عملها، وهو جهد إنساني -يستحق الثناء والتقدير- عجزت عن تقديمه دولاً عربية وإسلامية، ما تزال وضعيِّة شعوبها -للأسف- ليس أكثر من متفرجين على مسرحيةٍ من الأدب الصامت، آثر أصحاب الفخامة والمعالي والسمو مشاهدتها من الجناح الخاص بذوي الاحتياجات الخاصة من الصُمِّ والبُكم والعُمي”!!