أمد/
تحضر من الذاكرة محاضرة لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، حفظه الله، ألقاها قبل سنوات في معرض القاهرة الدولي للكتاب، تحدث فيها عن مبادرة وبرامج لتعليم الأطفال الديمقراطية، وقيم الحوار واحترام الاختلاف، وحقوق الإنسان، بحيث يبدأ تعليمها من دور الحضانة والمؤسسة المدرسية، فضلاً عن الأسرة، ومن خلال برامج مبسطة وتزداد كثافتها مع انتقال الطفل من سنة دراسية إلى أخرى.
ولا تتوقف فعالية تعليم الديمقراطية، والتربية على قيم التسامح والحوار على ما يتم في قاعات الدرس فقط، وإنما ترتبط بما يحدث خارجها في بيئة المدرسة والبيت وفي الشارع والمجتمع أيضاً.
وحينما يتعلم الطفل هذه المبادئ بطريقة فعالة وجذابة ومقنعة، نضمن له تربية لا تقبل انتهاك كرامة الآخرين، أو التعصب والتعالي والتنمر.
نعترف لشيخنا الكريم، والمعلم صاحب الروح الإنسانية بالفضل وهو يجترح أفقاً أخضر للناشئين بدءاً من تأسيسه، لأول مرة، تجربة رائدة، على المستويين الخليجي والعربي، لتربية الطفل على قيم الحوار والديمقراطية وفضيلة احترام الاختلاف، وزرع الحس بالمسؤولية الاجتماعية، من خلال إنشاء «برلمان شورى الأطفال» منذ سنوات عديدة، ومنهم من تدرب وتعلم في هذا «البرلمان» وصار شاباً يافعاً، وشخصية بناءة، وعنصراً فاعلاً في مجتمع الإمارات.
وها هي الإمارات، من خلال اختيار الشارقة من قبل المجلس الاقتصادي والاجتماعي العربي لتكون مقراً دائماً للبرلمان العربي للطفل في عام 2018، تحرص على غرس قيم الديمقراطية والحوار والتعاون والمسؤولية والتسامح في شخصية الطفل، باعتباره الاستثمار الناجح لمستقبل الوطن.
إن بيئة المدرسة تربة خصبة لزراعة معاني وقيم أدب الحوار، وأدب الإصغاء، وشجاعة الحرية المسؤولة، وشغف المشاركة والتطوع، والقيم الأخلاقية، يتلقاها الطفل من غير تلقين مباشر، وإنما من خلال تنمية نفسية وسلوكية، وإدراك لها كأسلوب حياة، وليست مجرد نصوص يتلقاها للحفظ والتلقين.
وللمحيط الأسري دور كبير في تنمية ومتابعة سريان هذه القيم التربوية الحضارية في شرايين الطفل وتفكيره وسلوكه، وفي إعداده لمرحلة تالية من عمره وتعليمه في الجامعة.
إن أدوار الأسرة والمدرسة على درجة عالية من الأهمية في تأسيس هذه البنية المعرفية والمسلكية للطفل، والتي من خلالها نستطيع أن ننقش على ذهنه ووعيه ما نشاء من محتوى.
أتذكر قصة قصيرة لكاتب مجهول، تحكي قصة أسرة اعتادت في كل عام اصطحاب طفلها في القطار، لقضاء عطلة الصيف في منزل جده في الريف، وتركه هناك، بينما يعود والداه في اليوم التالي. وفي إحدى السنوات، وعلى غير العادة، وبدون توقع، قال الطفل لوالديه: لقد كبرت الآن… ماذا لو ذهبت وحدي إلى منزل جدي هذا العام؟ وافق والداه، بعد نقاش قصير، وها هما واقفان على رصيف محطة القطار يكرران وصاياهما، والطفل يتأفف، ويهمس: لقد سمعت ذلك منكما كثيراً.
وقبل أن ينطلق القطار، اقترب والده منه، وهمس في أذنه: وهو يمد يده بورقة مطوية ووضعها في جيب الطفل قائلاً: هذه لك، إذا ما شعرت بالخوف أو التعب.
رأى الطفل أمه واقفة تطيل النظر إليه، وتبدو أنها مطمئنة وهي تلوّح بيدها.
جلس الطفل وحيداً في القطار لأول مرة، وعيناه تتطلعان حوله حيناً، ويشاهد المناظر الطبيعية من نافذة القطار، ويسمع ضجة الركاب من حوله، يخرجون ويدخلون.
تعجَّب مراقب القطار من وجود الطفل دون رفقة، ورمقته امرأة عجوز بنظرة حزينة، ارتبك الطفل، وبدأ يشعر بالقلق والخوف، واغرورقت عيناه بالدموع.
تذكر الصبي ما قاله له والده، وأنه وضع ورقة صغيرة مطوية في جيبه، لمثل هذه اللحظة من الخوف، فتح الورقة وقرأ ما فيها: «يا ولدي.. أنا موجود في المقصورة الأخيرة في القطار.. لا تقلق».
…….
نصطحب أولادنا الصغار، في حلنا وترحالنا، لا تغيب عيوننا عنهم، نمنحهم الثقة بأنفسهم، ليصمدوا أمام هبوب الريح.. ونظل موجودين في مكان قريب، كمصدر شعور بالأمان، كلما أطلقنا أجنحتهم في لحظات الفجر الباكر.