سري سمّور
أمد/ تقاسم مناحيم بيغن جائزة نوبل للسلام مع الرئيس المصري أنور السادات في 1978 بعد زيارة السادات للقدس ومن ثم توقيع اتفاقيات كامب ديفيد.
وكان بيغن رئيس وزراء إسرائيل عن حزب الليكود، وماضيه مليء بالجرائم وكان زعيما لمنظمة إرغون-إيتسيل إبان الانتداب البريطاني في فلسطين.
ومن هنا تولّد شعور أو رأي ونظرية تحدّث عنها كثيرون، مفادها أن من يستطيع صناعة (السلام) بين إسرائيل والعرب هم أحزاب وقوى وزعامات اليمين الذي يمثله تكتل الليكود.
تلك حالة خاصة وإن كانت سببا في كل التداعيات التي نراها الآن، ولكن المفاوضات كانت بعد الحرب، لا باستبعاد خيار الحرب، واستجداء السلام، ممن يؤمن بأن القوة هي الكفيلة بإخضاع العرب.
معسكر السلام الموهوم في إسرائيل
وخلقت كامب ديفيد واقعا جديدا في طريقة تعامل النظام العربي الرسمي مع إسرائيل، فالخيار العسكري صار عندهم مستبعدا تماما، وإسرائيل نشطت في المنطقة، وأخذت تمارس أعمالها العدوانية بكل حرية، مثل ضربها مفاعل تموز العراقي، واجتياحها جنوب لبنان ثم اجتياح العاصمة اللبنانية بيروت، وضرب أهداف سورية، وصولا حتى إلى تونس، ونشاطات أخرى للموساد كالاغتيالات.
كان العرب قد توهموا أو أراد النظام العربي الرسمي توزيع وتعميم حالة من الوهم بأن ثمة معسكر سلام في إسرائيل يقوده ضمنا حزب العمل، ومعه مجموعة من الأحزاب المسماة مجازا (يسارية) وفي سبيل تشجيع معسكر السلام الموهوم، علينا تقديم خطاب جديد، يخطب ودّ هذا المعسكر، كي يقبل بنظرية أو أطروحة الأرض مقابل السلام.
وزاد تعلّق العرب بهذا الوهم، بعد تداعيات أزمة الخليج 1990-1991 وذهابهم إلى مدريد مهزومين أو خاضعين لإملاءات واشنطن، وليسمعوا من إسحاق شامير خطابا يطفح بالعنصرية والاستعلاء وتقديم نظرية جديدة هي:السلام مقابل السلام!
كلام معسول لا رصيد له في الواقع
أنا من المدرسة التي لطالما تبنت الخوف من وقوع العرب(ومنهم فلسطينيون) في فخ الكلام المعسول الذي يتفوّه به قادة حزب العمل ومن لفّ لفيفهم، عن السلام والتعايش وبناء مستقبل مشرق لأبناء الشعبين، فيما الواقع أنهم لا يقدمون شيئا خاصة في موضوع الأرض، التي هي لب وجوهر الصراع.
وزادت مخاوفنا وقلقنا من استشعار خطر نظرية بيريز المسطّرة في كتابه(الشرق الأوسط الجديد) وإحساسنا أن إسرائيل عبر الاقتصاد والتقدم التقني تريد تحقيق حلم مملكتها من الفرات إلى النيل، بدل اللجوء إلى القوة العسكرية، وتناسب خوفنا طرديا مع رؤيتنا احتفاء عربيا رسميا طافح بالمبالغة عند لقاء شخصيات من أمثال إسحاق رابين وشمعون بيريز ويوسي بيلين.
وكانت تلك فترة ازدهرت فيها الأحاديث عن السلام بين إسرائيل والفلسطينيين وسائر العرب، وأن رافضي السلام هم مجموعة من المتطرفين من الجانبين، وعلى كل جانب أن يتكفل بقمع وتحجيم ما عنده منهم!
كان ذلك من لحظة فوز رابين وتشكيله حكومة بدل حكومة شامير في 1992 وصولا إلى توقيع اتفاقيات أوسلو(1993) ووادي عربة (1994) وافتتاح مكاتب تمثيل تجاري بين إسرائيل وعدة دول عربية وانتهاء المقاطعة فعليا لإسرائيل، وجرأة الأصوات العربية التي تريد التعامل مع إسرائيل ككيان طبيعي، لا قوة احتلال غاشمة.
شهر العسل انتهى والتطبيع استمر
لم يدم التعايش مع الوهم طويلا، فقد تصاعد التطرف والنزوح نحو اليمين في إسرائيل، ووصل الأمر إلى اغتيال رابين على يد يهودي متطرف في 1995 وصعود الليكود ونتنياهو وفوزهم في الانتخابات وتشكيلهم حكومة في 1996.
لا مجال لسرد كل التفصيلات ولكن إسرائيل منذ تلك الفترة ظلت محكومة من اليمين، عدا 20 شهرا فاز فيها إيهود باراك وهو وإن كان من حزب العمل ولكنه تبنى مواقف متطرفة، واندلعت في زمنه انتفاضة الأقصى.
وكل مرحلة تقود إلى مزيد من الحكومات المتطرفة في إسرائيل؛ وكان يفترض وأد الوهم عربيا، ولكن استمر التطبيع واللقاءات والاتفاقيات والتفاهمات، المعلنة والخفيّة، حتى في ظل أعتى وأشرس حكومات إسرائيل منذ تأسيسها، منذ زمن شارون وصولا إلى زمن نتنياهو الحالي.
بل لم يحصل (معسكر السلام) وحزب العمل على معشار ما حصل عليه اليمين المتطرف من التزلف العربي، والذي تمادى كثيرا، بمحاولة تصفية قضية فلسطين، وتوقيع اتفاقيات أبراهام، وجعل خيار التطبيع والتغزّل العلني بإسرائيل سياسة تتجاوز النخب السياسية إلى طبقات أخرى كالفنانين والأدباء والإعلاميين وغيرهم، في مشهد سوريالي.
أتى أكثر مما خفنا منه
كيف حصل هذا؟وقد تجلّى أن ما خفنا منه كان أخف وطأة من الواقع الحالي، فلم نتصوّر في أشد كوابيسنا، ألا يرتفع صوت عربي رسمي-ولو مزايدة أو شعبوية-في وجه المجازر التي ترتكب في غزة في ظل حكومة إسرائيلية يقودها نتنياهو وبن غفير وسموتريتش وكل منهم لا يخفي أحقاده وعقليته التلمودية…فأي هوان وصلنا إليه، وكيف استطاعت إسرائيل تطبيع العرب، ليس عبر الثعلب الخبيث بيريز صاحب الكلام المعسول؛ بل عبر أكثر طبقة عنصرية فيها، من أصحاب الخطابات الوقحة والعنصرية، والجرائم العلنية؟
العسكرة في إسرائيل
أما نحن الذين عشنا سنوات شبابنا في قلق وخوف من (الكلام الإسرائيلي المعسول) بوصفه حصان طروادة الذي ستدخل إسرائيل عبره عواصم العرب، وإذ بنا نرى إسرائيل تحوز على حالة عربية غارقة في الذل والعجز والتخاذل وأحيانا التواطؤ، وهي(إسرائيل) تقاد بمن كلامهم عن العرب بذيء وعنصري، ويرتكبون المجازر ويفاخرون بها، ولا رغبة عربية بمقاطعة ولو شكلية لهم!
وكان من الخطأ أن نتصور أن تغير إسرائيل سياستها القائمة على الأعمال العسكرية العدوانية، فهي في كل الأزمنة، بما في ذلك زمن بثّها الكلام المعسول والمصافحات والابتسامات مع العرب، كانت تكدّس السلاح الحديث، وتراكم وتضاعف قوة جيشها، وتهدد بها وتتوعد.
فكيف انخدعنا وظننا أنها ستعمل على تحقيق أهدافها بالاقتصاد والتعليم أو أي شيء مدني؟
فإسرائيل من خصائصها استخدام القوة والقتل والتدمير، وهي خاصية لا تتغير مثل كون ثعبان التايبان البري سامّا في أصل تركيبه الفسيولوجي.
وثمة مؤشرات على أن العسكرة صارت طبعا مقبولا ومحبذا في المجتمع الإسرائيلي؛ والتي تعني استخدام القوة القاتلة، حتى حين يكون لديك وسائل سلمية وأقل كلفة!
ومع كل ذلك سيصاب الجيل القادم بالذهول، حين يطلع إلى خطابات قادة إسرائيل في خضم المحرقة في غزة، ويطلع في المقابل على حالة عربية رسمية، ربما لم تكن في تاريخنا لا في جاهلية ولا في إسلام.
ولكن سيشعر بالفخر والعشق وهو يقرأ ويرى ويستمع إلى سجل أمجاد رجال الله في غزة.