محمد المحسن
أمد/ من الواضح أنّ الأزمة التي يعيشها الواقع السياسي العربي ربما كان مردها إلى المفارقة بين فكره وممارسته،فالممارسة السياسية العربية ممارسة ذرائعية تجريبية وعفوية في الأساس،بل إن هذه الممارسة لا تتضافر في بلورة قراراتها إسهامات مختلف القوى الإجتماعية والسياسية وليست محط تداول إجتماعي واسع من طرف النخب السياسية مما يجعل تشريحها وتحليلها والتنظير لها أمرا عسيرا يتطلب معرفة بالتنجيم وعلم الأنواء( !).
كل هذه المعطيات تجعل نشوء وتطور علوم سياسية في الوطن العربي مهمة في غاية الدقة والصعوبة.وذلك بإعتبار أنّ هذه العلوم تتخذ من مختلف الممارسات السياسية موضوعات للتحليل والنقد واستشراف البدائل.
قد تكون السياسة العربية على مستوى بعض الخطابات والدساتير والقوانين والشعارات غنية بالإعترافات بكرامة المواطن وسيادة الشعب على خيراته ومقدراته ومصيره وأنّ الإزدهار مآله،بيد أن الممارسة الفعلية،غير المقننة أحيانا،تسير تماما في اتجاه معاكس.
كل الدساتير العربية تعد بدولة القانون والمؤسسات وتنضح بروح المواطنة وتشيد بحقوق الإنسان.لكن الواقع المعيش يشهد كل يوم على مزيد من الإحباط والتردي والتنكر لكل هذه الشعارات والنصوص.
والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع:
هل يراد للمواطن العربي أن يعيش هذا التمزّق وهذا الوعي الشقي بين فكر وايديولوجيا تغازل أحلامه وتدغدغ مشاعره وممارسة تكرّس بؤسه وتهدر كرامته..؟ !
إذا كان الجواب بالإيجاب،فكل نقد للواقع السياسي العربي-فكرا ومؤسسات-ينبغي أن ينطلق من رصد هذه الظاهرة-أي ظاهرة بؤس الوعي بين الفكر والواقع-وتحليل مضامينها وبيان شروطها ومكوناتها.
ما أريد أن أقول؟
أردت القول: لقد تمّ تشريح واقع -الدول العربية-التي ينتظم إجماع على إخفاقها في التصدي للتحديات الكبرى التي واجههتها،والمتمثلة في صيانة الإستقلال الوطني وتحقيق التنمية الإقتصادية المستقلة وإقرار العدالة الإجتماعية وتدعيم المجتمع المدني..
إنّ هذا العجز،يجعل مستقبل هذه الدول معلقا بين ثلاثة مشاهد تتأرجح بين مزيد من التفتّت والتشرذم،أو الإتجاه في التنسيق والتعاون أو كإحتمال أقصى،تجاوز الحدود التي تمنع الجسم العربي الواحد من الإمتداد والعمل على بناء التقدّم المنشود.
ولا ريب في أنّ أهم مشكلة تواجهها الدول العربية في هذا الوطن العربي الشاسع،منذ الإستقلالات السياسية إلى الآن تكمن في ضعف المشاركة السياسية وتدني مستوى الممارسة الديموقراطية.وينبغي الإقرار بأنّ عمليات حقن المجتمعات العربية بنظم ومؤسسات حديثة(غربية أساسا)لم تؤد إلى تحديث البنيات والعلاقات العامة التي تنظم هذه المجتمعات.فالأطر الدستورية العربية،التي أنبتت في مناخ مشبع بالضغوط الأجنبية والتحديات المتباينة،لم تتطور في إتجاه دعم الكتلة الدستورانية،بل مازال هناك بون شاسع بين مجمل الدساتير العربية والتطبيق التي يتم في ظلها تشكل
يجعل مطلب بناء دولة القانون أكثر حيويه وأكثر أولوية.
والمعاينة هي نفسها نتلمسها في بعض محاولات التحديث التي اكتفت بزرع مؤسسات حديثة بقيت كأعضاء غريبة في جسم يعتمد في سيره وحركيته على آليات وأساليب وممارسات عتيقة.
إنّ مرحلة التردي التي يعيشها الوطن العربي في العقود الأخيرة ليست قدرا عربيا نهائيا.إنها مرحلة قد تطول أو تقصر.وهي مرحلة قد تؤدي إلى ما هو أسوأ منها بكثير،أو إلى ما هو أفضل منها بكثير.ولكن الأهم أن لا نختلف حول حقيقتين هامتين:
أولهما:هو أن الوضع العربي القائم هو وضع مترد للغاية،ولدرجة ربما لم يسبق لها مثيل منذ حصول دوله على استقلالها،أي خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية.
وثانيهما:أنّ هناك فرصا واقعية لتغيير هذا الوضع إلى ما هو أفضل،قبل أن يتحوّل إلى ما هو أسوأ،في المدى المنظور.
إنّ الوعي بهاتين الحقيقتين،والإجماع عليهما-في تقديري-هو شرط ضروري لتغيير الوضع القائم إلى ما هو أفضل،ولكنه شرط غير كاف.إنّ شرط الكفاية هو الإرادة الإنسانية..الإرادة على كل مستوياتها-إرادتنا كأفراد وجماعات،وكتنظيمات وأحزاب ومؤسسات،وكشعوب وحكومات ودول عربية.إنّ الوعي يسبق الإرادة،وهو ضروري لها،ولكنه ليس بديلا عنها.
ومن هنا نستشف المعاني الحقيقية لتلك الأبيات الخالدة لشاعرنا التونسي العظيم أبي القاسم الشابي:إذا الشعب يوما أراد الحياة..فلابد أن يستجيب القدر/ولابد لليل أن ينجلي..ولابد للقيد أن ينكسر..
وإذا كان الوعي من أعمال العقل،وإذا كان العقل يغلب عليه التشاؤم أحيانا،وهو يحلّل ويستقرئ ببرود وحيادية وموضوعية،فإنّ الإرادة يغلب عليها التفاؤل دائما،لأنها تعبئة روحية ووجدانية لإستنفار طاقات البشر للعمل من أجل مستقبل أفضل.
إنّ الوعي بحقيقة تردي الأوضاع العربية القائمة وبمناخ الإحباط العام الناتج عن هذا التردي،لا يبرّر ولا ينبغي أن يقود إلى اليأس.
وهنا أقول:إنّ أجيالا عربية سابقة لم تيأس ولم تستسلم لإختراقات الهيمنة الغربية الإستعمارية،بقدر ما قامت بإستجماع إرادتها واستنفرت إرادة الجماهير حولها،وعبأت وحشدت،وتمردت وناضلت،إلى أن حقّقت الإستقلال في النصف الثاني من القرن المنصرم.
وإذا كانت مسيرة دولنا العربية المستقلة قد انتكست،وإذا كان الإستقلال الفعلي لبعضها قد أستبيح أو أفرغ من محتواه،أو إذا كانت مشكلات بعضها الآخر قد تفاقمت،أو إذا كان بعضها الثالث نفسه مهدد في وجوده وبقائه بعد أن غدا بين-مطرقة التخلف وسندان التكفيريين- !فإنّ مسؤولية-هذا الجيل العربي-في حدها الأدنى،هي وقف هذا التردي ومنع الإنهيار الكامل.ومسؤولية-هذا الجيل-في حدها الأقصى هي أن يسلّم الوطن العربي للأجيال التالية وهو مزدهر،متحد وقوي.
إنّ هذه المسؤولية في حدودها الدنيا أو المتوسطة أو القصوى،ليست مستحيلة،ولا هي فوق طاقة البشر،ولا هي أيضا خارج حدود إمكاناتنا المادية والبشرية المتاحة.
لذلك أختم-هذا المقال المقتضب حول أزمة الواقع السياسي العربي-بتوجيه نداء إلى كل القوى الإجتماعية والسياسية الحية في أمتنا العربية،وخاصة إلى ضمائرها من كافة المشارب الأيديولوجية،لكي تتواصل وتتحاور سيما في ظل-ما يسمى بإشراقات الربيع العربي-،وتصوغ بالتالي مشروعا حضاريا عربيا جديدا،يقطع مع كل مظاهر التخلف والتشرذم والإنحطاط ويؤسس بالتالي لنهضة عربية خلاّقة.
إنني على يقين أنّ طلائع وضمائر هذه الأمة ستضطلع بمسؤوليتها المقدسة من أجل بقاء الأمة،ومن أجل مستقبل أفضل لأنفسهم ولأبنائهم وأحفادهم.فإذا أرادوا…فلابد أن يستجيب القدر.وهذا ما يثبته يوميا الشعب الفلسطيني بمقاومته المشرقة ونضاله الباهر..
وأرجو..أن تصل رسالتي إلى عنوانها الصحيح.