عارف عرفات
أمد/ بمعزل عن الأضرار التي ألحقتها المسيرات والصواريخ الإيرانية في الكيان الصهيوني, فقد أحدثت عملية الرد الإيراني على الكيان موجات إعلامية متلاحقة وتحليلات سياسية متعارضة ومواقف متباينة, كما أحدثت تعاطف شعبي عارم, في مقابل سخرية شعبوية لا ترى في الرد إلا مسرحية سياسية…!! بيد أن جزءاً من هذه المواقف المتباينة تعكس المواقف المسبقة من إيران تأييداً أو كرهاً, فالتموضع في مربعات الجدران المقفلة كان سابقاً على الرد الإيراني, بما يجعل البعض لا يرى طبيعة الرد الإيراني من حيث أهدافه, وسيناريوهاته وتبعاته في المنطقة…
إن الحكم على الرد الإيراني وفاعليته, ناجحاً أو فاشلاً, ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار المعطيات شبه المؤكدة أو النسبية وفق معظم التحليلات السياسية, فالرد الإيراني كان محكوماً بهذه المعطيات السياسية:
المعطى الأول: إن إيران ليس لها مصلحة في اندلاع حرب إقليمية, تكون هي من يوقد نارها, وليست ساعية لها لا مع الكيان, ولا مع الولايات المتحدة, ارتباطاً برؤيتها لطبيعة الجغرافيا السياسية في المنطقة, التي تفرض استحقاقها حين الإقدام على أي عمل ذو طبيعة عسكرية أو أمنية, كما تدرك إيران أن حلفاؤها في ميزان القوة الاستراتيجي في المنطقة محدودي القوة والتأثير على أهمية دورهم, أي أن إيران بالمحصلة ستكون وحدها في ميدان الحرب مع حلفاؤها محدودي القوة, وأن دول المنطقة سيكون موقفهم, إن لم يكن مع الموقف الأمريكي – الإسرائيلي, فهم سيكونون في موقع المحايد أو المنتظر لهزيمة إيران, لذلك كان الرد الإيراني دفاعياً بالدرجة الأولى, ومحسوباً جيداً “فوق الصفر وتحت التوريط” وعلنياً بما يجعل العالم كله أمام استحقاق الرد الإيراني على استهداف سفارتهم في دمشق, وعليه فقد اتسم قرارها بالرد بالجدية والإصرار, انطلاقاً من نفاذ ما تسميه الصبر الاستراتيجي على تطاول الكيان على إيران منذ سنوات…
المعطى الثاني: بالمقابل إن الولايات المتحدة في الوقت الراهن ليست لها مصلحة في اشتعال حرب إقليمية, أو حرب مباشرة على إيران, فمنذ أكثر من عقدين من الزمن وهي ترى أن الحرب على إيران لا تتوفر أسبابها كما ينبغي, بل ترى أن جل اهتمامها, كيف يمكن منع إيران من حصولها على السلاح النووي عبر تقييدها بإطباق الحصار عليها وإبقاءها في حالة إعياء مستمرة, جراء استمرار الحصار, بما قد يؤدي إلى تشكل حراك داخلي شعبي قد يطيح بالنظام الإيراني في وقت ما, أي أن الاستراتيجية الأمريكية اتجاه إيران هي خلق الأزمات داخلها, ومنعها من امتلاك السلاح النووي, وهي تعتقد أن حربها المباشرة على إيران غير مضمونة النتائج, ولا تفضي إلى انتصار أمريكي, بل قد يعزز حالة العداء الأكبر للولايات المتحدة, وطبيعة الحرب على إيران ليست هي ذاتها مع حرب العراق, والولايات المتحدة ليست في حاجة إلى كبير من الذرائع كي تقدم على شن حرب على إيران, وفي أكثر من مكان, لكن حافزها في ذلك هي مصلحتها الاستراتيجية في المنطقة…
لذلك لم تكن أمريكا معنية في ضوء الرد الإيراني بافتعال حرب مع إيران أو توسيعها إقليمياً, بقدر ما كانت واضحة أنها معنية في الدفاع عن الكيان بحدود ما يتعرض له هذا الكيان من هجوم إيراني, وهذا ما تم عملياً في حرب الكيان على غزة, ودورها في وقف المسيرات والصورايخ باتجاه الكيان…
المعطى الثالث: إن الكيان الاسرائيلي هو الطرف الوحيد الذي له مصلحة في الحرب على إيران, أو في اشتعال حرب إقليمية, على أن تكون أمريكا نارها ومعولها وقيادتها, فالكيان يدرك جيداً أنه لا يستطيع أن يفتح أكثر من جبهة عسكرية في المنطقة, وهو الذي لم يستطع حتى اللحظة أن يحسم حربه على غزة, برغم الإبادة الجماعية والتدمير الشامل, والتجويع الممنهج, فما زالت غزة صامدة, لذلك يرى الكيان أن لديه فرصة في ضوء الرد الإيراني لجر الولايات المتحدة إلى الحرب المباشرة, للتغطية على فشله في غزة, وعلى أزمته الداخلية المركبة, والقضاء على ما يسميه بالخطر الوجودي القادم من إيران, و محورها في المنطقة, وضرب مفاعلها النووي لإفقادها سلاحها النووي الذي يناظر السلاح النووي الاسرائيلي…
فهل تقدم “اسرائيل” على ضرب إيران..؟ يبقى ذلك احتمالاً قائماً ولكنه ليس مرجحاً, فمثل هذا القرار يحتاج إلى ضوء أخضر أمريكي كي تتحمل أمريكا مسؤولية تداعي الأمور., وتدخل الحرب مرغمة, في حين أن الولايات المتحدة لم تعطِ حتى الآن هذا الضوء, ولكنها مارست النفاق بكل تجلياته, فهي تعلن أنها (لا تريد تصعيداً أو حرباً وفي ذات الوقت تعلق أنها لن تتردد في الدفاع عن “اسرائيل” وأن قرار الرد الاسرائيلي على إيران هو قرار سيادي داخلي اسرائيلي…!!) ثمة نفاق ورسائل إلى المجتمع الدولي والعرب عموماً والكيان خصوصاً. من هنا فإنه يمكن القول أن يد “اسرائيل” مغلولة وغير مطلقة في الإقدام على الحرب على إيران, بما يجعلها تستعيض عن ذلك بعمليات متفرقة داخل أو خراج إيران بما يعيد الاعتبار لقدراتها وقوتها التي تتآكل بعد أن أصبحت كل حروبها في داخلها وليس خارج ما تسميه الحدود الآمنة…
في ضوء هذه الاستنتاجات الموضوعية ونسبيتها في زمن متحرك, كان الرد الإيراني محسوباً ومدروساً جيداً, وعلنياً, ولم يكن عشوائياً أو ردة فعل تلقائية, إنما جاء الرد بعد أكثر من إثني عشر يوماً من الدراسة والخيارات والاختبارات السياسية والإقليمية, وردود الأفعال والتبعات, وتلافي كوارث مدنية بالأجواء محتملة, وتركيزاً على مواقع عسكرية, وكمية من المسيرات وظيفتها التضليل لوسائل الدفاع, والثابت أن الرد الإيراني كان يكتنفه الكثير من الاستعصاءات والموانع لبعد المسافة بين الكيان وإيران من جهة, والمرور بأجواء عربية بها قواعد أمريكية من جهة أخرى, وباستعداد أمريكي بريطاني فرنسي لمواجهة الرد من جهة ثالثة, بيد أن كل هذه الاستعصاءات لم تضعف حتمية الرد على الكيان, لجهة تحقيق هذف سياسي بمنظور استراتيجي, وتوجيه رسالة بأن إيران لا تقبل اختبار قوتها وعنفوانها, وأن صبرها الاستراتيجي قد نفذ وحان الوقت لتجليات الإدارة الإيرانية أمام المخاطر المباشرة…
وعليه فإن الرد الإيراني لم يكن مسرحية أو تمثيل…أو لحفظ ماء الوجه, بقدر ما هي رد اعتبار لمكانتها السيادية وقوتها, ليس اعتماداً على حلفاؤها من محور المقاومة, إنما من خلال قرارها السيادي وقوتها المباشرة…
أما الحديث عن أن الرد الإيراني كان متفقاً عليه…!! فهذا أمر ينافي المنطق, ولا يمكن الأخذ به موضوعياً, فهناك فرق كبير بين العلم بالشيء, أي إعلام المجتمع الدولي بالرد المحدود وفق القانون الدولي, وبين الاتفاق عليه تفصيلاً, فإن تقبل أمريكا أن تستخدم ثلاثمائة مسيرة وصاروخ ضد الكيان من قبل إيران, وتتحمل مسؤولية إسقاطها مع حلفاؤها, فهذا أمر في غاية السذاجة السياسية, لكن المؤكد أن أمريكا تعرف أن الضربة قائمة ومحدودة بما لا تؤدي إلى حرب شاملة, وهذا أمر لم تخفيه إيران, والكيان الاسرائيلي, لا يقبل أن تمارس عليه مسرحية يفقد فيها قوة الردع العسكرية أو السياسية, ويخسر أكثر من مليار من الدولارات لإسقاط المسيرات, وفضلاً عن هزيمته المعنوية…
من هنا فإن منطق “المسرحية” هو نتاج إعلام سياسي موجه منذ اللحظة الأولى للعملية, يستهدف تبهيت القوة الإيرانية وصدقية إيران في موقفها من الكيان وضعفها أمامه…
إن المحصلة من هذه المعطيان والاستنتاجات, أن إيران لا تريد حرباً إقليمية, وهذا ما أعلنته إيران,( لو أن مجلس الأمن وأمريكا أدانوا الهجوم على سفارتها لاختلف الأمر, ولنأت عن نفسها بالرد) إلا أن الغرب لم يجرؤ على إدانة الجريمة الاسرائيلية كي لا يحاصر الكيان سياسياً ودبلوماسياً…
لا يمكن تقييم الرد الإيراني من حيث ما حققه من أضرار محدودة وآثار داخل الكيان الصهيوني فحسب, إنما الأمر يحتاج إلى الوقوف أمام المغزى الاستراتيجي للرد الإيراني, كونه تحول جيوسياسي واستراتيجي في طبيعة المواجهة مع الكيان, في زمن تتكالب العديد من الدول العربية على الاعتراف والتطبيع مع الكيان, فهذه أول مرة تقدم دولة غير عربية, وتبعد عن الكيان ألفي كم, في الإقدام على ضرب الكيان في عمقه, بما يشي أن تحولات القوة في الإقليم هي عملية مستمرة ومتحركة, بما يجعل الكيان ليس هو القوة الأولى في المنطقة, ولعل حديث وزير الدفاع الاسرائيلي عن أن (اسرائيل عاشت الليلة الماضية إحدى الليالي الأكثر دراماتيكية على الإطلاق) توحي إلى حد كبير معنى الرد الإيراني كتحول في قانون القوة وأثره على الكيان, واستشعاره مرة أخرى للخطر الوجودي القادم ليس من مقاومة عربية فحسب, إنما من دول إقليمية جديدة…